}

مهرجان لوكارنو السينمائي: حضور سياسي طاغ



كلّ شيء قيل قبلًا، حرٌّ شديد وغلاء فاحش ومهرجان يهتم بسينما المؤلف. حسنًا كل هذا كان صحيحًا. مع شيءٍ من نسبيّة، لا بدُ. فإن اتحدتْ الآراء حول أمور معينة فهي تتفاوت في حدّتها أو مستوياتها.

مهرجان لوكارنو السينمائي (سويسرا)، ولا صفة للدولي في تسميته،  يعتبر من ضمن العشرة الأهم في العالم. في دورته الـ 76 (2-12 آب/ أغسطس 2023) كان متنوعًا ومفاجئًا في بعض اختياراته، في المسابقة الدولية على الأقل. هناك أفلام تجتمع عليها الآراء، بمعجزة، هذا أمر لا يثير الدهشة حقًا، ما يثيرها هو ألا يحتمل بعضٌ فيلمًا فيخرج من العرض الصحافي له، فيما يبقى بعضٌ آخر على مضض، بينما يصرّ بعض، قليل جدًا (يجب التنويه)، على أنه فيلم رائع. حصل هذا مع فيلمين على الأقل في المسابقة. لكن، ولحسن الحظّ وخاصة لمن هم في لجان التحكيم، هناك بضعة أفلام تتفق عليها الآراء في كثير من الأحيان.  كما أن هناك أعمالًا تستنفد صبر مشاهديها بطولها مثلًا (أكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة) لا سيما في المهرجانات حيث تتاح مشاهدة أكبر قدر من الأفلام، وأيّ فيلم قد يضيّع فرصة مشاهدة آخر.

يتميز المهرجان بعروضه اليومية في الهواء الطلق في المربع الكبير (غراندِ بياتزا)، قلب لوكارنو كما يطلق عليها، ساحة تتسع لـ 8000 متفرج فيها إحدى أكبر الشاشات في العالم، يوميًا تستقبل المدعوين المكرّمين، كلّ عرض هو حدث بحد ذاته، كلّ مساء يعرض فيلم لأحد المكرّمين أو أفلام أخرى قديمة أو حديثة من إنتاجات دولية في عروض عالمية أو دولية أولى، يراد لها أن تحقق رضى الجمهور العريض وأذواق النخبة. يتمّ التصويت كل يوم لجائزة الجمهور على هذه الأفلام. هناك أيضًا عدة مسابقات: دولية، وسينمائيو العالم المعاصر، وأسبوع النقاد وأخرى عديدة.

تختار المسابقة الدولية على نحو أساسي أفلامًا من شتّى الأنحاء تعرض للمرة الأولى عالميًا لتفوز بجائزة الفهد الذهبي (باردو دو أورو) المرموقة. إنها واجهة مؤلفين مكرسين وفرصة لاكتشاف جدد، تترك فيها مساحة مفتوحة للسرد والتجديد. ترمي المسابقة، كما يقول المنظمون، إلى تخيل أراض أخرى للفن السينمائي وجعلها نقطة التقاء لأفضل الأشكال الجديدة للسينما المعاصرة إنما وفقًا لتاريخ وتقاليد مهرجان لوكارنو السينمائي.

قررت اللجنة منح الفهد الذهبي ومعه جائزة مالية (75 ألف فرنك سويسري) لفيلم "منطقة حرجة" للإيراني علي أحمد زاده معتبرة إياه "ترنيمة للحرية والمقاومة في إيران" 


عرض المهرجان 214 فيلمًا في كل أقسامه، وتضمنت المسابقة الدولية 17 فيلمًا من كل من الفيليبين، إيران، اليونان، أستونيا، أوكرانيا، رومانيا، إسرائيل، هولندا، إسبانيا، الأرجنتين والولايات المتحدة الأميركية، وفيلمين من كل من فرنسا وإيطاليا والبرتغال.

