}

خليل رعد: فوتوغرافيا التاريخ والذاكرة في فلسطين

أشرف الحساني 22 يناير 2023
فوتوغراف خليل رعد: فوتوغرافيا التاريخ والذاكرة في فلسطين
أم فلسطينية ورضيعها (خليل رعد)

يحتلّ الفوتوغرافي الفلسطينيّ خليل رعد (1854 ـ 1957) مكانة كبيرة داخل المُدوّنة الفوتوغرافية العربيّة، لكونه رائدًا من روّاد الفوتوغرافيا الفلسطينيّة الحديثة، إلى جانب كلّ من كريمة عبّود، وناصر سابا. غير أنّ سبقه التاريخيّ جعله دومًا عميدًا للفوتوغرافيا الفلسطينيّة خلال الحقبة الحديثة، وأكثر الفوتوغرافيين الذين وثّقوا صورة فلسطين قبل النكبة، بعدما تعلّم التصوير في بداياته الفنّية على يد الأرمن، ثمّ ذهب لاستكمال دراسته في مدينة بازل السويسرية، حيث قرّر العودة إلى فلسطين، وتأسيس استوديو خاصّ به، من أجل تصوير الحياة الاجتماعية الفلسطينيّة في ذلك الوقت، بطريقة جعلت أعماله الفوتوغرافية الأولى تُضاهي صُوَر كبار المُستشرقين، عاملًا بشكلٍ فوتوغرافي على تكسير حدّة المنظور الاستشراقي الغربي، فجاءت صُوَره أكثر تجذّرًا في البيئة الفلسطينيّة وذاكرتها. فتاريخيًا، يُشكّل خليل رعد نموذج المُصوّر العضوي الذي استطاع عبر آلة الكاميرا تقديم فلسطين في أبهى صُوَرٍ مُختلفة عن تلك التي قدّمتها قوى الاحتلال الغاشم.

القدس في العهد العثماني (خليل رعد) 


لذلك، تبدو مُدوّنته الفوتوغرافية بمثابة مُختبرٍ بصريّ يطرح العديد من الأسئلة الثرّة والغنية في علاقة الصورة لا فقط بالتاريخ، وإنّما بمُختلف أشكال الفكر المعاصر المُتحرّر من ربقة التقليد والتكرار. وفي الوقت الذي تُنسى فيه نماذج من الفوتوغرافيا الحديثة داخل البلاد العربيّة، إمّا بحكم قيمتها الفنّية، أو بسبب عدم تأثيرها في المجتمع، ما تزال فوتوغرافيا رعد تشغل مجموعة من الباحثين والمخرجين، وتقودهم إلى اجتراح مشروع فكريّ مُؤسّس على الصورة لا على المصادر والمراجع المكتوبة التي استنفدت مادّتها على مُستوى الكتابة التاريخيّة، رغم أنّ هذا النّمط من الكتابة يبقى مجهولًا داخل ثقافتنا العربيّة، إذْ لا نعثر في أعمال المفكّرين العرب على اعتمادٍ بيّن في الصورة كمدخل منهجيّ قادرٍ على تفكيك البداهة ونقد المُضمر في تاريخ الفكر العربي، كما هو الحال مع جيل دولوز في "الصورة الزمن/ الصورة الحركة"، وميشيل فوكو في "الكلمات والأشياء"، مُعتمدًا في مُنطلقاته على لوحةٍ خاصّة للفنّان الإسباني فيلاسكيز، وصولًا إلى إدغار موران، وبيير بورديو، وناتالي إينيك، وغيرهم من المفكّرين الذين رسموا ملامح الفكر المعاصر من خلال المُدوّنة البصريّة، فوتوغرافيًا وتشكيليًا وسينمائيًا.

