}
قراءات

"الإسلام والإنسان" لمحمد شحرور، صاحب القراءات المستنيرة

جمال شحيّد

18 أكتوبر 2016
من بين الكتب الصادرة مؤخراً عن الإدراك المستنير للدين الإسلامي، كتاب السوري هاشم صالح "العرب والبراكين التراثية. هل من سبيل إلى إسلام الأنوار؟" (بيروت، دار الطليعة، 2016) وكتاب "الإسلام والإنسان، من نتائج القراءة المعاصرة" للسوري محمد شحرور (بيروت، دار الساقي، 2016). وهما كتابان صدرا في غمرة الثورات العربية، ليقولا لنا: إن الثورة السياسية لا تنجح إلّا إذا مهّدتها ثورةٌ معرفية شاملة تعالج شؤون الدين والدنيا. 
أتوقف عند كتاب شحرور الذي أصدرتْ له دارا؛ الأهالي والساقي معظمَ كتبه اللاهوتية، ويعدّ اليوم مرجعاً في علوم القرآن المعاصرة.

أبدأُ من خاتمة الكتاب التي يسوّغ فيها قراءته الحديثة للنص القرآني. يقول: "بعد أن رأينا كثرة التناقضات التي شوّشت علينا ديننا، وجعلتنا نتخبط في فوضى فكرية عارمة بحيث أصبح الكل يدّعي أنه وصيّ على الدين، وأنه هو فقط من يمتلك الحقيقة المطلقة دون سواه [...]، أدركنا أنه، كي نفهم الدين الإسلامي الحنيف كما أراد الله لنا أن نفهمه، يجب علينا وضع التراث على جنب والبدء من النص المؤسس للدين". وهذا يذكّر بكتاب جورج طرابيشي "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. النشأة المستأنفة" (بيروت، دار الساقي، 2010) الذي رأى أن الحديث ابتلع القرآن وغيّب العقل وخلق شرخاً عميقاً بين النص المؤسس وبين الفلسفة والتفكّر وأدى إلى هزيمة العقلانية العربية الإسلامية، فيقول: "إن تغييب القرآن وتغييب العقل وتغييب التعددية في الإيديولوجيا الحديثية المنتصرة هو المسؤول الأول عن أفول العقلانية العربية الإسلامية؛ وعما قاد إليه هذا الأفول من انغلاق ذهني وحضاري أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية ليدخلها في ليل الانحطاط الطويل". ويدعو محمد شحرور إلى "تفسير القرآن بالقرآن"، وهو تفسير يعتمد على الدقة العلمية الحديثة التي "تمنحنا فهماً مغايراً تماماً للفهم المتعارف عليه في ثقافتنا الموروثة". ويرى أن هذا التفسير الحداثي هو "أفضل التفاسير وأرقاها مستوى وأكثرها مصداقية".

يبدأ كتاب شحرور بسؤال جوهري: من هم المسلمون؟ ويتوقف عند مفردات "التسليم" و"الإسلام" و"المسلم" و"المسلمون" في آيات عديدة من القرآن الكريم. ويرى أن الإسلام ظهر في عهد نوح ثم في عهد إبراهيم ولوط ثم في عهد يعقوب ثم في عهد يوسف ثم في عهد موسى ثم في عهد عيسى ثم في عهد محمد. ويعتبر أن كلمة "الإسلام" تشمل الأديان الإبراهيمية أو التوحيدية الثلاثة، وأن صفة الإسلام عريقة عراقة الرسل والأنبياء، إذ "إنهم كلهم كانوا مسلمين وإن كلّ من اتبّعهم يُعدّ مسلماً عند الله". فكل من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً يعدّ مسلماً حسب القرآن: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله وباليوم الآخِر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". فأتباع محمد هم "الذين آمنوا"، وأتباع موسى هم "الذين هادوا" وأنصار عيسى هم النصارى، و"أهل الملل الأخرى كالمجوسية والشيفية والبوذية وغيرهم على أنهم الصابئون"، هم كلهم مسلمون، إن التزموا بالإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح (وهي أركان ثلاثة لا بدّ منها). و"رضى الله مطلق في كل زمان ومكان عن كل من آمن بالله وعمل صالحاً... وليس محصوراً في جيل الصحابة، بل الله راض عن كل من آمن به وقام بالعمل الصالح مهما كانت ملّته الدينية في كل زمان ومكان". و"لا يشترط في المسلم أن يكون متّبعاً للملة المحمدية، لأنه قد يكون من ملة دينية أخرى".


