رغم الجدل الكبير الذي رافق علاقة الأدب بالسينما العربيّة في الـ20 سنة الأخيرة، ما تزال ملامح هذه العلاقة غير واضحة، بسبب غياب دراسات خاصّة وأصيلة، تقرأ هذه العلاقة على ضوء ما يشهده الإنتاج السينمائي العالمي من تحوّلاتٍ فنّية وجماليّة وسياسيّة واقتصادية، تُؤثّر سلبًا وإيجابًا على طبيعة هذه العلاقة، وترسم لها أفقًا جديدًا، بعيدًا عن مُختلف مظاهر العلاقة التقليدية التي ارتسمت منذ ميلاد فكرة الحداثة البصريّة خلال سبعينيات القرن الماضي.
لكن، يومًا بعد يوم، تزداد حدّة هذه العلاقة بؤسًا وتصدّعًا، إذْ لم تستطع السينما العربيّة المعاصرة العمل على تكثيف جهودها في قراءة الكمّ الهائل من النصوص الروائية التي تصدر داخل المنطقة العربيّة وخارجها، ما يُفسّر الغياب المهول في عملية تحويل النصّ الأدبي إلى فيلمٍ سينمائي. تحويلٌ تخلق له الصورة أفقًا مُغايرًا يشدّ المُشاهد، ويدفعه إلى قراءة النصّ الأدبي الأصلي في سبيل خلق طباقٍ بصريّ، بين فعل القراءة والتأمّل وبين المُشاهدة السينمائيّة وعشقها.
لهذا، فكلّما تحدثنا عن ملامح هذه العلاقة، نعود بها إلى سنوات السبعينيات والثمانينيات، وكأنّ الإنتاج السينمائيّ العربيّ توقّف في تلك المرحلة، ولم يعُد قادرًا على تخييل النصوص ورسم ملامح جماليّة أخرى على عرش الصورة السينمائية. إنّ الأدب يُعلّمنا معنى المغامرة في تطويع الواقع وجعله مادة سردية تغدو في الصورة سيرورة غير منفصلة عن حياة النصّ. حين نكتب، نُريد الضغط على الجُرح أكثر، لكنْ حين نُحوّل ما نكتبه إلى الصورة نكون أمام النقد والكشف والإظهار حتّى يلتئم الجُرح فينا، وتعود أجسادنا مثل صفحاتٍ بيضاء خالية من البياض نفسه.
والحقيقة أنّ أغلب الدراسات التي تطرّقت إلى الأدب والسينما، تميّزت بوصفها معرفية شرّحت بشكلٍ عامّ هذا الاشتباك الجمالي الذي يحدث بين النصّ الأدبي ونظيره السينمائي، لكنّها ظلّت قاصرة عن فهم ماهية العطب الذي يتجاوز كلّ ما هو معرفي، ليصطدم بأمورٍ تتعلّق بالإنتاج والرأسمال والحقوق. ما يعني أنّنا أمام أمور مؤسّساتية تفرضها السينما، وتُحاول عبرها الاستفادة بشكلٍ أكبر من النصّ الأدبيّ.
وقد جاءت هذه الدراسات "تبشيرية"، وكأنّها تأتي بجديد بقولها وحديثها عن العلاقة الجماليّة بين النصّ والصورة، علمًا أنّها مسألة معرفية استنفدت مادّتها داخل الثقافة الغربيّة، لكنْ ما نزال نُردّدها بنفس الصيغة، ولا نصل في النهاية إلى نتيجة شافية لطبيعة هذه العلاقة المُتأزّمة. أمّا النوع الثاني من تلك الدراسات، فقد كانت فرديّة تتطرّق إلى علاقة رواياتٍ بعينها، وكيف تمّ تحويلها إلى فيلمٍ سينمائي، مع أنّ هذا النوع يظلّ هامًا، كونه ينطلق من خصوصيات معرفية يتميّز بها كلّ نصّ روائي عن آخر، فيُتيح للباحث إمكانات مُذهلة في فهم هذا الاشتباك البصريّ، ويجعله يُجدّد هذه المعرفة بانفتاحه على حقولٍ أخرى داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية.
