}
قراءات

"المغاربة" لعبد الكريم جويطي: عندما يركد الزمن ويتكرر

عبد الرحيم العلام

16 أكتوبر 2016

أنهيت قراءة رواية "المغاربة" للروائي المغربي عبد الكريم جويطي، فوجدتها، كسابقاتها من روايات الكاتب، رواية مدهشة وجريئة، وضعت يدها على مشكل الهوية، بوصفها صيرورة تتشكل وتنفك لتعاود التشكل، محتفظة بمآسيها وأعطابها وتشوهاتها.
في هذه الرواية، يتناوب على الحكي أخوان، لديهما ما يكفي من المرارة واليأس والنقمة على البلد، لكي يؤديا بدقة وظيفة تقويض الركائز وإسقاط البيت على من فيه. ولأن الأدب يمتلك دوما جرأة قول "الحقيقة" كما هي، وله القدرة على تقويض اليقينيات، وعلى أن ينغص على الراضين القانعين دعتهم وتوافقاتهم الكاذبة، ويقذف بهم في مجهول السؤال وشرك القلق، بل إنه ينصب أمامهم مرآة قاسية ليروا أنفسهم فيها بلا مساحيق، فقد استوت رواية "المغاربة"، مقوضة وعنيفة وقاسية قسوة جميلة، جريئة بلا تهور، ومشرحة بلا مشرط ولا دم.

فعبر نثر سخي وشاعري تعتصره المرارة، تلاحق الرواية بؤس هذا العمى الذي يعيشه الجميع، ويجعل من حياتهم مسرحية رديئة، تتلاهى بها قوى تمسك البلد في قبضتها، وتجعله يعيش ماضيه بإفراط، حتى الثمالة. تنفتح الرواية على حدث نقل شخصين إلى المستشفى: واحد ميت والآخر في نزعه الأخير، نعرف، من خلال المحكي، أنهما تواجها مواجهة دموية غامضة أدت إلى كل ذلك الخراب، لكننا لا نعرف ظروف وأسباب المواجهة. يتولى السرد الرجل المحتضر الأعمى الذي سيعود في الفصل الثاني ليحكي بعض وقائع طفولته المؤلمة. يبدأ الفصل بـ "يمكنك أن تسمي هذا الفصل.."، وهي صيغة ستتكرر في معظم الفصول التي سيحكيها هو، بمعنى أنه يحكي ما وقع له لمخاطب آخر، لا نعرف عنه أي شيء، ربما هو كاتب الرواية نفسه، وربما هو القارئ. يحكي الأعمى عن طفولة وسمتها إصابة عينيه بمرض ما يهددهما بالعمى، وعن محاولة جده تجنيبه هذا المصير، عبر زيارة موسم ديني وتجريب طميه المقدس كدواء، غير أن ذلك لم ينفع. سيموت الجد بعد أن انتزع منه بستانه لفائدة "شيء غامض اسمه المصلحة العامة".

الجريمة العاطفية

وسط ذلك الاضطراب، سيعود من حرب الصحراء المغربية، أخو المهدد بالعمى معطوباً، إذ انفجر تحته لغم أرضي، فسبب له عاهة عرج مستديمة. سيبدأ العسكري في كتابة ما وقع له، من خلال شذرات تنضح ألماً، وسيأخذ على عاتقه، ومثلما كان يفعل الجد، مهمة إنقاذ أخيه من العمى. سينشغل الأخ الأصغر بعماه القادم، في محاولة منه لإنقاذ نفسه وسط واقع قيامي غريب، ضاعت فيه بساتين المدينة وقيمها، وبدأ فيه سباق محموم على غنائم الوقت، فيما سينشغل العسكري، الذي خربت حياته تماماً ولم يعد له من أمل، بترتيب هجوم عنيف على المغاربة (كآخر حرب يخوضها)، فاضحاً مساوئهم وتشبثهم الخرافي بما يبقيهم آمنين في أوهامهم، لم يفلح في تغييرهم لا المتنبئون ولا الشعراء ولا الحالمون بغد أفضل، وعاش سلاطينهم في متاهات جبروتهم، وكان أولياؤهم متهالكين على الدنيا.. سيقترف العسكري ما سماها فارغاس يوسا "الجريمة العاطفية"، أي ذلك الهجوم الذي يشنه محب جريح عبر الكتابة على أوضاع وأمكنة وشخوص يريد قتلها لتلد أخرى أكثر حرية وكرامة.

