وقد جمع الحفل بين عازف العود اللبناني المبدع شربل روحانا وفرقة "الثلاثي جبران" الفلسطينية الشهيرة، في لقاء فني وصفته رئيسة المهرجانات مايا دو فريج بأنه "لقاء تبادل وتضامن حول هذه الآلات الوترية ذات اللون الشرقي النقي بين أيادي موسيقيين كبار" من لبنان وفلسطين.
وأوضحت دو فريج أن الظروف الإقليمية الراهنة فرضت الاكتفاء بحفلة واحدة هذا العام، رغم أن التحضيرات كانت قد بدأت لبرنامج أوسع كان من المقرر أن يتضمن تكريمًا لنجم الباليه الراحل السوفياتي رودولف نورييف، الذي سبق له أن رقص في بعلبك عام 1964. وأضافت: "حفاظًا على أمن الفنانين والجمهور مع تواصل الهجمات الإسرائيلية، لم يعد لدينا خيار سوى نقل الحفلة إلى العاصمة لأن الصمت يعني الموت ببطء".
وكان المنظمون قد أعلنوا في تموز/ يوليو الماضي عن الاكتفاء بإقامة حفلة واحدة في ضواحي بيروت، وذلك في ظل استمرار القصف المتبادل شبه اليومي بين حزب الله ودولة الاحتلال منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وقد طاولت الغارات الإسرائيلية منطقة بعلبك مرات عدة، مما زاد من المخاوف الأمنية.
وفي تصريح لوكالة فرانس برس، عبر شربل روحانا عن أسفه لعدم إقامة الحفل في بعلبك، قائلًا: "كنا نتمنى أن نكون هناك لكن الظروف الأمنية فرضت إقامة الحفلة في بيروت". وأضاف أن الحفلة كانت ستتخذ طابعًا مغايرًا ورمزية مختلفة لو أقيمت في موقعها الأصلي.
واستهل روحانا الحفلة بمقطوعة "مياس"، حيث تنقلت ريشته برشاقة بين الأوتار وتراقصت أصابعه اللينة على زند العود. وقال: "عندما أعتلي المسرح أشعر بأنني أقوم برحلة وأسعى إلى اصطحاب الجمهور فيها، وأمنيتي إسعاد الجمهور وخصوصًا في ظل الأوضاع الراهنة". كما قدم توزيعًا مميزًا لأغنية "عالروزانا" الفولكلورية، وعزف "أنتِ والوتر" و"سلامي معك" من تأليف شقيقه بطرس روحانا.
واختتم روحانا، مؤلف كتاب "مقام العود"، القسم الأول بمقطوعة "كومون روتس" التي كتبها في التسعينيات، والتي تحمل تأثيرات غربية من إسبانيا وتركيا. وأعرب عن سعادته بالعزف مع موسيقيين من ثقافات مختلفة، مؤكدًا أن "كل تجربة هي بمثابة إضافة".
أما الفصل الثاني من الحفل، فقد بدأ بدقيقة صمت على أرواح الشهداء في فلسطين، تلاها عرض "الثلاثي جبران". وقال سمير جبران، أحد أعضاء الفرقة، مخاطبًا الجمهور: "سنعزف الليلة لنطمئن إلى أننا بشر فلا تبحثوا في داخلنا عن الضحية ولا عن البطل". وأضاف أن "ما يحصل أصعب من كل ما مرّ به الشعب الفلسطيني"، مشيرًا إلى أن "هذا العود هو السلاح الوحيد الذي نستطيع حمله وهو جميل لأنه لا يقتل بل يُحيي".
قدمت الفرقة، التي تحتفل هذا العام بعيدها العشرين، مجموعة من القصائد الوجدانية والوطنية للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. ورافق الفرقة المؤلفة من سمير المقيم في رام الله، ووسام الموجود في باريس، وعدنان الذي يعيش في لندن، عازفا تشيللو وإيقاع.
وفي حديثه لوكالة فرانس برس، وصف سمير جبران العزف في لبنان بأنه "تسديد بعض من ديون المحبة لهذا البلد الذي وقف مع الشعب الفلسطيني". وأضاف أنه وصل إلى بيروت قادمًا من رام الله وسيعود إلى الضفة الغربية، مشبهًا الزيارة لبيروت بأنها "قبلة سريعة لعشيقة وبعدها عودة إلى الوطن".
واعتبر جبران أن العزف على العود في هذه الفترة المليئة بالعنف والألم "يشكل مقاومة لنبقى أحياء وليبقى لدينا أمل أقوى من كل الحروب". واختتم القسم الأول بقصيدة "سقط القناع" للشاعر محمود درويش، مصحوبة بموسيقى سريعة الإيقاع، معربًا عن أمله في أن يكون اللقاء المقبل في القدس.
وفي ختام الحفل، قدم الفنانون لوحة موسيقية مشتركة، حيث عزف روحانا مع "الثلاثي جبران" مقطوعة "ليتنا"، كما رافقوه في أغنية من تأليفه وتلحينه تحية من بيروت إلى بعلبك، وسط تصفيق حار من الجمهور الواقف.
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تضطر فيها مهرجانات بعلبك إلى نقل فعالياتها بعيدًا عن موقعها التاريخي. ففي عام 2013، نُقلت الحفلات إلى خان الحرير في منطقة جديدة المتن بضواحي بيروت بسبب مخاوف أمنية مرتبطة بتداعيات الحرب في سورية المجاورة. وفي عام 2014، تمكنت المهرجانات من إقامة حفل الافتتاح في بعلبك، بينما توزعت الحفلات الثلاث الأخرى على موقعين مختلفين.