}

الفوتوغرافيا المغربيّة.. هواجس التاريخ وتصدّعات الذاكرة

أشرف الحساني 3 مارس 2022
فوتوغراف الفوتوغرافيا المغربيّة.. هواجس التاريخ وتصدّعات الذاكرة
من أعمال هشام بن أوحود

 

 

تتراجع الفوتوغرافيا المغربيّة يومًا بعد يوم، وتنسحب ببطء إلى الوراء، مُفسحة المجال إلى ما يمكن وصفه بأنه اجترارٍ أدبي أضحت تقوده سطوة الرواية على مَشاغل ويوميّات المؤسّسات المعنيّة بالفعل الفنّي داخل المغرب. إذْ لا غرابة أنْ تُصبح الفوتوغرافيا منسيّة وتحتكم بعض صُوَرها وتمظهراتها الفنّية إلى أيادٍ غربيّة، تُشرف على تنظيم بعض المهرجانات والمُلتقيات والتظاهرات المعنيّة بالتصوير الفوتوغرافي. رغم أنّ هذه الطريقة تفرض وسيلة في المُعاينة ونظرًا في الاختيار، يرتبطان بعلاقة التجارب الفوتوغرافية المعروضة بالمؤسّسة المُنظّمة. لكنْ ما يزيد من سُلطة هذا الغياب، هو تواضع بعض العلمية الخاصّة بتدريس فنون الصورة ومُتخيّلها في المغرب عمومًا، وعدم قُدرتها على إنتاج أجيال فنّية تهتم بالصناعة الفوتوغرافية تنظيرًا وتخييلًا. بهذه الطريقة تظلّ الثقافة المغربيّة، لا تعمل سوى على مُمارسة التقليد للفنون البصريّة، بحيث لا تجد مرجعياتها، إلًا في العداء التاريخيّ الذي خصّت به الثقافة العربيّة مفهوم "التصوير" إبان العصر الوسيط. لكنّ هذا المنع الذي طال الصورة في مراحل مُتقدّمة من سيرورتها التاريخيّة ما يزال نفسه اليوم، لكنْ بصيغة أخرى من الإنكار. إذْ لم تستطع الثقافة المغربيّة منذ السبعينيات بلورة مشروع فنّي بصري مُتكامل يقوى على مُجابهة الخطاب المَكتوب، شعرًا وقصّة ورواية، بما يجعله خطابًا فكريًا غنيًا، ينتج سيلًا من الأشكال والرموز والمفاهيم. سيما وأنّ الصورة تحبل دومًا بقُدراتٍ هائلةٍ على إنتاج المعنى وصلابةٍ مُتماسكةٍ في اجتراح أفقٍ فكري، انطلاقًا من سند الصورة ومكبوثها الفنّي.

وإذا كانت السينما تحظى بأهميّة بالغةٍ داخل أجندات المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة، فإنّ الفوتوغرافيا، تغدو ضربًا من اللامفكّر فيه، بحيث لا يوجد مهرجان رسميّ يعنى بالفوتوغرافيا كما هي الحال بالنسبة للسينما، ولا وجود أيضًا لمجلّة رسميّة أو خاصّة تكشُف للقارئ المغربي التجارب الفوتوغرافية، التي يحبل بها المَشهد الفنّي المغربي. إذْ رغم التراكمات الفنّية التي خلقها بعض الفوتوغرافيين وقُدرتهم على اختراق الكارطوغرافية العربيّة، ما تزال هذه التجارب، لا تحظى نقديًا بما تستحقّه من مُعاينةٍ فنّية وعنايةٍ جماليّة تُشرّح أفقها البصريّ وتعمل على ربط سُوَرها بالتحوّلات الفكريّة والإبدالات المفاهيميّة، التي طالت الكتابة التاريخيّة المعاصرة.

والحقيقة إنّ تجارب فوتوغرافية من قبيل: ليلى العلوي وحسن حجّاج وهشام بن أوحود قادرة على أنْ تُحرك مناطق يبابٍ في الفكر العربي، بحكم تشابكها مع قضايا تتّصل بالجسد والتاريخ والذاكرة والواقع والهويّة. إلاّ أنّ الارتباك الذي يعيشه النقد الفنّي، يجعل هذا الأفق البصريّ مُغيّبًا من الكتابة النقدية، لأنّها لم تُحقّق تراكمًا في الموضوع، وحتّى بعض النماذج النقدية المُتوفّرة على قلّتها وندرتها، لم تعمل على بلورة مشروعٍ نقدي يعنى بالفوتوغرافيا، وإنّما فقط مقالات منشورة هنا وهناك، يُعاد تدبيجها وتثمينها ونشرها في كتب. أمّا المجلّات الفنّية فلا تتوفّر على موادٍ فوتوغرافية من شأنها أنْ تُعيد طرح سؤال هذا الفنّ اليوميّ في زمن "السيلفي"، بما يمتلكه من خصوصية فنّية وطابع فكري. لكنّ المجلاّت الفنّية تبقَى رهينة الأغنية الكلاسيكية وبعض الأفلام السينمائية القديمة والمَعارض التشكيلية المُتناثرة على طول جغرافية البلد. لذلك فإنّ عدم الاهتمام بالفوتوغرافيا المغربيّة تخييلًا وتوثيقًا، أمرٌ يدعو إلى القلق وإلى مزيد من الاهتمام بهذا الفنّ وتمظهراته البصريّة وآفاقه التخييلية اللامحدودة، إذْ رغم ثبات الصورة الفوتوغرافية، فإنّها تظلّ قادرة على تحوير الذات وجعلها تنزع صوب التفكير، بوصفها فنًا تأريخيًا يُرمّم حدود الصمت ويوقظ في التاريخ ومسالكه فتنة الحكي.