على هذا النحو، وعبر تناوب الأخوين على الحكي في القسم الأول من الرواية، نرى مغرباً معذباً ومشدوداً إلى الأرض التي ستنتزع منه قطعة قطعة (حقل الجد)، وإلى الأولياء الصالحين الذين يجترحون كرامات، يرى فيها المغاربة باب خلاصهم. إنه زمن أسطوري تحضر فيه طفولة العالم المغربي، وتمشي فيه الخوارق على أرجل؛ زمن ينسحق فيه الإنسان تحت المرض والعجز والجوع والخوف وظلم من يسوس أموره، غير أنه يعتبر ذلك قدراً لا تنفع معه إلا "الصلاة والدعاء".

في خضم هذا الواقع الكافكاوي، الذي يتميز بغموض دار الباشا وبمشهد الجماجم العائدة من مجاهل التاريخ، نكتشف عنف السلطة، كما تبرزه تقاليد المخزن وآليات اشتغاله، من خلال مسار حياة الباشا بوزكري وعبد السلام، من بدايات القرن الثامن عشر حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين، كما نكتشف وقائع سنوات الرصاص، من خلال مأساة أبي الخبير مع الأجهزة الأمنية التي قتلته تحت التعذيب، وادعت بأنه انتحر، إذ تسبب ذلك في موت أمه وجنون أخته..

العود الأبدي

إلى جانب ذلك، تنفتح رواية "المغاربة" على حدث وتنتهي به، ولا شك في أن هذا الزمن الدائري، حيث تكتمل الدائرة فيما يشبه عودا أبدياً، يجسد خاصية مغربية، هي ركود الزمن المغربي ودأبه على إنتاج نفسه دوماً، بتجديد ظاهر في التفاصيل الصغيرة وغير الهامة، وبتمسك غريب بنفس الجوهر. يعيش المغاربة ما عاشه أجدادهم؛ نفس المآسي، والألم، والخوف، وحتى العمى. فالبلد لم يعرف قطائع ولا طفرات ولا تغييراً مذكوراً ... فحتى مرحلة الاستعمار بنيت من لدن المقيم العام الجنرال اليوطي على احترام تقاليد وأعراف المغاربة  (ص 128).

 فالرواية لا تكتفي بالإشارة إلى زمن مغربي لا يجري ويمكنك أن تستحم فيه مرتين، بل إنها وحتى في معظم أحداثها بنيت على هذه الدلالة. فلكل حدث فيها نظير وشبيه. أي أن السمة الكبرى لهذا البلد هو تكرار الأحداث: يفتتن العسكري بصوت مؤذن، ويفتتن الأعمى بصوت صفية. يخرج سيدي الصاحب إلى المقبرة وتخرج الشيخة رقية إليها أيضا، يسير الجد إلى الولي الصالح ويسير الحفيد إليه أيضا، يضيع حقل الجد وتضيع حديقة البوكمازي. فالبلد لا يلد إلا التكرار والأشباه والنظائر، ولا شيء يزهر فيه غير الماضي..

هكذا، إذن، تلقي بنا رواية "المغاربة" داخل عوالم متشابكة، وأقسى ما تفضحه الرواية فيها هو العمى الرمزي الذي عاشه المغاربة طيلة تاريخهم؛ عمى ترك التقليد يشل طاقتهم ويحجب عنهم المستقبل ويسجنهم في الماضي؛ عمى انقساميتهم؛ عمى قتل الشعر والحلم بداخلهم؛ عمى الخنوع وابتذال اللغة؛ إنه عمى لا يحجب شيئاً عمن يريد أن يرى القوى الشريرة التي تبقي المغاربة عاجزين ومرتبكين، يحسبون الظلال حقيقة، والصدى صوتا: "نحن عميان، يا صديقي الصغير، عميان.. أتعرف معنى ذلك، وأجابني وهو يسير: أعرف.. أعرف، لذا يفعلون بنا الأفاعيل ويتسلون بنا...".

