مع نهاية مهرجان وهران للفيلم العربي في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تباينت الانطباعات وردود الأفعال حول الدورة الثانية عشرة التي عادت بعد انقطاع دام 6 سنوات كاملة، وحملت معها مفاجآت كثيرة أولها عرض 22 فيلمًا قصيرًا بعنوان "من المسافة صفر: من غزة إلى وهران" تحت إشراف المخرج والمنتج السينمائي الفلسطيني رشيد مشهراوي، واستحداث جائزة لأفضل الأفلام الوثائقية القصيرة إلى جانب الطويلة، وتقديم ندوات وورشات حول السينما، كما واستضافة سينمائيين عالميين أمثال المخرج العالمي كوستا غافراس المتحصل على جائزة "أوسكار" وكذا زوجته المنتجة ميشال غافراس، والفنان المصري القدير محمود حميدة، وتكريم المخرج الجزائري الكبير محمد لخضر حامينا صاحب السعفة الذهبية لمهرجان كان عام 1975، حيث استلم جائزة التكريم نجله طارق، في حفل الافتتاح.
عودة بعد 6 سنوات من الغياب
أشاد الجمهور والمثقفون الجزائريون المهتمون بالسينما بعودة المهرجان، وقال إبراهيم صديقي، المحافظ السابق لمهرجان وهران للفيلم العربي، في حديث مع "ضفة ثالثة": "المهرجان يمثّل واجهة مهمة للإبداع السينمائي الجزائري، لأننا لا نملك مهرجانا دوليا آخر بحجم مهرجان وهران، الذي تعوّد عليه العرب والأجانب، بفضل بُعده الدولي في لجان التحكيم، الأفلام المعروضة وضيوف الشرف، بالإضافة إلى احتضان مدينة وهران له، وهذه الأخيرة تعتبر رمزًا من رموز الجزائر في العالم".
وعن الدورة الأخيرة أكد إبراهيم صديقي أن العودة كانت قوية، وكان المهرجان كبيرًا ومحكمًا رغم وجود هفوات لا تنقص من قيمته شيئا، إذ ضمّن المنظمون افتتاحًا جميلًا، وتمكنوا من استقدام أسماء سينمائية مشهورة، واحترموا البرنامج الذي وضعوه، فيما يتعلق بأفلام المسابقة وغيرها. ويضيف: "تابعت الصدى الإعلامي للمهرجان، ويمكنني القول إنه جيد، الضيوف الذين غادروا كتبوا شهادات جميلة وداعمة، نتمنى في دوراته القادمة أن يكون أكبر".
وشدّد صديقي على أهمية النقد البناء وعدم التركيز على الهفوات، موضحًا: "نحن في حاجة إلى رفع معنويات بعضنا وأن نستقر أكثر في نشاطاتنا وأن نكون أكثر لمعانا، وأكثر تأثيرًا في محيطنا وأن تكون لنا مواعيد للفن بمختلف أنواعه، أتمنى أن نقلّل من حدة التخاصم عند إبداء الآراء ولا بأس من النقد، فالناقد هو المستشار الكبير لأي تظاهرة ثقافية وعلينا أن نستمع إليه وأن نثمن نصائحه وتوجيهاته على أن يكون ملتزما في آداب النقد".
وعن تطلعاته في الدورات القادمة، قال إبراهيم صديقي إنه يتمنى أن يتوسّع المهرجان، وأن يتم التركيز على الإنتاج السينمائي الغزير والجيد لكي نتمكن من المنافسة في المهرجانات العالمية وأن نعيد للسينما الجزائرية بريقها.
من جهته قال الكاتب والإعلامي الجزائري عمار بورويس، في حديث مع "ضفة ثالثة"، إن عودة مهرجان وهران الدولي للسينما العربية، بعد سنوات من الغياب، تُعدّ في حَدِّ ذاتها، حدثًا ثقافيًا مثيرًا للإعجاب والتصفيق، بعد أن دخل المهرجان نفقًا مظلمًا هدّد بزواله نهائيًا، كما زالت مهرجانات سينمائية محلية أخرى كثيرة، كمهرجان تبسة، أو مهرجان قسنطينة مثلًا.
واستذكر بداية المهرجان قائلًا: "عاد مهرجان وهران هذه السنة لمواصلة مسيرة امتدت على مدار 12 دورة، بداية من الانطلاقة الجميلة، التي حدثت ذات يوم من سنة 2007، وكنتُ شاهدًا عليها، حيث تقلّدت منصب مدير الإعلام ورئيس تحرير مجلة المهرجان، تحت إشراف الأخ والصديق حمراوي حبيب شوقي الذي كان محافظا للمهرجان".
