}

بشير يلّس.. ذاكرة التشكيل الجزائري

أشرف الحساني 9 سبتمبر 2022
تشكيل بشير يلّس.. ذاكرة التشكيل الجزائري
(بشير يلّس)

 

 

مات الفنّان التشكيلي الجزائري بشير يلّس (1921-2022) وانتهى معه مسارٌ تحديثي راكم فيه الفنّان تجربة ثرّة وأعمالًا تشكيليّة مُميّزة، باعتباره رائدًا من روّاد اللوحة المسندية في الجزائر وعمودًا من الأعمدة التي ينبني ويُشيّد عليها الفعل الفنّي المَغاربيّ، بحكم تجذّره في الفضاء الجزائري، وقُدرته منذ استقلال بلده عام 1962 على مُعانقة اللوحة المسندية، بكلّ ما كانت تطرحه من أسئلة الحداثة والتّجديد والمُعاصرة والهويّة، فوجد الراحل نفسه مُنغمسًا في الجدل الفنّي الذي كانت تعرفه الساحة العربيّة، بين طلائع الحداثة البصريّة ونظيرتها التقليدية، التي كانت أكثر تعلّقًا بخصائص ومُميّزات الفنّ الحديث، خاصّة عند التجارب التشكيليّة، التي وجدت نفسها في مُنتصف القرن الـ 20 تُعيد نسخ صُوَر ونماذج من الفنّ الإسلامي على جسد اللوحة، كنوعٍ من الهويّة البصريّة أو تكرارٍ أعمى، لا يقود اللوحة إلى تفجير مَكنوناتها ومُعانقتها ليوميات الإنسان المَغاربيّ في فرحه ونشوته وبؤسه وجُرحه الذي لم يندمل بعد منذ الفترة الكولونياليّة. لقد بدت لوحات بشير يلّس في ذلك الإبان، وكأنّها ترفض الانغماس في أنطولوجيا التاريخ، لكنّها تشتغل عليه، باعتباره ذاكرة مُنسابة في لاوعي الفنّان، حيث يعمل على توليفها وتطويعها بصريًا، بطريقة تجعل فعل الذاكرة، يبدأ من جسده ويتوغّل أكثر في مسام الواقع وينتقل بشكلٍ أكبر، صوب فضاءات التاريخ البصريّ الجزائري.

ويُعدّ بشير يلّس آخر العناقيد الذهبية في تاريخ التشكيل الجزائري، بعدما تمّ الاحتفاء به قبل شهورٍ قليلةٍ بالمتحف الوطني للفنّ الحديث والمعاصر بالجزائر، نظرًا للدور المركزيّ الذي لعبه لا كفنّان فقط، ولكنْ كمُدرّس للفنّ التشكيلي، بصفته مُديرًا للمدرسة الوطنية للفنون الجميلة والهندسة مباشرة بعد الاستقلال، حيث برز اسمه كواحدٍ من صنّاع حركةٍ تشكيليّة جزائريةٍ جديدة، لا تنفي في اشتغالاتها نماذج وصُوَر الفنّ الغربيّ على مُستوى الشكل، لكنّها تُحافظ بشغفٍ مُذهل على الموروث الثقافي الجزائري وإعادة الاشتغال عليه تشكيليًا، ما يُفسّر سيطرة براديغم التراث على المُمارسة التشكيليّة الجزائرية، كما هي الحال لنظيرتها الغربيّة وما شهدته مع جماعة الدار البيضاء (65) من تجديدٍ للموضوعات والأشكال والقوالب. لكنْ داخل هذه الحركة الفنّية الواعدة، برزت أعمال يلّس، كأحد صنّاع الحداثة الفنّية، ليس في التشكيل فقط، ولكنْ في فنّ العمارة أيضًا، حيث عمل، ابتداءً من مرحلة الستينيات، على المُشاركة في تشييد بعض المباني من وجهة نظره كفنّان تشكيليّ مُجدّد لكلّ ما هو بصريّ على سطح الصرح المعماريّ.

