}

عن المونوغرافيات السينمائية: حداثة الفكرة وهشاشة التجربة

أشرف الحساني 6 نوفمبر 2023
سينما عن المونوغرافيات السينمائية: حداثة الفكرة وهشاشة التجربة
(Getty)

يعيش النقد السينمائي غربة مُزدوجة، سواء من جهة العاملين في الحقل السينمائي العربي، مثل المخرجين والمُنتجين والممثلين وغيرهم، أو من لدن المؤسّسات الوصية على الشأن السينمائي، كالمراكز والمهرجانات وكليات الفن وصالات السينما، إنّها غربة لا تزيد هذه الممارسة الرمزيّة إلاّ تهميشًا وبؤسًا داخل الثقافة العربية المعاصرة، ثقافةٌ تحتفي بالخطاب المكتوب والشفهي، عاملة على إقناعنا بأنّ الرواية أصبحت بمثابة خلاص لهذه الثقافة، في مقابل تهميش أشكال الإبداع البصري، من سينما وتشكيل وفوتوغرافيا وفيديو. بل إنّ هذا الحصار التهم حتى الخطاب النقديّ المُوازي للأفلام واللوحات والصور. إنّه مخاض عسير تمُرّ منه الثقافة العربية اليوم، فهي تجهل تمامًا السياق التاريخي الذي تعيش فيه، بل إنّها باتت تعيش في سراديب ماضٍ يُساهم بطريقة خفيّة في تغريبها هي الأخرى، ويزُجّ بها في سراديب النسيان. إنّ أيّ ثقافة لا تنتبه إلى ما يجول داخل واقعها الحالي تبقَى مجرّد ثقافة تقليدية تعيش على ماضي أمجادها لا أكثر. حين نقرأ الفكر الفرنسي المعاصر، نجد أنفسنا أمام كتابات تُشرّح اليوميّ وتُحوّله إلى مادة فلسفية قابلة للتفكير والتأمّل، بما يجعل هذا الفكر مُلتصقًا بمسام الواقع العربي وتحوّلاته. كلّ شيء فكّر فيه الفكر الفرنسي ابتداء من الصمت والألم والقلق والجسد والصورة والسينما والفوتوغرافيا. إنّه فكرٌ مُتموّج يُحوّل السلوكات والانطباعات والأذواق والتعبيرات إلى مواد قابلة للتفكير داخل الحياة اليومية. مع الأنثروبولوجي لوبروتون نقرأ كيف تتحوّل هذه الموضوعات إلى مقاربات أنثروبولوجية تفكيكية. ومع جيل دولوز، قرأنا كيف يُمكن التفكير في قضايا الواقع من باب السينما. أما ميشيل فوكو فقد تعلمنا مع كتابه "الكلمات والأشياء" كيف يُمكن للوحة "فيلاسكيز" أنْ تغدو أفقًا فكريًا. أما السوسيولوجية ناتالي إينيك فإنّها تُعلّمنا أكثر من 30 سنة كيف يُمكن النّظر إلى الفن من وجهة نظرٍ سوسيولوجية تقرأ العلاقة المُلغزة والمتشابكة بين الفنان والمؤسسات والأعمال الفنية.
هؤلاء المفكّرون جميعهم يعيشون عمق اللحظة بكلّ أبعادها الفلسفية، مقابل انهماك فكرنا في ماضٍ لم يعُد يُعوّل عليه. ثمّة مفارقة كبيرة يعيشها هذا الفكر الذي يزداد انغلاقًا يومًا بعد يوم، لسبب يتيم يكمن في كونه عبارة عن فكر تاريخي يقرأ الراهن بعيون الماضي. كيف يحقّ لنا قراءة واقع اليوم، انطلاقًا من فكر البارحة؟ هذه الإقامة في الماضي هي التي تجعل أغلب المؤلّفات العربية تُهمشّ في ممارساتها براديغم الصورة بكافة حمولاته ودلالاته وتجلّياته، رغم الطوفان البصري الهائل الذي غدا يُظلّل بسيرته وتوهّجه مسار هذه الثقافة. إذْ كلّما صدر مؤلّف حول الصورة ومتخيّلها الفنّي، ونرى نوعًا من التهميش الذي يطاول هذه الكُتبّ، في وقتٍ تجتاح الصورة حياتنا، وتُحوّل بعضنا إلى أيقونات داخل وسائل التواصل الاجتماعي. لو كانت هناك جوائز خاصّة تُعنى بمجال الصورة وفنونها لخلقت الحدث داخل العالم العربي، أمام التجارب الفنية العربية الهامّة التي تُجدّد بإبداعها مفاهيمنا الفكرية، وتجعلنا نُفكّر في الممارسات الفنية من مدخل الحداثة الفكريّة التي رغم ما يدّعيه فكرنا من حداثة يبقى على مُستوى الممارسة واختيار الموضوعات وطريقة سجاله لها وتفاعله معها فكرًا تقليديًا. كيف يُمكن الحديث عن المونوغرافيات السينمائية، في وقتٍ لا تجد فيه الكتابة الصحافية حول السينما موقعها داخل العالم العربي؟ كيف يُمكن التفكير في مشروع مونوغرافيات نقدية داخل ثقافة لم تستوعب بعد تحوّلات النقد السينمائي؟ بأيّ طريقة نهتدي إلى حداثة الكتابة النقدية ونحن نُفكّر بمنطق "سلفية ثقافية" تُلخّص الكتابة النقدية في الأساليب التبشيرية التي تقترب من الإشهار أكثر من كونها ممارسة فكرية تُمهّد طريقها إلى الفكر؟