وعنوان الفصل الثالث من كتاب شحرور عنوان لافت: "لا إكراه في الإسلام" أو "لا إكراه في الدين". وكلمة "لا" هنا هي نافية وليست ناهية لأن "حرية الاختيار هي النعمة الكبرى التي أنعم الله بها على الإنسان، وليس لأحد الحق في أن ينتزعها منه. ويرى شحرور أن الحرية هي أساس العبادية، لأن كلمة "عبد الله" تعني حرية طاعة الله أو معصيته بكل اختيار ومسؤولية. فالحرية إذن تصرّف وسلوك نابع من إنسانية الإنسان، وهي قيمة إنسانية راقية، "وهي وسيلته لرفض كل أنواع الخضوع والاستعباد". "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"؛ أي أن حرية الاختيار هي التي تولّد الاختلاف بين الناس، "وهذا الأمر طبيعي فهو الذي يولّد الإبداع الخلّاق لدى الإنسان". وهذا طبعاً يتنافى مع القدرية التي كثيراً ما نُسبت إلى الدين الإسلامي، وهو منها براء. ويسمّي شحرور - تيمناً بالقرآن - العقبات التي تحول دون تحقيق هذه الحرية بـ"الطغيان". وهو على أنواع :

الطغيان العقائدي: أي "الاقتناع بأن أعمال الإنسان ورزقه وعمره مكتوبة عليه منذ الأزل". فلا يكتب الله على زيد بأن يكون غنياً وعلى عمر بأن يكون فقيراً، لأن الخير والشر موجودان في متناول إرادة الإنسان. وما يجب أن نعلمه هو اقتناعنا بأن "الله لا يكتب الشقاء والسعادة، والغنى والفقر، وطول العمر وقصره على أحد منذ الأزل، بل وضع النواميس العامة التي من خلالها يتصرف الناس بملء إرادتهم وحرياتهم، وفي هذا يقع الثواب والعقاب والمسؤولية". فالظلم، إن حصل، هو إنساني، ومقاومته فعل إنساني، عكس ما يروّج له أدعياء الطغاة في العالم. فعندما يصلّي الكهنة قائلين "من أجل ملوكنا وحكّامنا" فإنهم يصلون من أجل الملوك والحكام العادلين والصالحين، وليس من أجل المستبدين الذين ينكلون بشعوبهم.

 الطغيان الاجتماعي : وهو مرتبط بالعادات والتقاليد، مما يؤثر على المعتقد الديني؛ وهذا يخلق فروقات لدى الجاليات الإسلامية (بالمعنى المحمدي للكلمة). ويتمثل هذا الطغيان بالآبائية التي هي "اعتقاد الصواب المطلق في اجتهاد الآباء وآرائهم إلى حد يبلغ القداسة". وهذا يذكّر بقول الشاعر اللاتيني هوراسيوس : "أجدادنا أفضل من آبائنا، وآباؤنا أفضل منّا". لذا يقول شحرور وجد الأنبياء والمرسلون ضنكاً شديداً من قومهم كي يوصلوا رسالتهم إلى الناس ويقنعوهم بها.

الطغيان الفكري : يقول شحرور إن في القرآن عشرات الآيات التي تحثّ على التعقّل والتفكّر، ومن بينها النظر في الأرض ونشأتها. ويُقرّ بأن الأوروبيين توصلوا إلى فهم مسألة بدء الخلق باختراع الكثير من التجهيزات التي ساعدتهم على المعرفة، وعلى التطور العلمي والطبي الهائلين. ويتوقف قليلاً عند مسألة التعليم الحفظي البصمي الببغائي عندنا، وعند التعليم التفكري القادر على الإبداع عندهم. ويعزو ذلك إلى كسلنا: "أصبحنا نفوّض إلى الآخرين التفكير عنا، ونأخذ ما قالوا دون مناقشة... لأن فكرنا التراثي مبني على الثقة السماعية لا على الحجة العقلية".

الطغيان العلمي : يرى شحرور أن العلم التراثي المتخشب قد طغى على المسلمين التقليديين (وما أكثرهم!) فأصابهم بداء الجهل المطبق وأفقدهم ملكة المحاكمة العقلية وملكة التفكير... لذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في مدى صلاحية أدوات المعرفة المستعملة لدينا باستخدام أدوات معرفية جديدة للقرن الواحد والعشرين، تمكّننا من فهم نصوص كتاب الله فهماُ صحيحاً، حتى نؤسس، بالاعتماد عليها، فكراً معاصراً يتماشى مع التطورات العلمية الجديدة". ويعتبر أن سر التقدم الفكري والعلمي منوط بإدخال أدوات المعرفة الحديثة لفهم النص القرآني.

الطغيان السياسي (وهنا بيت القصيد) : ويتمثل في هذا السياق بادعاء الربوبية والألوهية وبإسقاطهما على "القائد الذي يظن نفسه خالداً وغير قابل للنقد والمراجعة". فيظن الحاكم المتأله أن كل البلد ملكه الشخصي وأنه يملك جميع الناس وأنهم مجبرون على طاعته. ويضيف شحرور أن الدكتاتور يفعل هذا "عندما يشتد عليه الضغط للقيام بالإصلاحات في المجتمع، وذلك بالسماح بوجود معارضة على شرط أن تتقيد بشروطه التي يضعها لها، مع وجود دستور يوضع بإرادته وبمقاسه، بحيث ينتقل الحاكم الطاغي إلى البطش والإعدام عند حصول تمرّد عليه". ويورد مثال فرعون في آيات عديدة من القرآن. ويختم هذا القسم بالتصريح الآتي: "هذا النوع من الطغيان لا يجوز السكوت عنه، لأنه يحتقر حرية الإنسان وكرامته ويمنعه من الحصول على حقوقه وحرياته المشروعة، ويجعله يخضع له بالإكراه لفرض سيطرته عليه".

