}

عن الأغنية الفلسطينية: سند للثقافة الوطنية

أشرف الحساني 20 يناير 2024
موسيقى عن الأغنية الفلسطينية: سند للثقافة الوطنية
ريم بنّا (Getty)
يُشكّل التراث، بنوعيه المادي واللامادي، سندًا حقيقيًا للثقافات الوطنية في سبيل تحرّرها من الآخر الغربي الذي بات يسكنها، سياسيًا وثقافيًا وفنيًا. علمًا أنّ هذه الإقامة تأتي بأشكال عدة من المثاقفة، الأولى يفرضها الاستعمار الغازي للبلدان العربية، وما يُمارسه من تأثير على نُظم العيش وتغيير جذري للقيم الاجتماعية والرواسب الثقافية، فتكون هذه المثاقفة مفروضة لا تختارها المجتمعات المهزومة عسكريًا، وإنّما تجد نفسها مرغمة على العيش داخل هذا البراديغم الذي يفرض حياة أخرى. فيكون الفرد المُستعمر خاضعًا لهيمنة عسكرية تدفعه إلى التخلّي عن هويته وارتياد المنافي الروحية التي تجعله غريبًا عن أرضه وتاريخه وذاكرته. إنّها شكل من أشكال الاستلاب الحضاري الذي تغدو فيه الهويات مُهدّدة وتحت وطأة الاحتلال الغاشم. أما المثاقفة التلقائية، فهي التي تستند على شروطٍ يتحكّم فيها التاريخ وتبني الأفق الفكري للذاكرة ومُنعرجاتها. ويُعدّ هذا النوع من المثاقفة صحيًا وله دور كبير في تكامل الحضارات على أساس أنّه لا توجد حضارة في العالم لم تتأثّر بالحضارات التي سبقها. فكلّ حضارة لا تجُبّ التي قبلها، وإنّما تعمل على محاكاتها واستلهام نماذج كثيرة منها على مستوى اللغة والعادات والتقاليد والأزياء والصنائع والحرف والموسيقى، وغيرها. فتكون هذه الحضارة "مُكتملة" ومُركّبة وخاضعة إلى أسس تاريخية. وعلى مدار سنوات طويلة، ظلّ التراث بمختلف ألوانه، شكلًا من أشكال الوجود العربي، وقوّة ناعمة لمقاومة المُستعمر.
الموسيقى والأغنية والأفلام والفوتوغرافيا والمسرح واللوحة والأدب بمُختلف أجناسه من الوسائل التعبيرية القويّة التي أحبطت الاستعمار، وجعلته يخسر رهانه في سلب هوية الشعوب العربيّة. ذلك أنّ هذه الأشكال التعبيرية مُنفلتة من قبضة المنع العسكري، لكونها أشكالًا رمزيّة عابرة، لكنَّ تأثيرها أكثر وقعًا وفتكًا في جسد المُحتلّ. ولذلك، إذا عُدنا إلى تاريخ الشعوب العربية سنعثر على كثير من اللحظات التي تحوّل فيها الفنّ إلى وسيلة للمقاومة. وتختلف حدّة التأثير من فنّ إلى آخر، فإذا كانت الأعمال الأدبية أنتجت خطابًا أدبيًا عرّى مزاعم الاحتلال، وكشف عن تاريخ الألم الذي تسبّب فيه الاستعمار داخل بعض البلدان العربيّة، فإنّ الأغنية استطاعت أنْ تُحلّق بعيدًا بمُخيّلة الشعوب ودفعها إلى الثورة على الأنظمة الفاسدة والديمقراطيات الكاذبة، عبر أغانٍ صغيرة مُلتزمة بقضايا الوحدة والعروبة واليسار والتحرّر، أغانٍ باقية إلى اليوم في الذاكرة والوجدان.
إنّ الحالة الفلسطينية تُعدّ أكثر اللحظات المُذهلة في تاريخ الأغنية العربيّة، ذلك أنّ المُستمع للريبرتوار الغنائي يعثر على عدد كبير من الأغاني الشعبيّة التي لعبت دورًا في مناهضة الاحتلال وتعرية جرائمه ومآزقه وتصدّعاته. واتخذ كثير من الفنانين من الأغنية وسيلة للتعبير عن ذائقتهم السياسية، حتّى غدت ملاذًا آمنًا لهم، يرنون إليها كلّما اشتدّت الحرب على المُدن الفلسطينية. بل إنّ بعض الأسماء الجديدة، لم تتعامل مع هذا النّمط وفق آلية مرحلية براغماتية تُحاول استغلال حرارة الحدث السياسي داخل المنطقة، وإنّما أصبح هذا اللون الغنائي أسلوبًا فنيًا وميسمًا جماليًا بالنسبة لها تنطبع به تجاربها، ومن خلاله ينسج أصحابها علاقة دائمة مع الجمهور العربي قوامها المقاومة والإبداع والابتكار. وإذا تأملنا الساحة الفنية الفلسطينية، سنعثر على مجموعة من الملامح الجماليّة التي تُميّز هذا الريبرتوار، وتجعله مُذهلًا بتنوّعه الموسيقي وأصيلًا بتجاربه الغنائية. لذلك ففلسطين اليوم غنيّة بزخمها الفني، وأصبحت مُختبرًا جماليًا حقيقيًا لتطويع الكلمة وتكثيف القول. كما أنّها كانت وما زالت تُقدّم للشعوب العربيّة دروسًا في المقاومة والنضال، من حيث استغلال الفنون وجعلها تدخل ضمن سيرورة المقاومة الشعبية والنضال اليوميّ.