لا أعتقد بوجود دراسة تاريخيّة رصينةٍ ومُكثّفة داخل المغرب، عملت على اجتراح مشروعٍ تاريخيّ، يجد في الفوتوغرافيا المغربيّة سنده المرجعي وفي مُتخيّلها الفكري طاقة هائلةٍ للتفكير وطرح أسئلة تتعلّق بمفهوميّ التاريخ والذاكرة. لكنّ البحث التاريخي في المغرب يظلّ مشغولًا بقضايا ماضويّة، لم يعُد أحد في حاجةٍ إليها، لأنّها استنفدت مادّتها على مُستوى الطرح والكتابة والمُناقشة. فما الذي سيستفيد منه المغربي اليوم في قراءة مؤلّفات تتعلّق بالاستقلال والحركة الوطنية والمقاومة المسلّحة والفكر السلفي؟ كما أنّ أغلب وثائقها مُتاحة للعموم وتُوفّرها المؤسّسات الرسميّة بترحابٍ كبير.

ليلى العلوي وأحد أعمالها



كل هذا مقابل عشراتٍ من الصور الفوتوغرافية المنسيّة داخل أرشيفاتٍ فرنسيّة وإسبانية وأميركيّة تتعلقّ بالتاريخ المغربي المعاصر. فهذه الصُوَر تحتاج إلى مزيد من الحفر والتفكير في خصوصياتها الفنّية والجماليّة والفكريّة، وما يُمكن أنْ تلعبه من دورٍ في كتابة تاريخٍ مغربيّ مُتحرّر من الأساطير والحكايات الرسميّة. بحكم أنّ الصورة لا تلهث وراء التاريخ الرسميّ، وإنّما تعمل جاهدة للقبض على المنسيّ والعَابر في تاريخ الواقع وتصدّعاته اليوميّة. إلاّ أنّ تراجع الكتابة التاريخيّة وتزايد الهوة بينها وبين فنون الصورة في عملية تحقيق عناقٍ منهجيّ، ساهم ضمنيًا في تغريب الفوتوغرافيا الحديثة داخل البحث التاريخيّ. مقارنة بالعديد من الدراسات الغربيّة، التي صدرت في الموضوع وعملت على تشريح هذه العلاقة تاريخيًا. لقد بدا المُؤرّخ المغربي منذ ثمانينيات القرن الماضي، أنّه قد استوعب درس الحوليات مع لوسيان فيبر ومارك بلوك والتاريخ الجديد مع فرناند بروديل، إلاّ أنّ هذا الفهم ظلّ يقتصر على فعل القراءة الوجدانية ويحوم حول مفاهيم وآراء التاريخ الجديد، دون أنْ يٌفكّر في بلورة هذه المُقاربات الجديدة في كتابة التاريخ من خلال الانفتاح على الصورة الفوتوغرافية ومُتخيّلها.

لذلك لا غرابة أنْ يعتبر بعض الباحثين في التاريخ وطلبتهم أنّ الفوتوغرافيا تنتمي إلى شعبة الأدب أكثر من التاريخ. فهذا النظر الأعمى عمّمه الأوائل ونظرتهم الضيّقة لمفهوم التاريخ خلافًا لما بلورته المدرسة الفرنسيّة الجديدة ونسج المُؤرّخ الفرنسيّ مارك فيرو على منواله مُؤلّفاتٍ قيّمة تُشرّح أفق العلاقة بين الصورة السينمائية والكتابة التاريخيّة.

ليس هناك ما يدعو إلى المفاجأة، ما دامت المختبرات العلمية قابعةٍ في التكرار، تُعيد نسج المُكرّر المعرفي الذي لا يُعوّل عليه، مُمارسة كل أشكال التنكيل بقضايا الصورة ومكبوتها الرمزيّ. فلا غرابة أنْ نجد مؤرّخًا كبيرًا في حجم عبد الله العروي، يُقزّم في كتابه "الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة" (1967) من أمر الثقافة الشعبيّة وفنونها ويعتبرها خارجة عن مَسار التاريخ، وكأنّ هذه المُمارسات الشعبيّة التي تنشأ في الهوامش خارجة عن المجتمعات الرسميّة، وبالتالي غير معنيّة بالإقامة في تخوم هذا التاريخ.