وعن برنامج المهرجان قال بورويس: "مخرجون سينمائيون جزائريون وعرب جاؤوا إلى وهران، محمّلين بأفلام تقتفي آثار العنف والاقتتال، وقدّموا أفلامًا جديرة بالمشاهدة والإعجاب، تتناول مخلفات الاقتتال، وتدعو إلى ترميم الجراح وصناعة الأمل من جديد. أفلام روائية قصيرة، وأخرى وثائقية، تحاول بلمسات فنية جميلة وحزينة أحيانًا، أن تعيد بناء الحياة، برغم صعوبة المهمة، أضف إليها جلسة متخصصة حول النقد، نشطها الأستاذ إبراهيم العريس، أحد أبرز النقاد في الفضاء العربي، بينما نشط رشيد بوشارب، المخرج الجزائري الشهير، ندوة حول تجربته في مجال الإخراج السينمائي".
تم عرض 22 فيلمًا قصيرًا بعنوان "من المسافة صفر: من غزة إلى وهران" تحت إشراف المخرج والمنتج الفلسطيني رشيد مشهراوي (عن صفحة المهرجان على فيسبوك) |
أفلام ترصد آثار الحروب
عرضت خلال المهرجان الكثير من الأفلام التي ترصد آثار الحروب، نظرًا للظروف الاستثنائية التي نُظّم فيها، إذ قال رئيس المهرجان عبد القادر جريو، خلال حفل الافتتاح، الذي ظهر فيه بالكوفية الفلسطينية، إن مبادرة عرض أفلام "من المسافة صفر" والتي صوّرت خلال الحرب الجارية على غزة، جاءت لتأكيد موقف الجزائر الدّاعم والثابت تجاه القضية الفلسطينية، وتضامنًا مع الشعب الفلسطيني وجميع الشعوب المضطهدة وهو موقف الجزائر الرسمي الذي طالما سمي بقبلة الثوار، وإننا كجيل جديد على خطى الذين سبقونا في هذه المواقف النبيلة، برمجنا عرض الأفلام مع ذكرى طوفان الأقصى المصادفة لـ7 أكتوبر.
وأشار إلى أن المهرجان الذي استغرق تنظيمه سبعة أشهر كاملة، جاء في فترة حساسة وظروف استثنائية نظرًا لما تعرفه المنطقة العربية والشرق الأوسط من حروب وتوترات، ليبرز أن السينما أداة صمود ومقاومة.
وفي هذا السياق يقول الكاتب والإعلامي الجزائري، عمار بورويس، متحدثًا لـ"ضفة ثالثة"، إن أفلام الدورة الثانية عشرة جاءت لرصد آثار الحروب وتداعياتها ولتبعث رسالة سلم للعالم من وهران، على غرار الفيلم الوثائقي الطويل "مطاردة الضوء المبهر" للثنائي ياسر قصاب وريما حامض من سورية الذي يرصد، في ستين دقيقة، معاناة اللجوء في صقيع السويد، ويبرز التمزق العائلي الذي عصف بسورية بسبب الحرب. وحول سورية ما بعد الحرب أيضًا، قدّم المخرج فراس محمد فيلمًا روائيًا قصيرًا بعنوان "خردة"، يبرز فيه معاناة السكان في قرية سورية بسبب الحرب. ومن الجزائر، يحاول المخرج محمد والي بعث الحياة من جديد في قرية هجرها السكان خلال العشرية السوداء، من خلال فيلمه "طحطوح". ومن اليمن، جاء المخرج عادل محمد الحميمي وهران بفيلمه "سطل" الذي يروي علاقة حب بين شيخ سبعيني ومدينة محطمة ومتهاوية بسبب الحرب اسمها صنعاء.
وضمن الأفلام الروائية الطويلة، أثار الفيلم العراقي "ميسي بغداد" الانتباه، بسبب محتواه الذي يتناول أيضًا آثار الحرب على الأطفال، وفي حين يغوص فيلم "رصيف بيروت" لفرح الهاشم من لبنان، في الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان وغزة، فإن فيلم "لد" لرامي يونس يتوقف عند نتائج الاستيطان الصهيوني، وسياسة تهويد القرى الفلسطينية المحتلة. يضع السينمائيون أنفسهم، بهذا الشكل، في موضع الشاهد على آثار العنف المسلح، منبّهين إلى الظواهر التي تنجم عن الحروب، وكأني بهم دعاة سلم، يحلمون بواقع خال من الحرب والعنف، مفتوح فقط على الحياة والحب والأمل.