بشير يلّس في مرسمه



ولد بشير يلّس في مدينة تلمسان بالجزائر. حظي في طفولته بتعليمٍ رصين بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، قبل أنْ يُفكّر في الهجرة، صوب باريس لمُتابعة دراسته في الفنّ التشكيليّ لمدّة 3 سنوات ويُقيم هناك أوّل معرضٍ فنّي له، اشتغل فيه على نفسٍ مونوغرافي بصريّ، استعاد فيه مدينة تلمسان وناسها ومعمارها وتراثها الثقافي داخل اللوحة المسندية بألوانٍ انطباعية خافتة. وهذا الأمر نفسه، سيتكرّر لأكثر من 70 سنة لاحقة، ظلّ فيها يلّس قريبًا من البيئة الجزائرية، لكنّه لم يُكلّف نفسه عناء رصد التحوّلات الاجتماعية أو السياسيّة، التي طالت الواقع الجزائريّ في لحظاتٍ جريحةٍ من مساره التحديثي، بل بقي مُلتصقًا لأكثر من 100 سنة في حياته بذاته وذاكرته الطفولية، كأنّه يبحث عن خلاصٍ روحيّ لجسده، انطلاقًا من سفره البصريّ، تجاه هذه الذاكرة الرمزيّة، بكلّ ما تُضمره من معانٍ وأحداث وواقع وأحلام، ما يزال هسيسها يجري في جسده. إنّ الطفولة بالنسبة للفنّان ليست مرحلة من مراحل نموّ الكائن، بل هي خزانٌ من الصُوَر والمَشاهد والمحكيات التي يُعيد نسجها وحياكتها بأسلوبٍ انطباع، يترك المُشاهد مُنبهرًا من سحر اللون وبرودته على جسد اللوحة. فهذا الاشتغال البسيط باللون ورسم ملامح بعض الأجساد الهَاربة والمُنفلتة من سُلطة الكادر تُعطي للوحة عُمقًا فكريًا وزخمًا جماليًا من تناسل الصُوَر والذكريات، فيترك ذلك انطباعًا لأيّ مُشاهدٍ عن الاحتفاء باللحظة التاريخيّة وضوئها الهَارب. أمّا بعض اللوحات الأخرى، فقد انتهج الفنّان أسلوبًا واقعيًا، لا يُبرز فيه ملامح شخصياته، لكنّ الأجساد، تظلّ واضحة المَعالم والرؤى وقادرة على دفع المُشاهد إلى التخييل بنفسه عن بعض طقوس وعادات الاجتماع الجزائري في الأحياء والمقاهي والأعراس وغيرها.

وفي الوقت الذي نعثر فيه على تجربة ابن موطنه محمّد خدة (1930-1991) على الهويّة البصريّة العربيّة وفتنة العلامة ومَجهولها، نجد بشير يلّس، وقد أعاد الاعتبار إلى التراث الثقافي الجزائريّ ككلّ، لكنْ من خلال عنصر الذاكرة الشخصية، بما يجعلها مُختبرًا يقوم على تخييل الصُوَر والمَشاهد. فالذاكرة بالنسبة له، من الضروري أنْ تمُرّ صُوَرها عبر جسده حتّى ترتكز على عملية التخييل، فتُصبح الذاكرة، ليس ما تقادم وتعتّق في جرار الزمن، بل ما غدا مُترسّبًا في بنية اللاوعي، فتُعيد المُخيّلة تدويره وجعله يمتطي جماليًا سيرة اللامرئي.

من أعمال بشير يلّس 



لم ينتبه الإعلام الفنّي في العالم العربيّ لرحيل بشير يلّس، في وقتٍ شغلت فيه لوحاته الساحة التشكيليّة العربيّة منذ نهاية الستينيات، وعملت على اجتراح أشكال وقوالب ومواضعات كانت صعبة في الفنّ التشكيليّ، كما خلقت بذلك جدلًا واسعًا بين الأصالة والمعاصرة، بين الانغلاق على الذات المُبدعة والتحرّر من شرنقتها. وقد بدا الأمر عاديًا بالنسبة لإعلامٍ فنّي مُرتبك، لا يعترف ولا يُتابع سير التشكيليين العرب ويُرافقهم في قلق الإبداع ويزور محترفاتهم وينسج معهم صداقاتٍ قويّة مبنية على حرقة الأسئلة وفتنة الأجوبة، خاصّة حينما يتعلّق الأمر بفنّان مثل بشير يلس، بحكم ما تطرحه أعماله على الساحة العربيّة اليوم من جرأة في تمثيل الواقع واستيعاب التاريخ الثقافي الجزائري وتطويعه على جسد اللوحة المسندية، بوصفه جُرحًا غائرًا وحاضرًا لا ينقضي. وفي هذا الأمر، ما يستحقّ التفكير في مفهوم الزمن عند يلّس واللّعب بأوتاره والعزف على وترٍ مخصوصٍ تُقيم صُوَره بين الواقع والخيال.

يحرص يلّس على إضفاء نوعٍ من التقشّف على أعماله، طالما أنّ لوحاته مَفتوحة على هواجس الذات ومتاهات الذاكرة. فهو لم يستهوه الواقع الفجّ بما ينطوي عليه من ندوبٍ وجراح، كملاذ بصريّ يتوسله الفنانون العرب منذ السبعينيات من أجل إقامة تواشجات بصرية مع اللوحة، بقدر ما جعل من الذات مُنطلقها الأساس في صياغة عوالم فنية متخيلة، تمزج اللامرئي بالحسي والفكري بالاستيهامي وتجعلهما ينسابان من جسده ويتمازجان وفق منظورٍ بصريّ واحد.