ويبقَى المُشكل الكبير، أنّه بالرغم من آلاف المؤلّفات التي صدرت منذ حصول المغرب على استقلاله عام 1956 يعتبر بعض المُؤرّخين أنّ تاريخ المغرب لم يُكتب بعد. مع أنّهم يُعيدون كتابة نفس التاريخ من خلال نفس المراجع والوثائق. لكنّهم لم يُفكّروا يومًا بقوّة في الفوتوغرافيا الحديثة وما يُمكنها أنْ تفتحه للبحث التاريخي المغربي، أمام انحسار الوثائق وغيابها أو صعوبة العثور عليها داخل أرشيفاتٍ أجنبية، قد تتطلّب حياة مديدة لإتقان لغاتها بغية تفكيك ميكانيزماتها وما تهجس به من قضايا وأحداث.

من أعمال حسن حجاج 



منذ أواسط الثمانينيات دخل التاريخ في بنية التحوّل التكنولوجي الذي شهدته الثقافة العربيّة، إذْ إنّ هذه الطفرة على مُستوى الوسائط التقنية، جعلت التاريخ نفسه يتأثر بها، وأصبحت تطرح أكثر من سؤالٍ منهجيّ في علاقتها معه، خاصّة على مُستوى إعادة التفكير في مفهوم "الوثيقة" التقليدية، أمام ظهور وثائق أيقونية تُحتّم عليه استخدامها وجعلها سندًا منهجيًا لكتابة تاريخٍ جديدٍ.

غير أنّ ضعف النقد الفنّي نفسه وعدم استطاعته تحقيق تراكمٍ نقدي، يكون بمثابة قاعدة معرفية للكتابة التاريخيّة، جعل هذه الوثائق البصريّة تبقَى مُغيّبة، لأنّها تفرض على الباحث طريقة جديدة في النظر وقُدرة هائلةٍ على تحليل الصورة وتدرّجاتها وأنماطها، ما يجعل أمر الكتابة أمرًا صعبًا في غياب القدرة على تحليل الصُوَر. ورغم ظهور بعض الترجمات الغربيّة تتعلّق بفكر الصورة عمومًا لـ: ريجيس دوبريه وجاك أومون وميشيل مافيزولي وجيل دولوز وميرلوبونتي ومارك فيرو ونتالي إينيك، ورغم انشغال بعض المُفكّرين والباحثين العرب على قضايا الصورة كـ: عبد الكبير الخطيبي وموليم العروسي وشربل داغر ومحمّد نور الدين أفاية وشاكر لعيبي وفريد الزاهي، ما يزال الباحث في التاريخ المغربيّ، لا يُميّز بين أنواع الصُوَر الفنّية وتقنياتها وهواجسها المنهجية وإمكاناتها الفكريّة في التأريخ، فبالأحرى أنْ يتجرأ على اجتراح مشروع فكري يهجس بالتاريخ ويُرمّم أحوال الذاكرة المغربيّة وتصدّعاتها خلال الحقبة الحديثة منها والمعاصرة.

لم يعُد التاريخ هو ما تتداوله المُؤسّسات وتنقله المُقرّرات ويُكرّسه مُؤرخو البلاطات السُلطانية، وإنّما أيضًا ما تستشعره الصورة الفوتوغرافية وتبسطه بتلقائيةٍ عينُ المُصوّر ويُحاكيه المُؤرّخ بمناهجه الحديثة وتطلّعه الدائم للثورة على الوثائق التقليدية من مسكوكاتٍ وأدبٍ تاريخيّ أو مُعاهداتٍ دبلوماسية أو رسائل سلطانية. ولعل في التجربة الفوتوغرافية المغربيّة للراحلة ليلى علوي، ما يستحق النّظر والتأويل والتفكير في خصوصيات الفوتوغرافيا المغربيّة المعاصرة وترسّبات التاريخ على الجسد، وقُدرة هذا الصرح الفوتوغرافي على أنْ يكون أفقًا فكريًا لمفهوم الواقع نفسه. أليست الكتابة التاريخيّة في نهاية الأمر تأريخًا للواقع؟

لكنْ ما يجب الانتباه إليه بالنسبة للمُؤرّخ الفنّي، الذي يتعامل مع الأحداث لا الوقائع، أنّ الفوتوغرافيا المعاصرة، تظلّ تهجس بالتجريب أكثر منه بالتأريخ، فهي تهتم بسؤال الفكر أكثر من التاريخ. من ثمّ، فإنّ المُؤرّخ المعنيّ بأعمال ليلى علوي أو هشام بن أوحود، قد يجد صعوبة بالغة في تأسيس خطابٍ تاريخيّ للصورة، ذلك أنّ الهاجس الفنّي يبقَى غالبًا على نمط ابتداع الصورة. كما أنّ تدخّل بعض المُؤثّرات البصريّة البرانية، يجعل صدقيّتها تقلّ بالنسبة للمُؤرّخ، غير أنّها تزيد وعيًا ومتانة عند المُفكّر المُنغمس في استشكال تصدّعاته الواقع وعلاقته بمفهوم الذاكرة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.