}
قراءات

السينما التونسيّة: سؤال الهويّة الوطنيّة وخيبات الذاكرة الفرديّة

شكري المبخوت

9 يناير 2018

تقول لغة الأرقام إنّ عدد الأشرطة التونسيّة الطويلة التي تتجاوز الساعة لم يتعدّ خلال ستّين عاما، من الاستقلال سنة 1956 إلى سنة 2016،  234 شريطا طويلا سواء أكان توثيقيّا أم تخييليّا. فالنسبة السنويّة في حدود ثلاثة أشرطة تقريبا حتّى باعتبار الإنتاج المشترك (28 شريطا) والأفلام الوثائقيّة الطويلة (61 شريطا). ولا ريب أنّ الدلالة البديهيّة لهذه الإحصاءات هي أنّه لا وجود، ببساطة، لصناعة سينمائيّة في تونس!

لكنّ هذه الأرقام تخفي كذلك حقيقة أخرى مفادها أنّ نسبة الأشرطة التونسيّة الطويلة المنتجة بعد الثورة بلغت معدّل 14 شريطا سنويّا وإن تميّزت سنة 2012 بأعلى رقم في الإنتاج السينمائيّ وهو 21 فلما. بيد أنّ هذه الأرقام على دلالتها لا تكشف عمّا في هذا الإنتاج من ثراء في القضايا والموضوعات والأساليب ولا تبرز تيّارات مهمّة داخل السينما التونسيّة.

ولئن قدّم لنا كتاب "دليل الأفلام التونسيّة الطويلة" الذي أصدره المركز الوطنيّ للسينما والصورة بتونس مؤخّرا (سنة 2017) المعطيات التوثيقيّة الغزيرة الدقيقة فإنّ الملخّصات التي تضمّنها علاوة على المقدّمة العامّة التي كتبها الناقد الجامعيّ طارق بن شعبان لا تخلوان من فائدة.

مفارقات السينما التونسيّة

عرفت تونس في مرحلة مبكّرة نسبيّا، مقارنة بجلّ بلدان العالم العربيّ، أوّل أستوديو للإنتاج السينمائيّ سنة 1953. وبدأ تقليد نوادي السينما فيها منذ سنة 1942. وأصدر أهمّ فاعل في تاريخ السينما التونسيّة المرحوم الطاهر شريعة، باعث مهرجان قرطاج السينمائيّ سنة 1966، أوّل مجلّة تعنى بالسينما سنة 1957. وهي السنة نفسها التي شهدت بعث شركة للإنتاج والتوزيع السينمائيّ تعرف بـ"الساتباك" (شرعت في الإنتاج بعد سنة من تأسيسها) وأُغلقت سنة 1990 تحت ضغط التوجّه الليبيرالي باسم خوصصة المؤسّسات العموميّة. والطريف أنّ تونس شاركت في مهرجان كان السينمائيّ بأوّل إنتاج تونسي سنة 1957 أيضا.

ولا تخلو هذه الشبكة المهمّة من المؤسّسات لكلّ فعل سينمائيّ متكامل من مفارقات مؤسفة. من ذلك أنّ عدد قاعات السينما غداة الاستقلال (1956) كان يناهز المائة قاعة ولم يتبقّ منها اليوم إلاّ حوالي العشرين!. لكنّ هذه الصورة باحتمالاتها المجهضة جزء من خصائص السينما التونسيّة. فتونس المعروفة بمهرجان قرطاج السينمائيّ الذي تأسّس بنفس نضاليّ للنهوض بالسينما العربيّة والإفريقيّة المقاوِمة ومهرجان قليبية لسينما الهواة الذي تأسّس سنة 1964 ظلّت لسنوات تنتج الأشرطة للمشاركة في المهرجانات بالخصوص بعيدا عن منطق شبّاك التذاكر وقيوده.

وربّما كان ذلك دافعا إلى تبنّي جلّ المخرجين التونسيّين لسينما المؤلّف بدل ما تستوجبه صناعة الأفلام من توجّه جماهيريّ  وتنوّع في الموضوعات والأنواع والأساليب كذلك. وقد بلغ الهوس بسينما المؤلّف حدّا أضحى فيه المخرج، في الشريط نفسه، كاتبا للسيناريو رغم أنّ أبرز من انتهج هذا النهج في الإخراج محترفون أثروا خزينة الصورة التونسيّة بأكثر من خمسة أشرطة (مثل الناصر خمير والنوري بوزيد وعبد اللطيف بن عمار ورضا الباهي والطيّب الوحيشي وغيرهم). بل اللافت أن نجد من جيل الشباب من احتكر الإخراج والسيناريو والصورة والتركيب وربّما الإنتاج مثل رضا التليلي صاحب شريط "تُنسى" (إنتاج سنة 2016).