عن طبيعة هذه العلاقة من الناحيتين الفنية والجمالية، وأسباب تأزم هذه العلاقة داخل العالم العربي، أجرت "ضفة ثالثة" هذا التحقيق الخاصّ مع عدد من النقّاد والروائيين.
ناجح حسن: السينما العربية مهتمة بإثارة الحواس
يشير الناقد الأردني، ناجح حسن، إلى أنّ السينما العربية عاجزة تمامًا عن تقديم اشتغالات واعية للنص الأدبي، فهي تلجأ إلى الاستسهال في اختيار نص العمل الذي يتأسس على الإثارة والدراما الزاعقة، بحثًا عن المواقف والدعابات السطحية غير المؤثرة في ذائقة المتلقي. تلجأ هذه السينما إلى دغدغة حواس المتلقّي بأمكنة وشخصيات تفيض بالعلاقات المرضية غير القادرة على إقناع المشاهد العادي بأحداثها. فهي أعمال تفتقدُ في أغلبها إلى تلك الأحاسيس والمشاعر والأفكار ذات الرؤى البليغة، عدا عن كونها إنتاجات، لا تقترب من أية أبعاد تأملية في الواقع، فضلًا عن قصورها في رسم معاناة وآمال الشخصيات بأساليب تقومُ على التعاطي مع المنحى الابداعي للعمل الأدبي، سواء أكان ذلك في استلهام قصة قصيرة أو قصيدة شعرية أو رواية.
ويضيف ناجح أنَّ الإنجازات السينمائية الإبداعية التي تظهر بين حين وآخر بموازاة هذا الكم من الأفلام الدارجة، بدت هي الأخرى في حالة من القطيعة مع العمل الأدبي. ورغم أنَّ هنالك أعمالًا قليلة اقتحمت هذا الفضاء، إلا أنَّها أشبه بحالة تسوّلٍ لحدث ما، مُطعَّمة بمعالجة سمعية بصرية بعيدة عن كنه العمل الأدبي وإشاراته الواقعية ودلالاته الفلسفية. كما أنَّ هنالك المسألة الإنتاجية التي تخضع لمتطلبات صناديق التمويل العربية والأجنبية، إذ أنّها لا تدعم التعاطي في إنجاز نصوص أفلام مأخوذة عن أصلٍ أدبي. في هذه الحالة يلجأ كثير من صناع الأفلام، وأغلبهم من الشباب ممن يعملون على أفلامهم الأولى، إلى توظيف جوانب من سيرتهم الذاتية وتجاربهم الخاصة المحملة بمواقف من التمرد والغرور، لتكون عونًا لهم في تحقيق أفلامهم، مع أنّ النتيجة غالبًا ما تكون مليئة بالخيبات وعدم المصداقية، أو أنها لا تحيط بمفردات وعناصر اللغة السينمائيّة.
لكن يحسب لحالات فردية في السينما العربية التي جاءت تحت مسمى السينما البديلة أو الجديدة، بعدما قدمت تنويعات إبداعيّة مبشّرة بهذا المجال.
ويشير ناجح لمعالجات المخرج الكويتي خالد الصديق لرواية "عرس الزين" للروائي السوداني الطيب صالح، والمخرج المصري توفيق صالح الذي حوَّل رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" إلى فيلم "المخدوعون" (1972)، والفيلم المغربي "وشمة" (1970) للمخرج والكاتب حميد بناني، والفيلم المصري "البوسطجي" (1968) للمخرج حسين كمال والمأخوذ عن قصّة للكاتب يحيى حقي، وأيضًا الفيلم التونسي "سجنان" (1973)، وغيرها. وهي بالكاد تشكل عشر الإنجاز السينمائي في المنطقة العربية.