هناك مسارات وخطوط سردية متشابكة، تمنح الرواية تماسكها، وتؤمن للقارئ متعة ملاحقة تشويق يمسك بالتلابيب والأنفاس، فهي تراوح بين العائلة كوحدة صغرى  (الأخوان الغافقي، أسرة الباشا، أسرة المحتال)، والقبيلة والمدينة والصحراء والجبل كوحدات متوسطة، والوطن كوحدة كبرى. وفي كل فصل من فصول الرواية، نجد جدلا بين هذه الوحدات وبين تيمات بنت عليها الرواية رؤيتها للمغاربة: العمى متحقق ورمزي، الألم، العجز فردي وجماعي، الاختناق في سطوة الماضي، العنف، الارتياب، الخوف  من المستقبل والتغيير. ولأن الأخوين يعيشان في عالم الكتب، يريان ما يحيط بهما من خلالها ويفهمان أن الألم الإنساني واحد والمرارة واحدة، فإن دائرة أكبر من دائرة الوطن تنفتح، إنها دائرة الشرط الإنساني الكوني حيث تنبعث، وفي قلب ما يجري بالمدينة، منابيع التراجيديات العظمى التي عاشتها البشرية منذ بدء الخليقة.

وبمثل ما يحضر كتاب الموتى الفرعوني وهاملت شكسبير وأشعار بيسوا وكفافيس ولوكونين، وعذاب طه حسين في تدبير محنته وتدبير حبه لسوزان  (يصير طه حسين أحد أبطال الرواية من خلال لعبة مرايا)، يغدو البلد، في النهاية، المعذب بثبات صخري وبإصرار على أن يعيد إنتاج نفسه على مر العصور، باباً مشرعاً على رؤية الإنسان حيثما كان، ورؤية الحياة بوصفها "كارثة مخزية" على حد تعبير ساراماغو، وكذلك رؤية الأوطان كحبات نرد ملقاة في جحيم عالم يفهم كل واحد منا أنه: "لا يرحم أحداً ولا يكترث لأحد".

مؤثرات غربية وشرقية

ولأن رهانات الرواية كبيرة وبحجم وطن وهوية مغربية، انبنت من خلال استيعاب مؤثرات عديدة: غربية وشرقية وأفريقية، وصهرت بداخلها مواد حضارية مختلفة، فقد وظفت، أي الرواية، كل الإمكانيات التي يتيحها الجنس الروائي وقدرته بالأساس على أن يحطم نفسه باستمرار، ويبني فوق الأنقاض شكلاً جديداً. فإلى جانب أن الرواية تشكلت من خلال مسارين سرديين، واحد شذري يحكي تمزق حياة العسكري المحطمة، ويصرف نقمته على البلد، ويستدعي لذلك مشاهد من تاريخ مؤلم، والآخر خطي متسلسل يحكي وقائع عمى معلن وحباً كربلائياً سينتهي بكارثة، فإن ما يصل إلى حد الإبهار في هذه الرواية، الجريئة رؤية وشكلاً ورهاناً، هو تلك القدرة الروائية على السيطرة على مواد متنافرة، يقدمها التاريخ وكتب المناقب وحوليات السلاطين، وتقدمها حياة يومية تعطي حتى للمجانين حق الكلمة  (خطب المهدي بن تومرت)، وعلى أن تعجن ذلك كله في قالب واحد موحد.

على هذا النحو، إذن، تقدم الرواية تاريخ بلد، باعتباره تاريخاً عنيفاً جداً، وما المقبرة الجماعية التي اكتشفت بالمدينة إلا نقطة في بحر من الدماء التي سالت في كل ركن من أركانه. ولا يتمظهر الماضي، في النهاية، إلا في شكل حروب، وحملات تطويع وانتقام، ورؤوس معلقة في أبواب المدن وعلى أسوارها، ووقائع ركيكة لعنف معمم. قال الخبير للأعمى بنبرة ساخرة: "ها أنت ترى يا محمد، لم يترك لنا جدودنا إلا عظامهم البئيسة، العظام والأسوار، هذا هو تراثنا العظيم "(ص165). فالعنف في رواية "المغاربة"، يكاد يكون قدراً شيطانياً لا يبرره في الواقع إلا الغباء والعمى. فالكل يخسر في النهاية، لأن الخاسر ليس، كما اكتشف الأعمى: "إلا حيزاً من إنسانيتنا" (ص8).