ثمّة أنواع وأشكال من الأغنية الرائجة بقوّة في فلسطين تبرز على سطح المشهد اليومي. الأولى "واقعية" وهي نمطٌ غنائي يُساير فيه الموسيقي والمغني تحوّلات الجغرافية الفلسطينية، سياسيًا واجتماعيًا. وهذا النموذج يُعد ضمن حداثة الأغنية الفلسطينية، لأنّ بعض التجارب على سبيل المثال لا الحصر، مثل شادي زقطان، وجوان صفدي، وربى شمشوم، وفرقة "ضربة شمس"، أخرجت الأغنية من قوالبها الموسيقيّة، وجعلتها ترتاد آفاقًا أخرى لا يُمكن إلاّ أنْ تقترن بمفهوم الحداثة الموسيقيّة في بُعدها الكوني الأصيل. تجربة العازف شادي زقطان من التجارب التي خلقت تواشجًا جماليًا مع الواقع الفلسطيني، لا بطريقة تُحاكي فيه السياسة والاجتماع، وإنّما بتبطين الأحداث السياسية وتشرّب التحوّلات الاجتماعية، ثمّ التعبير عنها بطريقة ذاتية. فعبر مختلف هذه المراحل بين السياسة والمجتمع والجسد، تبني أغنية صاحب "عن بلد" بهجتها في مُخيّلة المُستمع لتُمطره بنوعٍ من الحكي الغنائي المُدهش والمُفاجئ بخاماته الصوتية المتنوّعة، يمزجها بعزفٍ مُذهل عبر آلة غيتاره.
الأغنية عند شادي، أغنية مُلتزمة بواقعها وتاريخها وذاكرتها، أغنية تضع الشرط الإنساني في قائمة اختياراتها الجماليّة. إذْ دائمًا ما يُفاجئنا زقطان بمقطوعاته الغنائية التي يحرص فيها على المزج بين الغناء والعزف، فقلّما نعثر على فنان يمزج بينهما ويُجيد مبادئ الصنعة، والحفاظ على شعريتهما في ذاتية المُتلقّي. أما معماره الموسيقي، فهو غربي بامتياز. غير أنّ الحضور الغربي عبر الآلة الموسيقيّة ليس تبعيّة للغرب، وإنّما وعي دقيق بتحوّلات الموسيقى المعاصرة ورغبة عدد من الفنانين العرب في اختراق حدودهم، والتعبير بطلاقة بلغةٍ موسيقية يحفظها العالم، لكنْ مع البقاء على الهوية الفلسطينية وجمالها. أما الفنانة ربى شمشوم، فتبقى الأغنية بالنسبة لها فعلًا ذاتيًا يقوده الحدس للتعبير تجاه واقع متبدّل. في ألبوميها "شامات"، و"ريشة"، تُصبح الأغنية مطيّة للهروب من هذا الواقع، صوب عالم يختلط فيه الحلم بالفانتازيا. غير أنّ النصّ يُحاول على شكل مونولوغات التخفيف من حرقة الواقع، فيبدو الجسد الغنائي مرآة انكسارات الروح. وتعطي للصوت إمكانية قول كلّ شيء، لكنْ بمُرافقة موسيقية غربية تمتح عوالمها من الكومبيوتر الذي يُرافقها في تأليف موسيقاها.