لجنة التحكيم كانت برئاسة الممثل الفرنسي لامبير ولسون، وعضوية الممثلة الإيرانية الفرنسية زهرة أمير إبراهيمي (الفائزة بمهرجان "كان" الأخير)، والأميركية ليسلي كلينبرغ رئيسة الفيلم في مركز لنكولن، والمخرجة البريطانية شارلوت ويلز، وأماتياس كنول رئيس أكاديمية الفيلم الأوروبي في هولندا. قررت اللجنة منح الفهد الذهبي ومعه جائزة مالية (75 ألف فرنك سويسري) إلى فيلم "منطقة حرجة" للإيراني علي أحمد زاده معتبرة إياه "ترنيمة للحرية والمقاومة في إيران". وكان المخرج في تقديمه للفيلم كتب ما يلي: "لقد عملت مع أناس حقيقيين. في معظم الحالات، كان علينا إخفاء الكاميرا أو إيجاد حيل معقدة للتغلب على القيود. كان صنع هذا الفيلم تمردًا كبيرًا. إظهاره يعني انتصارًا أكبر لنا". وها قد ظهر وانتصر! يرسم الفيلم العالم السفلي للمدينة على نحو مذهل في سوداويته وغرابته في المضمون والشكل. وتبدو فيه طهران مرتعًا لتجار المخدرات والمدمنين والشاذين والمجانين والذين يجدون في هذه الحياة القميئة ملاذهم الوحيد. ووبما أنه صُوّر سرًا في شوارع طهران ومن دون إذن السلطات؛ كانت المشاهد ليلية حيث تخلو الشوارع، أو داخلية. وقد احتوى لقطات مثيرة لشخصية رئيسية (صانع حبوب الهلوسة وعدة أنواع من المخدرات)، مقززة في مظهرها وفي أسلوب حياتها وتعاملها مع الآخرين، ومنها كلبه الذي بدت علاقة ذات ايحاءات جنسية تربطه به (الكلب في مشهد طويل يلحس ساق صاحبه فيما هو تحت تأثير المخدر والتهويم الجنسي). ويبدو أن الظروف والإمكانيات التي كانت موجودة للمخرج لعبت دورًا رئيسيًا في طريقة تحقيقه للفيلم. فقد فرضت تلك عليه أسلوبًا في الإخراج تمثّل بتقسيم الفيلم إلى عشرة أفلام قصيرة، تشكّل منها الفيلم في النهاية. كان الطاقم صغيرًا جدًا: الممثل الرئيسي والمخرج ومشغّل الكاميرا ومسجل الصوت. واستعملت كاميرا يدوية صغيرة في تصوير بعض المشاهد في المطار سرًا حيث اندسّ المخرج بين صفوف المستقبلين لعدم لفت الانتباه. كما لجأ في بعض الأحيان إلى استخدام تصاريح مزيفة، وفي أحيان أخرى إلى رشوة الشرطة. وقد استغلت كل هذه الظروف لتحميسه وطاقم العمل ليقول ما يريد قوله كمخرج. وألقى المنتج الإيراني الألماني خطبة عند تسلّم الجائزة، فالمخرج لم يستطع الحصول على تأشيرة للخروج لحثّ العالم على الوقوف مع الشعب الإيراني. وكان تحدّث في لقاء صحافي في نشرة المهرجان عن الفيلم وظروف تصويره مختتمًا بالقول بأنه تعلّم كيفية عمل النظام في إيران، "فكلما كان المرء في دائرة الضوء، كلما أصبح أكثر أمانًا"، وها قد وقعوا في دائرة الضوء، كما أَمِلَ! فهل سيخشى المخرجون يومًا تواجد أي عمل إيراني في المسابقات؟

لقطة من فيلم "لا تتوقع الكثير من نهاية العالم" وأخرى من فيلم "سهوب"