من أعمال بشير يلّس 



ينتمي يلّس إلى قّلة من التشكيليين المغاربيين الذين عملوا على تجديد المُمارسة التشكيليّة العربيّة، وإخراجها من كلّ ارتجالٍ مُضْنٍ أو تزويقية عمياء، لا ترى في اللوحة إلا وظيفة تزيينية. لذلك برزت أعماله منذ منتصف الستينيات، بوصفها أعمالًا مُهمّة تقترح على الجغرافية التشكيليّة اشتغالات مُختلفة ومُتباينة، سواء على مستوى التفكير من خلال العودة إلى التراث الثقافي وتطويعه لا مرئيًا أو عن طريق اللون وما يمنحه من بهجةٍ في ذاتية المُتلقّي، تجعله يُغيّر مفاهيمه وقناعاته حول الألوان ودلالاتها ورموزها في علاقتها بالوجود. ولم تكُن يومًا لوحات يلّس بمعزلٍ عن تاريخ الفنّ والمُختبر التجريبي التشكيليّ الغربيّ، إذْ سرعان ما نجد له مرجعيات فنّية مُتنوّعة، تُؤّثر بشكلٍ مُبطّنٍ مُذهلٍ في عملية إبداعه ومدى تمثّله للفنّ بصفةٍ عامّة، بما يجعل الذات تغوص تلقائيًا في عوالمها الحضارية ومرجعياتها الفلسفية. لكنّه هنا، لا ينسى تاريخه الشخصي وذاكرته الحضارية من خلال استعادته بشكلٍ لا مرئي للتراث الثقافي الجزائري وتطويعه بصريًا، وفق منظورٍ لا يجعل عملية الاشتغال ميكانيكية، وإنّما لا مرئية تقبض عن روح التصوّف بطريقةٍ معاصرة.

وفي هذه اللحظة الفنّية المُتأرجحة بين الحضور والغياب، يتدخّل جسد بشير يلّس، بكلّ ذكائه وعنفوانه ليُؤثّر بشكلٍ مُضمرٍ على عملية التوليف الجمالي، إذْ لا يغدو الحسّ الصوفي تراثًا معرفيًا أو تجربة شخصية فردانية، وإنّما نهجٌ بصريّ، يمزج بين المنسيّ والماثل في جرار الذاكرة، الملموس والمحسوس، الظاهر والباطن، الفراغ والامتلاء، الموت والحياة. من ثمّ، فإنّ السند عند الفنّان مُختبرٌ للتفكير والتجريب وقُدرته على إسقاط كافّة تمثّلاتنا عن مفهوم اللوحة، بحيث لا يُصبح الفنّ، ما ترسّب في أذهاننا عن تاريخه وأساليبه وقوالبه ومُمارساته، بل ما يستشعره المرء أمام اللوحة، وما تُمارسه من ألقٍ وفتنةٍ على ذائقة المُتلقّي. إنّ المتأمّل جيّدًا في أعمال بشير يلّس، سيتلمّس عن كثب أبعادًا هندسيّة رمزيّة دقيقة، لكنّه يصبغها بطابع الجنون ما بعد الحداثي على مُستوى انحدار الخطوط والكتل اللونية. ولأنّ يلّس ليس معماريًا بكل ما تحمله الكلمة من المعنى، فإنّه يُلخّص هذه الالتواءات اللونية في حدود تجريد انطباعيٍ، لا يرتكز على تاريخ الفنّ الإسلامي أو مدى تبلوره في فنون حضارات أخرى مُختلفةٍ. لكنّ عنصر التجريد، يتّخذ لديه منزعًا ذاتيًا، تتحكّم فيه ذائقة الفنّان على المُستويين الفنّي والجماليّ. وإذا كان المنزع الانطباعي يُعدّ علامة مُميّزة في التاريخ التشكيليّ الجزائري بطرق مُتباينةٍ من التوظيف والاشتغال، فإنّه يأخذ في سيرة الفنّان صبغة وجوديّة ترتكز على عناصر الإيماء والرمز والاستقلال اللوني، لكونه ينأى عن تصوير الواقع. وفي هذا الأمر، ما يستحقّ تأمّله جماليًا وفلسفيًا. من ثمّ، فإنّ الابتعاد عن مفهوم "التمثيل" أحيانًا لا يُمكن تبريره، إلاّ من خلال وظيفةٍ حسّية تعتمد في تلقّي العمل الفنّي على مفهوم الإدراك. هذا الأخير، بمثابة براديغمٍ فكري أو مفتاحٍ سرّي لمُجمل لوحاته، لكونه يعمل كإطارٍ فلسفي قائم الذات، هو ما يتحكّم في عملية الإبداع ويُوجّهها فكريًا ويجعلها تجربة تشكيليّة متفرّدة وقادرة على الإبداع وعلى طرح أسئلة تتعلّق بحداثة الشكل وفتنة الأسلوب.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.