معلوم لدى كثير من النقاد أن الفيلم الجيد ليس بالضرورة أن يكون مأخوذًا عن رواية شهيرة، فالكثير من الأفلام العربية شوهت تلك القيم الإنسانية النبيلة في النص الأدبي، مثلما في الوقت نفسه نجح مخرجون أفذاذ في تحويل العديد من النصوص الأدبية المتواضعة والبسيطة إلى اشتغالات سينمائية رفدت المنجز الإبداعي السينمائي العربي بألوان جديدة من المعالجات والرؤى الفكرية الممتعة.
في النتيجة، يرى ناجح ضرورة أن يتوجه الفيلم العربي إلى تنويع خياراته بحثًا عن حلول لمعاناة الفيلم العربي جراء معضلة ضعف وغياب فن كتابة السيناريو، وذلك لضرورة إخراجه من القوالب الجاهزة التي دأبت عليها السينما العربية. إن خيانة النص الأدبي أمر مباح ومفيد لدى صانع الأفلام، شريطة ألا ينتهي الفيلم إلى مأزق التشويه والإثارة لرغبة في دغدغة عواطف وغريزة المتفرج على خلاف ما وظفته مخيلة الكاتب. لذلك، من المهم أن يتمتّع المخرج السينمائي بمخيلة تعينه على تقديم حلول إخراجية للنص الأدبي، لأنّه أمر في غاية الأهمية للوصول بالعمل السينمائي إلى وجهته، وكي يكون إضافة إبداعية للمشهد الثقافي.
حسونة المصباحي: المخرجون التونسيون لا يهتمون بالرواية
يفضّل الروائي التونسي، حسونة المصباحي، الحديث عن الوضع المحلي التونسي لإضاءة العلاقة بين السينما والأدب في العالم العربي. إذْ حدثت بعض التجارب الناجحة في تونس بخصوص العلاقة بين السينما والقصة والرواية. وأولى هذه التجارب كانت في فيلم "خليفة الأقرع" (1968) وهو بالأبيض والأسود، ومن إخراج حمودة بن حليمة. ويعتمد هذا الفيلم على قصة الكاتب، البشير خريف، وفيها يصف حالة شاب يفقد شعره، فيسمح له الرجال بالاختلاط بنسائهم في غيابهم. لكن عندما ينبت شعره من جديد، يجد نفسه محرومًا من متعة ذلك الاختلاط الذي وفر له فرصة قضاء ليلة حب مع أجمل سيدة في الحيّ.
نجاح ذلك الفيلم على مستوى الجمهور، حرّض المخرج فريد بوغدير على إنجاز وإخراج فيلم "في بلاد الطرنني" (1973) المقتبس من ثلاث قصص للكاتب التونسي، علي الدوعاجي، والذي كان أبرز وجوه جماعة "تحت السور"، إذْ لعبوا دورًا أساسيًا في تحديث الأدب التونسي في ثلاثينيات القرن الماضي.
وفي فترة السبعينات من القرن الماضي، وتحديدًا عام 1972 قام إبراهيم باباي بإخراج فيلم "وغدًا"، وهو يعتمد على رواية لعبد القادر بن الشيخ، وفيها يروي قصة فلاحين فقراء يتركون قريتهم وأرضهم، وينزحون إلى العاصمة بحثًا عن لقمة العيش، بعد أن باتوا مهددين بالفقر والجوع. وقام إبراهيم باباي أيضًا بإخراج فيلم "ليلة السنوات العشر" (1990)، المأخوذة عن رواية بنفس العنوان للكاتب محمد صالح الجابري، وفيها يروي سيرة جيل ما بعد الاستقلال في ظل نظام الزعيم بورقيبة.