صندوق الدنيا (خليل رعد) 




بل إنّ الجميل في هذه الكتابات الفكريّة أنّها قامت بتشريح المُنجز البصريّ انطلاقًا من تخصّصات مُعيّنة (الفلسفة والسوسيولوجيا)، وراكمت داخلها متنًا فكريًا مُغايرًا يهجس بنوعٍ من التجريب القائم على إسقاط ونقد كثير من الأفكار المُترسّبة في بنية الوعي الجمعي، والذي تعمل الصورة السينمائية أحيانًا على تكثيفها، قبل أنْ يتدخّل المُفكّر بأدواته المنهجية في تحليلها ونقدها وإبرازها على السطح، باعتبارها تُعيق تقدّم المجتمعات المعاصرة، وتجعلها تعود تدريجيًا إلى الوراء. غير أنّ هذا النّمط لم يتمّ استثماره داخل التأليف العربي، والاستفادة من حدوده المنهجية ومُقوّماته الفكريّة في سبيل خلق كتابةٍ جديدة تُكسّر الحدود بين العلوم الإنسانية والاجتماعية ومناهجها وتقودها صوب مُنعطفاتٍ أخرى تمزج المعارف والعلوم داخل خطابٍ مُركّب تنتفي فيه الحدود المنهجية، بعدما يُصبح الخطاب حرًّا يُمارس فتنته وتفكيكه للصورة المتخيّلة.
والحقيقة أنّ هذا الرأي بدا بارزًا في كتابات مدرسة فرانكفورت، مع كلّ من تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، اللذين عملا على نقد مجتمع الفرجة، من خلال توجيه فعل التفلسف، صوب عالم الصورة التلفزيونية، بوصفها تُضمر في طيّاتها خطابًا مرضيًا حول مآزق وتصدّعات العالم المعاصر. فكان تحليلهما لهذا الوسيط البصريّ بمثابة خطوةٍ ناجعة لتحديث الفكر. لا أعرف لماذا لم يستوعب المؤرّخون العرب أهمية تجربة خليل رعد من الناحية التاريخيّة، وقُدرتها في أنْ تغدو مصدرًا هامًّا يرصد تطوّرات التاريخ السياسي في فلسطين، كما التصدّع الذي عرفه المجتمع قبل النكبة، وما رافق ذلك من خطابٍ تنكيلي في حقّ الفلسطينيين. لهذا فإنّ أعمال خليل رعد تُعدّ أكثر من كونها مجرّد مدوّنة فوتوغرافية، لأنّها بمثابة مُختبرٍ بصريّ قائم على توليد الأسئلة والعلامات والصُوَر والأفكار، بما يجعل الفوتوغرافيا تُدين فداحة الراهن، وتُعرّي ميثولوجيات الاحتلال وقهره. كما هي الحال مع المخرجة الفلسطينيّة مروة جبارة الطيبي، التي أنجزت عملًا وثائقيًا مُذهلًا عن "مصوّري فلسطين" (2020) وأفردت حلقة خاصّة لخليل رعد، باعتباره يُشكّل حالة فريدة داخل المُنجز الفوتوغرافي الفلسطيني المُبكّر، بعدما عملت على تقديم سرديّة رعد في علاقته بالآلة الفوتوغرافية، وسياقه التاريخي، والإمكانات الفنّية والجماليّة التي ساهمت في تميّزه وإبراز صُوَره وقُدرتها على البقاء، رغم كلّ ما تعرض له البلد من أهوال، بعدما تم إنقاذ فوتوغرافيا الفنّان من التلاشي والضياع خلال النكبة نتيجة ما شهدته فلسطين من تحوّلات سياسيّة كان ضروريًا حماية آلاف الصُوَر الفوتوغرافية لرعد خوفًا عليها من الضياع، باعتبارها تُشكّل وثيقة بصريّة هامّة عن هذه الحقبة التي كثّف فيها الفنّان عمله بين البورتريه والمآثر التاريخيّة والسياح والحياة الطبيعية والاجتماعية. تقول في حوارٍ لنا معها: "تميّزت كريمة بالقدرة على دخول البيوت، والتجوّل في الأماكن التاريخية؛ وفضيل بتصوير البعثات الأثرية. بدا رعد أكثرهم مهنيّة، وصُوره في الاستديو تشير إلى مستوى فريد من نوعه في تصوير البورتريهات. الإرث الكبير الذي تركه، وآلاف الأشرطة الزجاجية ـ النيغاتيف والبوزيتيف ـ تدلّ على مهنيّة لا مثيل لها حينها. هنالك الكتالوغات التي تضمّ صُوره من الأرض المقدسة، ودليل سياحي مُصوّر لتشجيع السياحة في فلسطين. كريمة لم تعش مرارة النكبة، إذْ غادرت عام 1940، لكنّ صُورها حالة مقاومة، تعكس تفاصيل حياة غنية قبل النكبة، أراد الاحتلال محوها من الذاكرة. خليل رعد شرّدته النكبة، فاستقرّ في بيروت". وقد بذلت جبارة جهدًا كبيرًا في صناعة الوثائقي مُنقّبة بقوّة عن ما تبقّى من ذاكرة خليل رعد وراسمة له صورة فنّية تهجس بالتجريب الجماليّ الذي تميّزت به فوتوغرافيا رعد وأسّس على منوالها استوديو خاصًّا به، عاملة بذكاء على كيفية استشكال القضية المركزيّة الأساس المُتمثّلة "في كون أعمال رعد تُعدّ ندًا للنّمط الفوتوغرافي الاستشراقي الذي حاول تصوير فلسطين كما يتخيّل ويحلم بذلك، لا كما عليه في الواقع".