وقد يكون من الإجحاف ربط ظاهرة الاحتكار هذه بسينما المؤلّف فحسب. فقد تكاثرت مؤسّسات الإنتاج السينمائيّ بعد غلق "الساتباك" باسم المبادرة الخاصّة لتبلغ ما يفوق الثمانين مؤسّسة. وهي كثرة لا نجد لها تفسيرا إلاّ في رغبة السينمائيّين من خلال بعث مؤسّسات للإنتاج في الحصول على دعم وزارة الثقافة الماليّ للأشرطة التي ينتجونها.

فمن المفارقات أنّ "الساتباك" التي عاشت أقلّ من ثلاثين عاما أنتجت ما يناهز الخمسين شريطا طويلا في حين أنّ المؤسّسة الخاصّة التي تأتي بعدها مباشرة، وهي "سينيتيليفلم" التي أسسها المرحوم أحمد بهاء الدين عطيّة، لم تنتج في ثلاثين عاما إلاّ نصف ما أنتجته الساتباك وبدعم من جهات مختلفة على رأسها وزراة الثقافة! والأغرب أنّ بعض هذه المؤسّسات لم ينتج إلاّ شريطا واحدا! وفي هذا نرى مفارقة أخرى قوامها تعويل المنتجين الخواصّ على دعم الدولة في غياب صناعة سينمائيّة حقيقيّة.

الهويّة والذاكرة

لقد ولدت السينما التونسيّة برغبة من دولة الاستقلال في سياق التأسيس للهويّة الوطنيّة. وما تزال الدولة اليوم فاعلا أساسيّا رغم المسار المتعرّج للسينما التونسيّة. فقد كان بعث "الساتباك" لغاية الترويج لتونس باعتبارها وجهة سياحيّة علاوة على الحاجة إلى الدعاية لسياسة بورقيبة ودولته الفتيّة. وبالتوازي مع ذلك عمل الجيل الأوّل من السينمائيّين التونسيّين على تخليص العين التونسيّة والشاشات الوطنيّة من استعمار الصورة. فجعلوا الرهان دائرا على إنتاج صورة وطنيّة بالمعنيين: صورة عن البلاد وصورة خاصّة بها.

وعلى هذا انبنى الترابط بين تمويل الدولة لهذه الصورة وإرادة السياسيّ للهيمنة عليها. ولكنّ هذا التوجّه وجد لدى المبدعين رغبة في صنع الصورة - الأسطورة الوطنيّة على ما يبرز في أوّل شريط تونسي روائيّ طويل، وهو "الفجر" لعمار الخليفي (إنتاج سنة 1967). وأشرطة الخليفي تدور على الحركة الوطنيّة ودور الزعيم بورقيبة فيها.

ونجد وجها آخر من هذا التفكير بالصورة في الهويّة الوطنيّة، وإن لم يكن تمجيديّا، في أشرطة من قبيل شريط "خليفة الأقرع" (إنتاج سنة 1969) لحمّودة بن حليمة الذي بحث في الروح التونسيّة باقتباس عمل روائيّ لأحد الآباء المؤسّسين للرواية التونسيّة البشير خريّف.

وظهرت بالتوازي مع هذه السينما المتفائلة أشرطة متسائلة تبرز الوجه الآخر للإنسان التونسيّ الجديد الخارج لتوّه من الاستعمار الفرنسي. فقد أضحت الأشرطة استعارات عن المصير الجماعي والمسارات الفرديّة وانتقل النشيد الوطني إلى همهمات يصدرها الأفراد المحتجّون الباحثون عن حريّتهم.

ولكن هذا البحث الفرديّ لم يمنع من بروز نزعة اجتماعيّة تصاحبه مدارها على تحرير المرأة بالخصوص علاوة على تناول مشكلات النزوح والهجرة والاغتراب الاقتصاديّ والاجتماعيّ وآثاره النفسيّة.

وبلغت جرأة بعض السينمائيّين التونسيّين إلى تقديم قراءة للتاريخ الوطنيّ مغايرة للقراءة الرسميّة. وهو ما نستخلصه من شريط "سجنان" لعبد اللطيف بن عمّار (إنتاج سنة 1973) وواصل في توجّهه هذا في "النخيل الجريح" (إنتاج سنة 2010).

ودشّن شريط "ريح السدّ" للنوري بوزيد (إنتاج سنة 1986) "العصر الذهبي" للسينما التونسيّة. فقد أخرج الأفلام التونسيّة من قوقعة المهرجانات والجوائز لتصبح أشرطة قابلة للاستهلاك وتنافس في شبّك التذاكر إذ شاهده في سنة خروجه 120 ألف مشاهد بما مثّله من جرأة في التناول والمقاربة الجماليّة للهويّة والجسد والذاكرة الفرديّة. وفي هذا السياق جلب شريط "عصفور سطح، الحلفاوين" (إنتاج سنة 1990) لفريد بوغدير 350 ألف مشاهد.  فلم تعد شرعيّة الأشرطة تكتسب من المشاركة في المهرجانات فحسب بل تكتسب كذلك من جماليّته وجماهيريّته.

