إنّ أمر العلاقة بين السينما بالتاريخ والذاكرة أعمق ممّا قد نظُنّ لأوّل وهلةٍ، لأنّ الكتابات عن العلاقة بين السينما والتاريخ بالعالم العربي مُنعدمة، وما يوجد هو مجرّد مقالات تُحاول أنْ تتهجّى مبادئ التفكير في العلاقة، من دون أنْ تصل إلى جوهرها. كما أنّ هذه الكتابات حول السينما والتاريخ عبارة عن قراءات في أفلام ذات ميسمٍ تاريخيّ، حتّى وإنْ كان بعضها سطحيًا في الاشتغال على التاريخ وتمثّله، لا كـ "تاريخ"، بل كحاضر مؤسّس لا ينقضي. إنّ عسر الكتابة في تشريح هذه العلاقة راجع إلى هشاشة ومأساة البحث التاريخي بالعالم العربي، وكيف غدت الكتابة التاريخيّة العربيّة تنظر إلى التاريخ، باعتباره مجرّد أحداث سياسية واجتماعية وقعت في الماضي. وكأنّ ماضي العرب، لم يعرف ثقافة ولا فنًا. يكتُب المؤرّخ عن التاريخ وكأنّه عقيدة سياسية، ولا ينظُر إلى التاريخ في عموميته وطريقة تجلّيه في الواقع الذي يعيش فيه. لا ينتبه المؤرّخ العربيّ أنّ ما يبقى من هذا التاريخ ليس السياسة، ولا الاجتماع، ولكنْ الآثار المعمارية والمواقع الأثرية واللوحات الفنية والموسيقى الشعبية. كلّها عناصر قد تُسعفه على كتابة تاريخٍ جديد مُتخلّص من رقابة التقليد الجامعي، ومُنفلت من قبضة التاريخ الرسميّ الذي تعمل على تكريسه الأنظمة الجشعة. إنّ حداثة التأليف التاريخي ليست الكتابة انطلاقًا من تاريخ الدول وسلاطينها وملوكها وحاشيتها. فهذه المباحث التاريخية استنفدت مادتها على مُستوى البحث والدراسة. بل الرهان اليوم على الصورة بكلّ حواملها وأشكالها من لوحة وسينما وفوتوغرافيا ومعمار، مع اختلاف كبير بين هذه الأشكال التعبيرية البصرية بالنسبة للمُؤرّخ في تعامله مع الصورة كوثيقة تاريخية. لقد أحدثت الصورة شرخًا كبيرًا في النظام التعليمي، ودحضت كل الأنساق الفكريّة التي تأسست عليها الثقافة العربية الحديث. ورغم خروج الصورة من الإطار المعرفي، واجتياحها للواقع الفيزيقي العيني الذي ننتمي إليه كأفراد، لا يزال اهتمام المفكرّين والمؤرّخين بعيد كلّ البُعد عن الاهتمام بالصورة وتحوّلاتها في علاقتها بالفكر المجرّد والبحث التاريخي.
حين نُشاهد الفيلموغرافيا العربيّة والعالمية التي تناولت براديغم التاريخ، نعثر على ثلاثة أنواع من الأفلام: الأوّل يستحضر التاريخ كبنية مؤسّسة لشرعية الصورة السينمائية، بنيةٍ تدور في جوفها الأحداث من دون أنْ يطغى عليها الطابع التاريخي، كما يحضر ذلك في بعض أفلام المُخرج الأميركي كوينتين تارانتينو. وتُعد هذه الخطوة أرقى الأشكال المنهجية في التعامل مع التاريخ في السينما، لأنّها على مُستوى السرد لا تُحافظ كما التاريخ التقليديّ على تراتبية الأحداث، لكونها تنظُر للتاريخ فقط كبنية ناظمة لهذه الأحداث لا أكثر. التاريخ التسلسلي مجرّد كذبة، إذْ كيف يجوز الحديث بـ"علمية" عن 5 قرون أو أكثر بكلّ هذه الدقّة حتى ولو توفّرت وثائق مادية لذلك؟ ويحضر التاريخ في هذا النوع، كحكاية أو سرديّة قابلة للتصديق والكذب معًا، رغم أنّ المُخرج لا تهمّه هذه الرؤية التنميطية للتاريخ، خاصّة إذا كان الفيلم يستعرض فترة تاريخية عرفت نوعًا من التهميش والنّسيان، حينها يتدخّل المخرج بطريقة غبر مباشرة في تقديم رأيه في أحداث تاريخية وقعت وأثّرت في الزمن المعاصرة. إنّ التاريخ كبنية في السينما، يُعطي للمُخرج إمكانات مُذهلة لإدانة الواقع وقول ما لا يُقال أو بالأحرى ما يتستّر عليه المؤرّخ الرسميّ التقليديّ. أما النوع الثاني، فيستحضر التاريخ كموضوع رئيسي للأحداث، وهو النموذج الذي تُقدّمه لنا الأفلام التاريخيّة التي تستعرض أحداثًا، أو سيرة ذاتية من زاوية سينمائية مُعيّنة. وهذا النوع يتطلّب إمكانات إنتاجية كبيرة للممثلين وكاتب السيناريو والإكسسوارات والكومبارس. وبسبب هذه المتطلّبات الكبيرة يتهرّب المخرج العربي من الاشتغال عليه. بعضهم يُبرّر ذلك بسبب قلّة موارد المؤسّسات الإنتاجية، وعدم تفاعلها مع الفكرة. وبعضهم يرى بأنّ الفيلم التاريخي لم يعُد مطلوبًا في الزمن المعاصر، وذلك بسبب وجود قضايا سياسية وإشكالات اجتماعية ينبغي التعامل معها سينمائيًا، بدل الرجوع إلى فيلم يستحضر تاريخ بلد، أو جماعة. ونصل إلى النوع الثالث، الذي يستحضر التاريخ لإدانة الحاضر ويتعامل معه كصُوَر. وتُعدّ هذه الخطوة ناجحة بالنسبة لكثير من المخرجين العرب في الحقبة المعاصرة، وذلك لكونها رؤية فكرية تتعامل مع الماضي بطريقةٍ نقدية تنتقي من هذا التاريخ ما يصلح للسينما كخطاب وليس العكس.