باستثناء هذه التجارب القليلة والتي حصلت على نجاح جماهيري نسبي، ولاقت استحسانًا لدى المتحمسين لربط علاقة بين السينما والأدب الروائي والقصصي، لا نعثر على مثيل لها خصوصًا خلال الثلاثين سنة الماضية. والسبب الأساسي هو أن المخرجين الذين لمعوا في مجال الفن السابع، لا يعيرون أي اهتمام للرواية والقصة في تونس، ولا يرغبون حتى في الاطلاع عليها، لأنهم يريدون أن يكونوا مخرجين وكتاب سيناريو في نفس الوقت. وهدفهم الأساسي من خلال ذلك هو الربح المادي، وليس الفن في مفهومه الحقيقي والجوهري.
لهذا نرى أن المخرجين المتشبثين بهذا المسلك، قد ينجحون مرة أو مرتين، لكنهم سرعان ما يسقطون في التكرار الممل، متطرّقين إلى نفس المواضيع التي كانوا قد طرحوها من قبل. وبذلك تنتهي تجاربهم بفشل ذريع، مثلما هي حال نوري بوزيد مثلًا الذي بات يدور على نفسه، فلا جديد في تجاربه. ولا يختلف المخرجون الآخرون عنه. وجميعهم يجهلون الأدب القصصي والروائي في تونس، ولا يكلفون أنفسهم حتّى عناء الاطلاع عليها. والحال أن الاطلاع عليها يمكن أن يثري عالمهم، ويفتح أمامهم آفاقًا جديدة.
محمد هاشم عبد السلام: السينما العربية بعيدة عن الأدب
تعتمد السينما حول العالم ومنذ اختراعها، على استلهام الأدب الإنساني. حجر الزاوية هذا يغيب في سينما العالم العربي عامة ومصر خاصة، كما يقول الناقد المصري محمد هاشم عبد السلام، سواء كان هذا الابتعاد عن الأدب المحلي أو العالمي، وذلك رغم كثرة الاقتباس، ونقل بعض الأفلام العالمية ذائعة الصيت، بعد تفريغها من محتواها ومضمونها وإعادة تقديمها في بيئة أخرى مغايرة بنكهة زائفة مفتعلة في الأغلب.
ويشير عبد السلام إلى أنّ السينما المصرية خطت في بداياتها خطوات جريئة ومُبشرة نحو اقتباس الأدب، خاصة المسرح والرواية. بداية من فيلم "الباش كاتب" (1923)، لمحمد بيومي عن مسرحية لأمين عطا الله. لم تتكرر التجربة بوتيرة منهجية لتشكل تيارًا أو رافدًا. فقط، مع منتصف القرن الماضي، وبروز أدباء مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهما، بدأ الإنتاج الأدبي يُثري وينعش السينما المصرية. ما أبْعَد الأفلام، بعض الشيء، عن الاقتباس أو النقل كما في السابق.
الإمداد الأدبي استمر لفترات تراوحت من خمسينيات وحتى منتصف أو ربما أواخر الثمانينيات من القرن الماضي تقريبًا. كان طبيعيًا تطور الأمر لاحقًا، وازدياد مساحة الأعمال الأدبية في السينما. لكن العكس تمامًا هو ما حدث. مع مطلع التسعينيات، بدأ الاقتباس يطل برأسه مجددًا، وإن بصورة مغايرة، تمثلت على نحو فادح في نقل أفلام بأكملها، دون أدنى تغيير، في سرقات وانتحالات سينمائية بيّنة وفاضحة، وصلت لدرجة سرقة ملصق الفيلم الأصلي. المثير أن الكثير من الأعمال، المسروقة عن الأصول الأجنبية، مأخوذة أصلًا أو مُقتبسةٍ من أعمال أدبية. أي أنَّ السينما في النهاية لجأت للاعتماد على نصوص أدبية، لكن عبر سرقتها من أعمال فنية أخرى. دون الذهاب مباشرة للنصوص الأصلية، أو محاولة معالجتها على نحو مغاير.
