تتّسم رواية "الحي الخطير" الصادرة عن دار "الساقي" للشاعر والكاتب المغربي محمد بنميلود بجرأة كبيرة في تناول حال مجتمع، عبر تسمية الأمور بمسمياتها، مباشرة ومن دون مواربة. يتم ذلك عبر شخصية مراد السلّاخ، الراوي، ابن حي أبي رقراق، وهو شاب ألّف عصابة لتجارة المخدرات مع اثنين من أصدقاء طفولته هما عبد الرحمن ورشيد، فحققوا بذلك حلم طفولتهم الأول، هم الذين نشأوا محاطين بأعضاء العصابات والحشاشين والسكارى والقتلة. إنها إذاً واحدة أخرى من روايات القاع العربي المتوسّع والمتعمّق، الذي لا يعريه شيء من سُتُر العفة والتقوى الكاذبين ويرسم صورة صادقة له بقدر الرواية، خاصة إذا كانت مكتوبة من داخله.
منذ البداية يحشر الكاتب راويه في مكان ضيق، مُطلقا العنان لذاكرته وخياله؛ إنه في زنزانة انفرادية بعد شجار بالسكاكين مع سجين آخر. فقد دخل السجن بعد كمين للشرطة قُتِل خلاله عبد الرحمن فيما قُتِل رشيد على يد عصابة منافسة.
تأثر مراد بخاله مجيد الشيوعي في سعيه لتغيير واقعه، لكنه يعيب عليه أنه أراد تحقيق خلاصه من خلال الخلاص الجماعي بدل أن يحققه منفردا مثله، فمراد يريد أن يصير غنيا بأي طريقة، مهما كلفه ذلك. لا مشكلة لديه أنه في السجن، الذي دخله سابقا، بل يقول إن السجن ليس أسوأ من حيه، فهو هنا في مأمن من انتقام العصابات الأخرى، يوضح لنا ذلك: "يشبه الأمر أن تتعب وأنت تقود شاحنة عملاقة بين المدن، فتركن تحت أشجار ظليلة على رصيف بعيد لتستريح... قبل أن أواصل اعتلاء قمرة قيادة شاحنتي في اتجاه كل من يعترض طريقها". كما أن السجن أهدأ مما يتيح له فرصة التخطيط للهرب، ومن أجل الهرب عليه أولا أن يفهم سبب وجوده حيث هو، بينما سواه من المجرمين في عصابات أخرى، على رأسها "عصابة الدولة"، ليسوا طلقاء فحسب بل إنهم يحاكمونه أيضا. في محاولة فهمه هذه يعيدنا إلى حي أبي رقراق ليتحول من راوٍ شخصي ضالع في الأحداث إلى راوٍ عليم أقل قربا منها، لأن أغلب القصص التي يحكيها سمعها من الكبار فقد وقعت قبل ولادته. لطالما شكّل حيهم مُلتَجَأ لكثيرين يبدؤون فيه حيوات جديدة بلا ماضٍ، وبأسماء جديدة؛ الهاربون من العدالة بمختلف أنواع جرائمهم، وكذلك الفتيات اللواتي يحبلن من غير زواج فيهربن من سكاكين أهلهن، ولا يجدن وسيلة لكسب معيشتهن غير العمل في أكواخ القوّادات الكثيرات، فيولد الأطفال في هذه الأكواخ دون معرفة آبائهم، وأحيانا دون معرفة أمهاتهم أيضا، ومنهم مراد نفسه.
تتكاثر الجرائم في الحي وتتألف العصابات وتتواجه فيما بينها، وبدل أن تقبض السلطات على المجرمين والمهربين المعروفين وتحاكمهم وتعيد دمجهم في المجتمع، تساهم في تجميعهم داخل هذا الحي وترعى جرائمهم المتفاقمة ولا سيما تجارة الحشيش الذي يتعاطاه حتى أطفال الحي. نتعرف من خلال قصص مراد على نماذج عدة من المجرمين والقتلة، أبرزهم العربي الفرناطشي، والد رشيد، وهو قاتل متسلسل يحصد ضحاياه بضربة ساطور واحدة، يضاجع جثثهم ويداعبها بحنان مهما كان جنسهم أو عمرهم، ثم يودعها في جحيمه الخاصة التي يوقدها يوميا في الفرن الذي يعمل فيه. جرائم العربي مجهولة الفاعل تكشف نمط تفكير أبناء ذلك المجتمع ومعتقداتهم في تفسير ما يجري، وكذلك عقلية الدولة في التعامل مع حيوات مواطنيها؛ فمع الغموض الذي يلف مصير المختفين تتكاثر القصص عن الجن الذي يبتلعهم، وعن امرأة بشعر طويل وقوائم جمل تغريهم وتخفيهم، وعن وحش النهر المرعب الذي تذكر كثير من الصيادين أنهم رأوه مرارا. يتدخل المتدينون ليقولوا إن ما يحدث ما هو إلا غضب من الله على الضلال الكثير المنتشر في الحي، بينما تنشر السلطات الأمنية عبر مُخبِرها المقدم العروسي أنها هي من تعتقل أولئك لأنهم شيوعيون ملحدون يتآمرون ضد الله والملك والبلاد، وقد كثرت الجرائم بعد هذا التبرير الجديد.
بعد انقضاء أكثر من خمس سنوات من سنوات محكوميته الست عشرة، يستمر مراد بالتخطيط لهربه من السجن دون استسلام، كي يهرب بعدها من جحيم حيه وعالمه نحو فردوس العالم الآخر في أحياء الرياض والسويسة وبير قاسم الراقية. تفكيره في الهرب يمنحه حرية ذهنية، يجدها هربا وقتيا من زنزانته.
تبدأ الرواية بقصة مراد السلّاخ الذي يحكي عن نفسه وعن رفاقه وذويهم، ثم تتنقل بين الشخصيات وقصصها، لتتوقف مطولا عند حياة وجرائم العربي الفرناطشي الذي يحكي عنه الراوي أكثر مما يحكي عن نفسه، حتى نحتار من هو بطل الرواية. لكن الرواية ليست قصة أي من شخصياتها، إنها رواية المكان، بطلها هو حي أبي رقراق الذي صنعه تقصير الدولة وإهمالها وتواطؤها، والحي صنع بدوره شخصياته وجعلهم يتطرفون في إجرامهم ووضاعتهم.