السوسيولوجية ناتالي إينيك تُعلّمنا أكثر من 30 سنة كيف يُمكن النّظر إلى الفن من وجهة نظرٍ سوسيولوجية تقرأ العلاقة المُلغزة والمتشابكة بين الفنان والمؤسسات والأعمال الفنية


ينظر المخرجون والمنتجون والممثلون إلى النقد السينمائي باعتباره كتابة ذاتية تُعرّف بالفيلم وتكشف أشياءً إيجابية فيه من وجهة نظر فنية، أيْ أنّه مجرّد كتابة تسعى إلى أنْ تكون وسيطًا بين الفيلم والآخر (الجمهور). وبالتالي، فهي مجرّد كتابة صحافية تُعرّف بالأعمال السينمائية، وتدعو من خلالها الجماهير الهلامية إلى مشاهدة الأفلام داخل القاعات السينمائية. شخصيًا، أرى هذا الأمر إيجابيًا بالنسبة للسينما والفنون بصفة عامّة، شريطة الوعي والتمييز بين الكتابة الصحافية ونظيرتها النقدية، وصولًا إلى الفكرية. ففي هذا النسيج الثلاثي ترسم الكتابة عن العمل السينمائي سيرتها وتنثر على مستوى التفاعل مقاربات مختلفة في التفاعل مع الفيلم. ويلعب هذا النمط من الكتابة دورًا كبيرًا في التعريف بالفيلم وخلق سجالات بينه وبين الجمهور.




إنها عبارة عن طريقة لتكريس العمل السينمائي والمُساهمة في ذيوعه وانتشاره. أمّا النقد السينمائي الحقيقي، فهو شيءٌ آخر، إذْ يرسم وفق منهجه طريقة مغايرة في النّظر إلى الفيلم هي التي تجعله نقدًا سينمائيًا وليست كتابة صحافية. والحق أنّ النقد السينمائي بالمفهوم الذي نُدافع عنه، لا يجد ملامحه الفنية والجمالية إلاّ داخل تجارب عربية قليلة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. في حين تظلّ "تجارب" كثيرة تلهث وراء مفهوم النقد من دون الوصول إليه.
إنّ النقد السينمائي عملية فكرية أولى تُمهّد على مُستوى التفكير للدخول صوب منعرجات فكرية قويّة لا يُمكن للفكر نفسه أنْ يرسم ملامح حداثته بدون النقد. إنّ الناقد يُتابع بحصافة نقدية سيرة الأفلام وتاريخها وجمالياتها وأنواعها، فتكون كتابته بمثابة مختبرٍ أوّل للتفكير، أيْ أنّه يُحقّق على المُستوى المنهجي تراكمًا هامًّا بالنسبة للمُفكّر بطريقةٍ يدخلان معًا في سجال فكريّ مُذهل. غير أنّ حداثة النقد تكمن حسب دومينيك شاطو في ضرورة انفتاح هذا النقد على مختلف المعارف والعلوم مثل الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس. بهذه الطريقة يُجدّد النقد معالمه ورؤاه، فتكون كتاباته أصيلة ومُتجدّدة تقرأ العمل/ الفيلم وفق أبعاده السياسية والاجتماعية والجمالية والفكرية والنفسية.
إنّ المونوغرافية السينمائية لا علاقة لها بالنقد السينمائي، فهي نمطٌ ينحو صوب الكتابة البيوغرافية القريبة من التاريخ أكثر من الانتماء إلى الفكر. يتعامل كاتب المونوغرافية مع مخرج سينمائي وليس مع فيلم واحد، أيْ أنّه يقترب في منهجه من ملامسة تجربة المخرج وفتح منافذ جديدة لها على مُستوى التفكير. إنّها طريقة جديدة في مقاربة مُنجزه السينمائي بانفتاحه على مختلف العوامل الخارجية، مثل التنشئة الاجتماعية، ومصادره البصرية، وتكوينه السينمائي. أما نظيرتها الداخلية فيُراد بها شكل الصناعة السينمائية والأنواع الفيلمية التي يشتغل في حدودها وأبعادها التقنية والجمالية.
لا يتوفّر العالم العربي على مونوغرافيات سينمائية، ليس لأنّ النقاد العرب لا يقوون على كتابتها، رغم وجود أقلام مذهلة بالعالم العربي. ولكنْ لأنّ المونوغرافية تتطلّب وقتًا طويلًا في الكتابة، فقبل الكتابة تسبقها عملية جمع المادة وتوثيقها وأرشفتها وضبط تاريخها وأفلامها وسنوات إنتاجها بكلّ ما يُرافقها من بطاقات تقنية وحوارات مباشرة مع المخرج السينمائي، بما يُتيح للكاتب إمكانية اختراق حياته الخاصّة وفهم الطريقة التي بها يشتغل في أفلامه وكيف ينظر إلى السينما، وما الذي تعنيه له ومدى علاقته بتجاربه الشخصية والواقع الذي ينتمي إليه. والحال أنّ هذه المونوغرافيات لا تأتي وفق نزعةٍ فردية، بل من دعوة مؤسّسة تختار ناقدًا لكتابة هذه المونوغرافية، رغم أنّه لا وجود لذلك على أرض الواقع على الإطلاق، فالمؤسّسات الإنتاجية لا تقرأ النقد، ولا تعرف حتّى معناه، فبالأحرى دعوة الناقد إلى كتابة مونوغرافية نقدية تُعرّف بأفلام المؤسّسات وتكشف ملامحها الجمالية وتُساهم بطريقة واعية وفعّالة في بناء خطاب فكريّ وبصريّ يضع المؤسّسة الإنتاجية في السياق التاريخي للسينما العربية اليوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.