استمرار المهرجان مطلب أساسي
قال الإعلامي الجزائري عبد العالي مزغيش في حديث مع "ضفة ثالثة": "نثمّن عودة المهرجان ونسعى لاستمراره وألا يتوقف مجددًا، الظروف المحيطة بالوطن العربي أثّرت على هذه الدورة، بعض السينمائيين السوريين، اللبنانيين والفلسطينيين غابوا عن المهرجان، في المقابل حضر نجوم عالميون من أمثال المخرج العالمي كوستا غافراس المتحصل على جائزة "أوسكار" وكذا زوجته المنتجة ميشال غافراس، بالإضافة إلى الحضور المكثف للنقاد السينمائيين الذين ساهموا في نقاشات ما بعد العروض".
وأشار المتحدّث إلى عرض أفلام "من المسافة صفر: من غزة إلى وهران"، على جزأين تحت إشراف السينمائي رشيد المشهرواي الذي التقى بالجمهور الجزائري، وتميّزت بأنها أنتجت تحت القصف وفي ظروف صعبة، وأضاف: "أتمنى أن يعود هذا العرض إلى الجزائر ليشاهد الجمهور مجددا الأفلام القصيرة التي تأثر بها وما يمكن أن تقدمه السينما عن ظروف الحياة في غزة وهمجية الكيان الصهيوني ومن يقفون وراءه".
وأشاد مزغيش باستحداث جائزة الأفلام الوثائقية القصيرة لأول مرة بالمهرجان، بعدما كانت مقتصرة على الأفلام الوثائقية الطويلة، والتي كانت وثائقية وروائية، متقاربة، مما صعّب الأمر على لجنة التحكيم. وفي هذا السياق قال مزغيش: "ما جذبني هو حرية النقاش بعد كل عرض والتعاون بين السينمائيين، خاصة إثر تنظيم ندوة الإنتاج المشترك التي أثارت الكثير من الأسئلة حول ضرورة التعاون بين السينما الجزائرية، العربية والأوروبية".
وكان المهرجان قد شهد منافسة شديدة، حيث عرف مشاركة أزيد من 60 فيلمًا من 17 بلدًا عربيًا، منها أكثر من 40 عملًا سينمائيًا من مختلف الفئات. وقد انتهت بتتويج الفيلم السعودي الطويل "مندوب الليل" بجائزة "الوهر الذهبي"، وهو للمخرج السعودي علي الكلثمي، ويروي الفيلم قصة معاناة رجل أعزب مضطرب تائه، يواجه كل ليلة زحام وشوارع الرياض في توصيل الطلبيات، يعيش في ظروف صعبة تدفعه للتخلي عن مبادئه. فيما عادت جائزة الوهر الفضي، للمخرج اليمني عمرو جمال عن فيلمه الطويل "المرهقون". وتُوّج فيلم "ميسي بغداد" للمخرج العراقي سهيم عمر خليفة، بالوهر البرونزي.
وفي الختام، تبقى تطلعات الجمهور الجزائري والقائمين على المهرجان إلى دورات قادمة أكبر وأقوى، وفقًا لما عبّر عنه رئيس المهرجان عبد القادر جريو في تصريح سابق: "إن مهمة المهرجان هي عرض أفلام جيدة، وجلب مخرجين مميزين، وإتاحة الفرصة للجمهور الجزائري لمشاهدة أفلام ذات جودة عالية. علينا أن نجعل من هذا المهرجان وجهة لكل صانعي الأفلام، ولتحقيق ذلك، يجب أن نراهن على المصداقية التي لا يمكن الحصول عليها إلا بجودة لجنة التحكيم، وجودة الضيوف، وجودة التنظيم. لذلك، لا أعلم ما إذا كان تأثير المهرجان على صناعة السينما مؤكدًا، لكن عندما نرى أنه رغم القصف، لا يزال الناس يصنعون أفلامًا ويشاركون ليكونوا في قائمة جوائز الأوسكار، فهذا، بالتأكيد، يحفّز الناس على الإيمان بالسينما ومواصلة العمل فيها".