وهذا يثير ويطرح عدة أسئلة، منها: لماذا لم تعد تلجأ السينما العربية والمصرية، كما في الماضي، إلى الأدب العالمي أو العربي؟ لماذا انفصلت السينما تدريجيًا عن الأدب، وبات بينهما شبه انفصام حتى هذه اللحظة؟ إن محاولة الوصول إلى إجابات حول أسباب عزوف السينما عن الجنس الأدبي، تعزى تارة لصعوبات إنتاجية، وتارة أخرى لعزوف الممولين، خشية ضعف الإيرادات نظرًا لعدم الإقبال الجماهيري، وأحيانًا لعدم ملاءمة الإنتاج الأدبي أو ضعفه أو تدني مستواه، وأخرى لعدم مقدرة كتاب السيناريو على التعامل مع نصوص أدبية وتحويلها إلى صورة بصرية سينمائية. وفي أحيان قليلة لرفض الكاتب تحويل نصوصه إلى السينما، خشية عدم التزام المخرج أو كاتب السيناريو بروح النص وإفساده.
وأخيرًا وليس آخرًا، قلّة العائد المادي، أو صعوبة الحصول على الحقوق الأدبية. خاصة لو كان الأمر يتعلق بعمل أدبي عالمي. يبدو أنَّ الأمر سيظل على ما هو عليه. إذْ أنَّ السينما العربية بعيدة تمامًا عن الأدب، وتمعن في الابتعاد أكثر مع مرور الأيام، مُفضلة ومكتفية بضعفها الفني وقلّة إنتاجها الأدبي، واعتمادها على السينما العالمية، اقتباسًا ونسخًا، عوضًا عن الالتفات للأعمال الأدبية الرفيعة.
علي سفر: الروائي يكتب للقارئ لا للمشاهد
هل هناك علاقة متوترة بين الرواية والسينما؟ يتساءل الناقد السوري، علي سفر، إذْ لا يؤمن بوجود هذا الإيقاع المضطرب بين هذين النوعين الفنيين الذين ينتميان إلى مجالين مختلفين، أي المجال المكتوب والمجال المرئي. فيما يمكن بالمقابل الحديث عن سياسة إنتاجية في الفضاء السينمائي، تتسبب بجعل الرواية بعيدة عن أن تكون مادة لشغل السينمائيين، بعد افتراضنا الأكيد والمثبت بأن الروائي يكتب روايته للقارئ وليس للمشاهد.
ترد في الصفحات الأولى لكتب الروايات عبارة قانونية، تحذر الآخرين من أن أي استخدام لمضمونها على الصعيد المرئي والمسموع، يجب أن يتم بعد موافقة الناشر وقبله المؤلف. وهذا التحذير يفترض وجود أحد ما، قد تلفت انتباهه قصة وحبكة الرواية، فيقرر أن يحولها إلى عمل سينمائي أو درامي.
لكن في المقابل لا يفترض المخرج السينمائي أو المنتج أنه سيعثر على مادته الخام القابلة للتحويل إلى سيناريو سينمائي في الروايات. بل يجب أن تبدأ العملية من وجود سيناريست، لديه نص سيناريو، أو مشروع قابل لأن يتحوّل إلى فيلم. في الواقع العربي، هل نستطيع تطبيق المعادلة ذاتها؟ أو بالأحرى، من قام بالعمل وفق الإجراءات السابقة؟
يشير سفر إلى تاريخ طويل من الاحتفاء بالروايات المكرسة في عالم النشر والقراءة في أغلب البلدان العربية. والأمثلة كثيرة، من نجيب محفوظ، إلى مواطنه يحيى الطاهر عبد الله، وكذلك السوريين حنا مينة وخيري الذهبي، وصولًا إلى العراقيين فاضل العزاوي ومحمد خضير، عدا عن مقاربات لروايات وروائيين عالميين، كدوستويفسكي وغيره.