الأغنية عند شادي زقطان مُلتزمة بواقعها وتاريخها وذاكرتها

أما الأغنية التراثية، التي يُمكن حصرها عند ريم بنّا، وسناء موسى، فتتّخذ مسارًا جماليًا مغايرًا، إذْ يُعد هذا اللون الفني وسيلة لتأكيد الهوية الفلسطينية ومناهضة الاحتلال الإسرائيلي، بحكم الخلفيات المعرفية التي تُظلّل سيرة الأغنية التراثية. في تجربة ريم بنّا، يتّخذ التراث بُعدًا وجوديًا. فالنصوص مُذهلة بالتزامها السياسي، فهي نصوصٌ مكتوبة بشكلٍ جيّد، ولها وقع كبير على مُستوى الكلمة، لكنّ صوت ريم الحالم في خامته، والمُجدّد في إلقائه، يُعطي للأغنية ميسمًا جماليًا يُخرج هذا النوع الغنائي من شكله القديم. الأغنية عند بنّا شكل من أشكال التعبير الأيديولوجي المُتحرّر من شروط السياسة وميثولوجياتها، عبر إعطاء قيمةٍ أكبر للأبعاد الجمالية في تأسيس شعريّة النصّ الغنائي والدفع بموسيقاه إلى الغوص في التراث العربي، لكنْ وفق وعي موسيقي مُجدّد وآسر، كما هي الحال، مثلًا، في أغنية "الغائب". وتُعد ريم أيقونة داخل الغناء الفلسطيني، وصوتًا أصيلًا في التجربة الغنائية العربيّة، طالما رأى فيه الباحثون "صوت القضية الفلسطينيّة"، لأنها كانت الصوت القادر على التقاط تفاصيل الواقع الفلسطيني في قالب غنائي حالم وراقٍ بنصّه وشعريّة موسيقاه. بيد أنّ تعامل صاحبة أغنية "أثر الفراشة" مع الواقع لا يأتي وفق طريقةٍ ميكانيكية، بل من خلال تخييل هذا الواقع وجعله يبرز شكلًا مختلفًا داخل مختبر الأغنية وموسيقاها، لأنّ الأمر يتعلّق بعملٍ فنّي هاجسه التخييل، وليس بيانًا سياسيًا وأيديولوجيًا.
أما سناء موسى، فقد شدّها التراث منذ طفولتها، وحاولت عبر امتداد الزمن أنْ تتشرّب هذا التراث الفلسطيني، حتّى نضجت قريحتها الغنائية، فحاولت أنْ تُعبّر عنه وفق طريقة ذاتية تُخرجه من شكله الكلاسيكي المعهود في الغناء العربي، صوب آفاق موسيقية رحبة. يبدأ هذا العبور للتراث في تجربة سناء موسى من التأليف الموسيقي الذي تتعامل فيه مع آلاتٍ موسيقية غربيّة أكثر وعيًا بكثافة النصّ التراثي. حافظت سناء على الجملة اللحنية على بساطتها وشعبيتها وسحرها، لكنْ مع إعادة توليف اللحن عن طريق البنية الإيقاعية للموسيقى. وذلك لأنّ هذه القولبة الجديدة للجملة اللحنية هي التي تُساهم في تجديده وجعله ينتقل إلى الأجيال القادمة من خلال نظامٍ موسيقيّ تستسيغه هذه الأجيال. إنّ الموسيقى المعاصرة لها سحرها ووقعها الكبير على ذائقة الأجيال الجديدة، وبالتالي، فإنّ أوّل صعوبة، أو شكل مقاومة، تُواجهه الأغنية التراثية هي مع نفسها أوّلًا، من أجل التفكير في صيغ فنية وملائمة تُحرّرها من النّمط القديم، وفي الوقت نفسه إخضاع نظام تأليفها إلى عناصر تحديثية تجعلها مُستساغة في أذن المستمع اليوم. وعت سناء أنّ المدخل الآمن لتجديد التراث الفلسطينيّ يبدأ من القيام برحلة طويلة وسياحة فسيحة في مختبر الموسيقى المعاصر. وهكذا وضعت الأغنية في قالب موسيقي مختلف وجريء في تحطيم القوالب الفنية ومعمارها الجمالي، في سبيل البحث عن جماليات جديدة تُعبّر عن الواقع الفلسطيني، وتُقاوم الاحتلال بطريقتها، وبطريقة غنائية تستوعبها الأجيال الجديدة، وتُعيد عبرها التفكير في إمكانية الأغنية التراثية، وما الذي يُمكن أنْ تُقدّمه للفنان المعاصر من قُدرة على الحلم والتعبير والنقد والمقاومة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.