ويبدو أنّ النزعة التجريبيّة التي عرفتها السينما التونسيّة خلال الستينات والسبعينات متأثّرة بالموجة الجديدة وكسر السرد بحثا عن الجوانب الشكليّة من الصورة وفيها قد أتت أكلها في الثمانينات والتسعينات دون أن تتخلّى عمّا اعتمل فيها من تساؤلات عن منزلة المثقّف والفنّان ودوره الاجتماعيّ وعلاقته بالسلطة وبالمرأة وبالتقليد والحداثة. إنّها سينما معبّرة عن اختلال المرجعيّات والمعايير وتهاوي الإحداثيّات والاستعارات.

الثورة والمنعرج؟

لقد أنتج السينمائيّون التونسيّون من 2011 إلى 2016 ستّة وثمانين (86) شريطا طويلا بين وثائقيّ وروائيّ. أي أكثر من ثلث الإنتاج السينمائيّ خلال ستين عاما.

ولئن تطوّرت السينما التونسيّة من البحث في الهويّة الوطنيّة إلى تأمّل الذاكرة الفرديّة ومن التغنّي بالأساطير الوطنيّة إلى تيه الإفراد وبحثهم عن معنى وجودهم فإنّ الأفلام التي ظهرت بعد الثورة مزجت الجماعيّ والفرديّ وربطت بين التاريخي البعيد (شريط "من قرطاج الفينيقيّة إلى قرطاج التونسيّة للناصر القطاري سنة 2012) والتاريخ الراهن (شريط "كلمة حمراء" لإلياس بكّار سنة 2011) والتخييل الروائيّ ("على حلّة عيني" لليلى بوزيد سنة 2015 أو "مملكة النمل" لشوقي الماجري سنة 2012). وهو أمر متوقّع بما أنّ الثورات في التاريخ يلتقي فيها الفرديّ بالجماعيّ طرحا للأسئلة واستعادة للبحث عن الهويّة.

وهذا ما يفسّر كثرة الوثائقيّات حول الثورة وما وقع خلالها ومقاومة الدكتاتوريّة قبلها والأحداث الكبرى التي سبقتها مثل انتفاضة الحوض المنجميّ. ففي هذه الشرطة شيء من الانتشاء بالثورة وبعض من الترقّب والأمل على أساس مساءلة الماضي.

ولكنّ اللاّفت للانتباه هو أنّ كثيرا من السينمائيّين الشبّان من خريّجي مدارس السمعيّ البصريّ بالخصوص قدّموا، معتمدين على الإنتاج الذاتيّ والأشرطة قليلة التكلفة أحيانا، أعمالهم الأولى سواء في هذا الجانب الوثائقيّ الاستكشافيّ الاستفهاميّ أو في جانب لا يقلّ أهمّيّة تناولوا فيه مشكلة العائلة والزوجين وثقل التقاليد والمجتمع والماضي وقلّة هضم أساس الحداثة أي الحرّيّة الفرديّة.

ومن الثابت أنّ تواصل هذا الوفرة  الكمّيّة في الإنتاج سيفرز جيلا جديدا وسينما تونسيّة جديدة لم تتبيّن بعد ملامحها.

إنّ هذا الكتاب مدوّنة وثائقيّة تتيح لقارئها أن يتبيّن التنوّع والثراء الجماليّ والمضموني في السينما التونسيّة التي ما زالت عاجزة عن أن تكون صناعة قائمة الذات. ولكنّنا نعتقد أنّ المشهد لن يكتمل إلاّ بكتاب يوثّق للأشرطة المتوسّطة والقصيرة التونسيّة سواء أكانت وثائقيّة أم روائيّة فهي ولا ريب أكثر عددا وأثرى تجربة. لكنّنا نحبّ أن نلفت الانتباه إلى التوازي الكبير بين السرد السينمائيّ بأشكاله وموضوعاته وتيّاراته الجماليّة والسرد الروائيّ الذي ظهر ابتداء من الستيّنات كذلك. وربّما لو تثبّتنا في جوانب أخرى من الثقافة التونسيّة كالفنّ التشكيلي أو الموسيقى لاستخرجنا من ذلك منظومة متماسكة متكاملة تمثّل ولا شكّ خصائص الإبداع التونسيّ المعاصر. لكنّ مثل هذا التأليف الثقافيّ ما يزال في حاجة إلى تواريخ تحليليّة جزئيّة ليكتب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.