الطغيان الاقتصادي : ويتمثل في القرآن بشخصية قارون وبالظاهرة القارونية. وخير مثال على هذه الظاهرة احتكارات النفط والكمبيوتر والسيارات والتعدين... وتتبلور في الشركات والمصارف العالمية التي تحكم العالم برمته وتنهبه عملياً، فينصاع لاملاءاتها مكرهاً.

وبما أن الدين بكل ملله، من نوح إلى محمد،  يدعو إلى الإحسان نحو الآخرين وإلى رحمة الله، فإن الله وحده هو "صاحب الحق في معاقبة من كفر به يوم القيامة". وفي شرح شحرور لمعنى الكفر والتكفير يرى أن "أمر الكافر يبقى بينه وبين ربّه"، وأن التماثيل ليست أوثاناً يجب تدميرها، كما فعلت داعش في تدمر وغيرها. ويتصدّى بحزم للمتطرفين الإسلامويين الذين حوّلوا الموت إلى مؤسسة باسم الدين للوصول إلى غاياتهم ومطامعهم بإخضاع الناس لإيديولوجيا العنف، "والدين بريء من ذلك كل البراءة بل ويأمر بالوقوف في وجه هذا النوع من الطغيان الذي يريد تحويل الناس إلى عبيد وقد خلقهم ربهم عباداً أحراراً". ويرى أن لغة العنف مرفوضة في كل الملل الدينية، "فالمقال يقابله المقال، والرسم الكاريكاتوري يقابله مثله"، لأن حرية التعبير تتضمن الرأي والرأي المضاد. وهذه هي الوسيلة المثلى في طرح قضايا الاختلاف (وبينها الاختلافات الدينية)، "وهي وسيلة حضارية وأخلاقية ومشروعة قانوناً وديناً".

يعطي شحرور عنواناً لافتاً للقسم الرابع والأخير من كتابه، وهو "المواطنة والولاء للإسلام". وعلى ضوء النص القرآني والدراسات الحديثة، يتوقف عند معنى الأمة والقومية والشعب والوطن. ثم يقول إن "الإسلام بكل ملله الدينية يحث على بناء دولة مدنية وينادي إليها بشدة بدون شعارات رنّانة، لأنه يحمل في طياته الميثاق الإنساني الذي يجب أن تُبنى عليه هذه الدولة". ويرى أن القومية الواحدة تتضمن أمماً (بالمعنى القرآني للكلمة) عديدة "كالعرب المؤمنين [أي المسلمين] والعرب المسيحيين". وبما أن النبي في المدينة قد أنشأ مجتمعاً مدنياً مبنياً على التعددية، يجدر بأتباعه أن يبنوا "دولة مدنية ديمقراطية ليبرالية أو بمعنى آخر دولة المواطنة التي تُحترم فيها حريات الأفراد مهما كانت توجهاتهم الفكرية أو الدينية، وبالتالي تضمن حقوقهم كمواطنين، بحيث تصبح للمواطن فيها حقوق إنسانية مهما كانت ملته الدينية وقوميته". برنامج جدير بالاحترام والثناء، لامس فيه شحرور مقولة الدولة العلمانية التي تبقى قيمة إنسانية عظيمة، حتى إذا لم تطبّق الآن عندنا. ويُنهي هذا القسم قائلاً إن "الإيمان بالولاء للإسلام يستوجب ضرورة الدفاع عن القيم الإنسانية وعلى رأسها قيمة الحرية"، والاعتراف بالآخر المخالف لنا في العقيدة وفي الرأي. ويستنكر شحرور العمليات الانتحارية التي يُقْدم عليها بعضهم باسم الدين ويرى "أن هذه العمليات لا علاقة لها بالدين إطلاقاُ، ولا تخدم القيم الإنسانية بأي ناحية من النواحي، بل هي عمليات هدّامة هدفها زعزعة استقرار المجتمعات وإحداث الفوضى فيها لأغراض سياسية أو أطماع ومصالح شخصية لأفراد ما".

في خاتمة الكتاب يقول شحرور إن الإسلام، بالمعنى الشامل الذي حدّده آنفاً، "يدعو إلى التسامح والتآخي والتعاون والتعاطف والرحمة والبناء الإنساني بكل ما يتضمنه من بناءات: عقلي، أخلاقي، اجتماعي، هيكلي..."، مما يتعارض مع مقولات التعصب والعنف واستنكار الآخر واستبعاده.

في المحصلة، قرأتُ كتاباً تنويرياً هادئ النبرة ويدعو الى إسلام منفتح لا يشوبه التزمّت والتعصّب. لقد قدّم لنا محمد شحرور صورة بهيّة عن هذا الإسلام الذي لا يفقهه إلا العارفون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.