استوديو رعد في شارع يافا في القدس، مطلع القرن العشرين


لم يخرج المعرض الأخير "فلسطين: حياةٌ بعيون المصوّر خليل رعد؛ معرض تكريمي"، الذي نُظّم في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة عن مُختلف الأفكار والمفاهيم المُتداولة بشكلٍ مُجمل عن أعمال الفنّان، رغم أهمية المعرض على المُستوى التوثيقي الذي تجاوز 3000 صورة تُؤرّخ لمراحل مُتعدّدة من الحكم العثماني والانتداب البريطاني لفلسطين. فقد مزج رعد في مدوّنته بين الصُوَر المأخوذة داخل الاستوديو التي جاءت عبارة عن بورتريهات والأخرى المُستلّة من الحياة اليوميّة في المدن والقرى والمواقع الأثرية وشخصيات سياسيّة، وهي في مُجملها تُعدّ أرشيفًا ضخمًا عن حياة الفلسطينيين قبل نكبة 1948، على حد تعبير إدوارد سعيد.




وبما أنّ رعد لم يكُن يهمّه البعد الجمالي للصورة، باعتبارها عملًا فنيًا مُركّبًا، كما هي الحال في الفوتوغرافيا المعاصرة، فقد أخذت صُوَره تخدم السياح، والجرائد، وغيرها، على أساس أنّها تُوثّق بشكلٍ عفويّ يوميّات فلسطين. وهذا الأمر يجعلها أكثر الأنماط الفوتوغرافية قُدرة على التأريخ، لكونها تنطلق من مُشاهدات سياسية واجتماعية، من دون إضفاء أيّ بعدٍ تخييلي عنها، فهي ليست فوتوغرافيا فكر ومفاهيم، بقدر ما تهجس بالتوثيق واستكناه التاريخ، وجعله حاضرًا لا يُنضب. بل إنّ خليل كان له علاقات خاصّة بالجيش العثماني ونظيره البريطاني، إذْ كان مُصوّرًا رسميًا خاصّة مع القيادي جمال باشا في جبل الزيتون، بما جعله يدخل إلى المعارك، وينجز صُوَره في جنوب فلسطين ونابلس وغزة والقدس. ولم يكُن في هذه الصُوَر، على أهميتها، ما يُثير في فوتوغرافيا رعد، بل قدرته على تصوير الألم الفلسطيني، والحياة الاجتماعية، سيما تلك الصورة الشهيرة لرجل يحمل آلة بيانو وهو هائمٌ على وجهه حزينًا مُتّجهًا إلى مُستقبل مٌبهم. وقد تكون هذه الصورة قد شكّلت مُنطلقًا فنّيًا للوحة "جمل المحامل" للفنّان التشكيلي سليمان منصور، التي يُصوّر فيها رجلًا كبيرًا في العمر يحمل في شكل دائري القدس على ظهره.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.