ما لا نملكه حقيقة، هي التقاليد والبروتوكولات المتبعة والتي لم تتكرس، إذ لم تصنع شركات الإنتاج، إلا فيما ندر، حالة احتفائية بالروايات الرائجة. وكذلك تناسى المخرجون وهم يصنعون نتاجهم، وفق نمطية سينما المؤلف، وذلك بأنَّ اختيارات جمهور القراء قد تقود أفلامهم إلى مراتب جيدة في شباك التذاكر. كما أن وجود المنتجات الأدبية يشكل نافذة للعقول من أجل أن تتنفس هواءً جديدًا خارج الذات. لكن الهوس بالوصول إلى الشهرة، والمشي على البساط الأحمر، يمنع الكثيرين من أن يتجهوا صوب الرواية، فقد يعتقد بعض هؤلاء أن الروائي سينافسهم على الشهرة، أو أن شهرة المخرج ستتكئ على نجاح الروائي.
غير أن السؤال الذي لا يجيب عليه هؤلاء، هو: ماذا لو كان الفيلم يستفيد من نجاح الرواية؟ ألا ترون كمّ الروايات التي تشتري هوليوود حقوقها كل عام؟
مصطفى لغتيري: لا وجود للأدب والسينما بدون الخيال
من جهته، يشير الروائي المغربي، مصطفى لغتيري، إلى أنّه لا أحد تقريبًا يجهل بأن كلا من الأدب والسينما ينتميان إلى الفنون الجميلة، وهذا يعني أن هناك ما يوحدهما، فانتماؤهما معًا إلى هذا الفرع الكبير من الثقافة الإنسانية لا يمكن أن يأتي عفو الخاطر، بل لا بد أن يكون هناك ما يبرره. وإذا ما دققنا النظر في هذا الانتماء، وتأملنا في نفس الوقت هذين الفنين كليهما، ستستأثر باهتمامنا، بدون شك، كلمة فن التي تجمع بينهما، والتي يمكن تعريفها بكونها التعبير عن عمق الكينونة الإنسانية بأشكال إبداعية متنوعة، تتجاوز متطلبات عيش الإنسان اليومية، لتنغمس في تأمل ماهيته النفسية والوجودية والروحية. ولعمري فالإنسان نتيجة لاهتمامه بهذا الفن، يحقق إنسانيته من خلال الرقي والتعالي عن رغباته الغريزية الملحة.
ينقلنا هذا التعريف مباشرة إلى الأدب والسينما، وسوف نضرب صفحًا عن الاختلافات الكثيرة والظاهرة فيما بينهما، والتي يضيق المجال لحصرها هنا، ويكفينا، بالمقابل، التوقف عند ما يجمع بينهما، وهو بالأساس الطابع الإبداعي الذي يميز كل منهما. الأدب فن إبداعي أداته الكلمة، والسينما فن إبداعي كذلك، لكن أداتها الصورة. كما أنهما يشتركان معًا في خاصية الخيال التي تجعل كل منها قابلًا للوجود. فلولا الخيال لما كان هناك أدب أو سينما.
كما أن كلا من الأدب والسينما، وأتحدث هنا عن الرواية والقصة كجنسين أدبيين، يتميزان بطابعهما السردي، والذي لا يعني سوى تطوير أحداث تقوم بها شخصيات، تنطلق من نقطة معينة وتنتهي في نقطة أخرى، دون أن يعني ذلك تطورًا "كرونولوجيًا" خاضعًا للزمن الطبيعي الذي يبدأ من ساعة معينة لينتهي في ساعة أخرى، وتكون الأولى متقدمة عن الثانية زمنيًا، بل يمكن لكليهما توظيف الزمن النفسي كذلك، والذي تتداخل فيه الأزمنة بشكل قد يصيب بالإرباك أحيانًا. كما يمكنها الانطلاق من النهاية، ليصلا فيما بعد إلى البداية المنطقية للأحداث.
