في رواية "شامة على رقبة الطائر"، الصادرة عن "منشورات المتوسط" للناقد السينمائي والكاتب الفلسطيني فجر يعقوب، نشرف على الحروب من باب نوع خاص من ضحاياها هم أولئك الذين نجوا بالجسد، لكن نفوسهم أصيبت بأعطاب بليغة عسيرة المداواة والترميم.
يخوض الرقيب المجند رشيد عثمان، بطل الرواية، صراعا داخليا متعدد الأسباب خلال مدة أدائه لخدمته الإلزامية في إحدى المناطق الجردية داخل الأراضي اللبنانية. يغيّره صراعه هذا، فيصير شخصا آخر غريبا عن نفسه أولا، ينغمس في حياة كحوليّة، ويأتي بأفعال لا تشبهه هي نتائج لخيباته ومعاناته. لا ينتهي اضطرابه النفسي بخروجه من الجندية فارا وملاحقا بسبب تصرف شائن أتى به، إذ تطبع حياته تلك الفترة القاسية المشحونة بالصعوبات والمآزق والتهديدات الوجودية، مثل ابتعاده عن جدته الشركسية سيناميس الحكّاءة التي جمعته بها علاقة مميزة، وزاد تأثره بابتعادها النهائي بعد موتها في دمشق خلال فترة غيابه، وابتعاده كذلك عن حبيبته منذ الطفولة، سهى دجه براييل، لتكون علاقاته المتعددة بنساء القرية القريبة من ثكنته كنوع من التعويض العاطفي والجنسي غير المجدي، بالإضافة إلى مواجهته للموت المحقق الذي استطاع أن ينجو منه أكثر من مرة.
ليس رشيد هو الأول في عائلته الذي يعاني من هذه الحالة، فقد سبقه والده كما سنرى لاحقا. فبعد فشله في استرداد قريته كفر كما التي طرد منها في الجليل الفلسطيني بعد عدد من الحروب الخائبة، نسي أبو رشيد الضحك نهائيا لأنه بقي عالقا في الدشمة التي دافع عنها وحيدا حتى خسر الموقع، وصار بعد ذلك يُكثر من كيّ نفسه عند رجل بدوي بأسياخ الحديد المحمّاة، محاولا أن يُبرئ روحه المعذبة بـ"آخر الدواء"، دون أن تجني فائدة بعد سنوات من ممارسة هذا الطقس الذي انتقل عنده من كونه وسيلة علاج ليكون وسيلة لتعذيب نفسه، تجلب له الراحة واللذة بدل الألم. وفي موازاة مازوشيّة الأب، هناك تطبيق لقسوته على من حوله كذلك؛ على أفراد عائلته وخاصة ابنه رشيد الذي كان يجلده بـ"المسعود" شديد الإيلام، وهو عبارة عن قضيب ثور ممدود من خلال تعليق حجر ثقيل به ومجفف في الهواء والشمس، كما أنه كان يقبض على القطط بعد استدراجها بوضع الطعام لها، ثم يعلّقها من أذيالها ويتلذذ بتعذيبها.
يعود رشيد عثمان إلى دمشق بعد حادثتين متتاليتين غير اعتياديتين. فقد قصفت طائرة إسرائيلية ثكنتهم ودمّرتها بالكامل، دون أن تقتله الغارة لأنه كان في الخارج لحظة وقوعها، ثم قام بعد ذلك، بتأثير صدمته وتتالي ظروفه الخانقة، وبما يشبه الهذيان، بنبش أحد القبور في مقبرة القرية ورمي محتوياته في الحفرة التي أحدثها صاروخ الطائرة، مما ألّب أهالي القرية ضد من نجا من جنود الثكنة. لم يجرؤ رشيد على مقابلة حبيبته سهى بعد عودته إلى دمشق بسبب خجله من شكله الجديد المتغير، فقد انسدل جفن عينه اليسرى على عينه حتى انطبق تماما نتيجة مرض لم يعرف الأطباء تشخيصا له. هذه العين التي صار يخجل بها هي الدافع الأول لعودته لأنها انغلقت على الحاضر والواقع البشع لتنفتح في الوقت ذاته على الماضي والذكريات الجميلة، ويكتفي بمراقبة الأستاذ الجامعي الذي أخبرته سابقا أنه تحرش بها.
بعد خسارة رشيد لجدته، ثم خسارته لحبيبته سهى التي تزوجت من رجل آخر وهاجرت رفقته خارج البلاد، ومباشرة بعد موت والده أمامه خلال إحدى جلسات الكي والتعذيب التي بلغ تلذذه بها حد العودة إلى الضحك، ينطلق في طريقه الذي يعرف النهاية المأساوية التي تنتظره في آخره، لكنه يقرر المضي فيه نحوها بعد انسداد الطرق الأخرى في وجهه.