من هنا، فالرواية لا تتحامل على المغاربة إلا لتنتصر لهم، إنها تصفية حساب مع كل ما يشلهم ويبقيهم أسارى خنوعهم وخوفهم. هناك وله قوي بالمغرب، أرضاً وإنساناً وحتى قدراً، ولد كل هذا الجهد في تقليب التاريخ وفحصه ليفصح عن ما يبقي المغاربة هكذا عميانا ضائعين.. لا ينبغي أن نغتر بعنف الغارة التي تشنها الرواية على المغاربة، ولا بنبرة المقوض الذي يريد أن يرى خراباً هناك، حيث يسلط نظره ويضع يده، فأجمل الزهور البرية تولد دوماً وسط أنقاض الخراب، وقدر المغرب دوماً هو أن يقف على رجليه مجددا كلما تهاوى، وأن يبدع بسمة وسط وجه يتفطر من الأسى والألم. قال العسكري لأخيه الأعمى :"الحب هو أهم حكاية يعيشها الإنسان في حياته، كل الأشياء الأخرى، النجاح، المال، الجاه، الحظوة، وحتى الحرب أمور تافهة. أهم ما يقع لنا في حياتنا يحدث حين نحب ونتعذب "(ص358).

ليس المغرب دماء وحزناً وخذلاناً فقط، إنما هو أيضا حكايات حب جميلة، تولد وتنمو مثلما تولد زهور برية في شقوق الصخور. بالحب ينتصر الإنسان على العاهة والعجز، وينتصر على الزمن نفسه الذي يريد من كل شيء أن ينفصل ويتبعثر. الحب أيضاً، وكما في حالة الأعمى مع صفية، هو توقيع بالأحاسيس لحركة معاكسة تماماً لحركة تاريخ يصنعه الأقوياء، تاريخ ضغينة وقتل وظلم وتعذيب، إنه عمل القلب الحثيث لجعل هذا العالم أكثر رحمة. يحب الناس ويتعذبون نعم، ويرون حبهم يتفتت أمام أعينهم تحت ضربات يومي معد للانتصار للنثري وقتل الشعر، كما في حالة حب الباشا عبد السلام للبنت الفرنسية، غير أن عذاب الحب نبيل إذا قيس بكل العذابات الأخرى.

إضافة نوعية

هكذا، يبدو أنه ليس من السهل أن تكتب عن شعب بكامله، وأن يكون هذا الشعب بتاريخه الممتد هو البطل الحقيقي للرواية، وأن تنجح الرواية في قول ما هو أساسي عنه بدقة وقدرة على توليد المتعة والدهشة، ما يجعل من الرواية، في الآن نفسه، "رواية تعلم" و"رواية أطروحة"، ورواية سر، ورواية واقعية، وواقعية سحرية، ورواية غرائبية، رواية توظف فن المقالة، كما في الفصل المخصص للحديث عن أيام طه حسين) والمسرحية (فصلا هاملت وهوراشيو، وكتاب الموتى)، والشعر، وكل ممكنات الكتابة وحيلها، ما جعل نثر رواية "المغاربة" يأتي موجزاً، شاعرياً، بلا زوائد؛ نثر يتلون بتلون السارد ومقتضيات أحوال دينامية السرد.

وبقدر ما أتت شذرات العسكري مكثفة، لاذعة، تلاحق تفاصيل فجيعة ترك له فقط "ترف" تأملها، وتحاول بعث حدائق هناك حيث لا يوجد إلا اليباب، بقدر ما أتى نثر الأعمى سيالاً، غنائياً، يبني لنفسه بروية معنى خاصاً به وسط عالم مظلم ومهدد، ومثلما يتردد الأعمى في كل خطوة، فنثره يبدو، أيضاً، متردداً، يرتطم بالصور الاستعارية والمجازية، دون أن يقصدها، إنه النور الوحيد الذي تهتدي به ذات قسا عليها العالم..

ومما لا شك فيه، أن رواية "المغاربة"، وهي تحظى اليوم بتلقيات واسعة ومضيئة، من لدن النقاد والكتاب والقراء، داخل المغرب وخارجه، تشكل إضافة نوعية للرواية المغربية والعربية، إذ يبدو أن الروائي عبد الكريم جويطي قد بذل جهداً كبيراً في كتابة هذه الرواية، على مستوى البحث وصوغ المتخيل وتلوين مستويات التعبير وعجن اللغات وتنويع سجلات الكلام والسرد، ما جعلنا، نحن القراء، أمام نص غاية في المتعة والدهشة.

 

*كاتب وناقد مغربي

عبد الكريم جويطي، المغاربة، رواية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت، 2016.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.