ولعل هذه الخاصية المشتركة الأخيرة هي التي حفزت السينما وروادها لاقتباس كثير من النصوص الروائية من أجل تحويلها إلى أفلام. أفلامٌ حققت، بدون شك، نجاحات مبهرة وسارت بذكرها الركبان، فأنتجت لنا ما يسمى بـ"سينما المؤلف". وقد لمعت في هذا الخصوص أفلام بعينها، حافظت على أسماء الرواية المقتبسة الناجحة، وصارت أيقونات تؤشر على هذا التعاون القوي ما بين الأدب والسينما. لا أحد سينسى فيلم "ذهب مع الريح" (1939) المقتبس عن رواية للكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل وإخراج فيكتور فليمنغ، وفيلم "العجوز والبحر" (1958) المقتبس عن رواية بنفس الاسم للروائي الأميركي إرنست هيمنغواي، وفيلم "مدام بوفاري" (2014) المقتبس عن رواية بنفس الاسم للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، والنماذج العالمية كثيرة ويصعب حصرها.
وقد أدلت السينما العربية بدلوها في هذا التوجه الثري والباذخ. إذ عمد المخرجون والمنتجون في مجال السينما العربية إلى الاستفادة من النبع الثري للرواية العربية، فاقتبسوا منهًا نصوصًا لامعة، وحولوها إلى أفلام سينمائية، أضفت على الشاشة الكبرى جاذبية خاصة. وقد تحقق زخم مشهود في هذا المجال خلال المرحلة الرومانسية التي غزت الرواية العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين وبعده بقليل، ممثلًا بروايات إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله. ووصل تعاطي السينما العربية مع النصوص الروائية إلى أوج تألّقه مع التجربة الروائية للفائز العربي الوحيد بجائزة نوبل للآدب عام 1988، وأقصد الكبير نجيب محفوظ، الذي لم يكتف بمنح السينما دررًا من إبداعاته الروائية لتحويلها إلى أفلام، بل كتب هو نفسه عددًا من السيناريوهات للسينما.
وكمثال على ذلك، يمكن أن نشير فقط إلى فيلم "اللص والكلاب" (1962)، والأثر الذي خلقه في تلك الفترة وما بعدها، لنبرز الأهمية التي اكتساها هذا التعاون الفعال والمنتج ما بين السينما والأدب. أما بخصوص التجربة المغربية في هذا المجال، فتبدو محدودة إلى حد كبير. فالأفلام السينمائية التي اقتبست روايات كتبها مغاربة تبدو محدودة جدًا ومخجلة، وقد حظيت نصوص قليلة جدًا بهذا الشرف، وهي حسب علمي "جارات أبي موسى" لأحمد التوفيق، و"بولنوار" لعثمان أشقرا، وقصة "بامو" لأحمد الزيادي، و"الغرفة السوداء" لجواد أمديدش، وربما غيرها.
وإذا ما حاولنا الوقوف عند مشكلة محدودية اقتباس السينما المغربية لروايات الكتاب المغاربة لتحويلها إلى أفلام، وحددنا أهم أسبابها، سنجد ما يلي: التكوين الفرنكفوني لأغلب المخرجين المغاربة، مما يجعل اطلاعهم على الروايات المغربية المكتوبة باللغة العربية محدودًا جدًا، وظاهرة المخرج المنتج الممثل الكاتب، فللأسف هناك مخرجون يفضلون القيام بكل شيء، وفي المحصّلة النهائيّة لا يقومون بأي شيء، وتأثّر الرواية المغربية في إحدى مراحلها بالرواية الفرنسية الجديدة، وكنتيجةٍ لذلك، الاهتمام المفرط باللغة الشعرية، وإهمال البعد السردي الذي يهم السينمائيين بشكل خاص.