وخالفت النتيجة عديدًا من التوقعات ولا سيما لدى النقاد الذين مال عدد كبير منهم إلى فيلم "لا تتوقع الكثير من نهاية العالم" للمخرج الروماني رادو جود. لكن هذا الفيلم نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة مع جائزة مالية (30 ألف فرنك سويسري). وألقى المخرج بعد فوزه خطبة نارية لم تخلُ من حسّ دعابي اتّسم به داعيًا إلى عدم الحياد في الموقف من روسيا في حربها على أوكرانيا، مشيرًا إلى سويسرا بالذات. وجاء فيلمه ممتعًا مع بعض طول (163 د)، وفيه انتقاد صارخ ساخر لشروط العمل في العالم المعاصر، وفي رومانيا تحديدًا، حيث استغلال واقتصاد العمل الحرّ. بطلته أنجيلا تعمل فوق طاقتها وتتقاضى أجورًا منخفضة، تقود سيارتها في أنحاء مدينة بوخارست بدون توقف ليلًا نهارًا كما يُطلب منها وبتكليف من شركة متعددة الجنسيات (ألمانية نمساوية) لتصوير ضحايا عدم تطبيق شروط الأمان في العمل. ويكشف الفيلم بأسلوب شديد الهزء عمل هذه الشركات حيث تحاول في الواقع إلقاء اللوم على العمال فقط. وابتكر المخرج بنية سردية اهتمت باللغة الجمالية وقامت على ربطٍ بين أنواع سينمائية مختلفة من فكاهة ودراما وسخرية وتوثيق حيث بني الفيلم على جزأين متداخلين، استخدم في واحد حوارات مستقطعة من فيلم روماني قديم حول امرأة في العهد السوفياتي تعمل سائقة، وفي ثان ركّز على أنجيلا في الوقت الحالي، في مقارنة بين الحالتين.

وإن لم يقنع الفوز الإيراني بالجائزة الذهبية، فإن فيلم الأوكرانية مارينا فرودا "سهوب" والذي استحقّت عنه جائزة الإخراج، كان غاية في الجمال والشاعرية والعمق الإنساني. وتميّز أسلوبه الإخراجي بالسلاسة والجذب على الرغم من أحداثه القليلة وعدم لجوئه إلى الإبهار الفارغ واعتماده على الصمت. فيلم "سهوب" الذي انتهت المخرجة من تصويره قبل الحرب في بلادها، يستحضر بإخراج محكم وحساسية مؤثرة وتصوير مبهر للمناظر الطبيعية الشتوية الأوكرانية، عالمًا قديمًا يتلاشى بأفراده وتقاليده، حيث قرى تفرغ من سكان، وذاكرة أفراد تنكشف بعد فوات الأوان. وهذا في أجواء تجسّد مشاعر العزلة الناشئة بين الناس في مجتمع ما بعد الاتحاد السوفياتي. إنها قصة أناتولي، الذي يعود إلى المنزل لرعاية والدته التي تحتضر. ويجعله لقاؤه مع شقيقه وامرأة يحبها يفكر في الخيارات التي اتخذها طوال حياته.

وحصل الوثائقي الفرنسي "ليلة مظلمة" (183 د) لسيلفان جورج على تنويه خاص من لجنة التحكيم حيث تموضعت عدسته في جيب إسباني في المغرب، يمثل حدودًا بريّة بين القارة الأفريقية وأوروبا، وتابع هناك بكاميرا حساسة لسنوات للجماليات، رغم قباحة الوضع، مسيرة شباب قاصرين من المغرب يحاولون العبور إلى "الجنة" والوصول إلى أوروبا بأي وسيلة. ومن خلال تصوير الأطفال الذين يعيشون في الشوارع، أظهر الفيلم كيف تتشكل الشخصية المقاومة تدريجيًا لأبطاله.

ونالت الممثله اليونانية ديمترا فلاغوبولو جائزة التمثيل عن دورها في "حيوانات" لصوفيا أكزارشو وجسدت فيه دور راقصة ومغنية في فرقة تعمل في الملاهي الرخيصة والحفلات.  وأيضًا حصلت الممثلة رينيه سوتنديك على جائزة عن تجسيدها دور زوجة مدير شركة أيام الاستعمار الهولندي لأندونيسيا في فيلم "أحلام حلوة" للهولندية إينا سيندياريفيك. وهذا في ظلّ غياب جائزة الأداء الرجالي حيث اعتمد المهرجان للمرة الأولى في تاريخه تقديم جوائز تمثيل محايدة جنسانيًا. 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.