}
قراءات

"النجدي" لطالب الرفاعي..خيطٌ أبيض سريع التلاشي

طارق إمام

1 مارس 2018

 

اثنتا عشرة ساعة وحسب، كانت كافيةً كي تتسع بالزمن الروائي لرواية طالب الرفاعي "النجدي"، (منشورات ذات السلاسل، الكويت)، مختزلةً تاريخاً كاملاً في تلاقي الساقين المتقاطعتين لجسد السرد في هذه الرواية: الفرد والمطلق.

 يوم التاسع عشر من شباط/ فبراير 1979، يخرج النوخذة/ القبطان المتقاعد "علي ناصر النجدي" في رحلة صيد بحرية بيخت رفقة صديقين. تهب عاصفة بحرية غير متوقعة فتطيح اليخت، وتودي بحياة الرجل الذي فشل البحر في اقتناص حياته في جميع أزمنة الخطر ليحتضنه غريقاً في أبسط رحلة يمكن أن يقوم بها قبطان محترف. بعضُ يوم، من الحادية عشرة والنصف صباحاً إلى الحادية عشرة والنصف مساء، قُسِّمت حلقاتُها سردياً على ثمانية فصول، تسترجع سبعين عاماً هي عمر بطلها، وتفيض عن هذا العمر مستقرئةً تاريخ الكويت، عبر تقاطعات زمنية تتقدم وترتد مثل مد وجزر بحر هذه الرواية، البحر الذي يطل عليه السرد كأطلال مدينة، والذي يمثل مرآتها ومحركها بل وإلهها.

سبعون عاماً هي عمر "علي ناصر النجدي" المتقاطع مع الزمن الكويتي، وحيث تاريخ الفرد هو المرآة الوحيدة الممكنة لعكس تاريخ المكان:  زمنٌ تغزوه الثقوب، كشراع سفينة بائدة، تهب من رتوقه كافة رياح الماضي الكفيلة بإغراق شخصٍ يبحث عن نجاةٍ أخيرة. يطرح "النجدي" كافة الأسئلة الوجودية ملتبسةً بمفارقات التحولات، من سؤال وجودي شعري منبعه بئر المخيلة الطفولية: "ما الذي يفعله البحر بالسفن الكبيرة فتغدو صغيرة؟"، لأسئلة التحولات الكُبرى، وقد صارت السفن الوحيدة المتاحة "سفن نقل البترول البعيدة"، وحيث ينبسط البحر في الرحلة الأخيرة خالياً من المراكب: "لم أر أي مركب منذ تركنا المرفأ"، كأن البحر نفسه، وليس الأرض المشرفة عليه، قد فقد هويته. يتشبث النجدي بالحبال الذائبة لتلك الهوية المغدورة، حتى أنه يرفض قيادة "السيارة" (رمز الثراء الناشئ وقت انطلاق الزمن الروائي): "كيف تقارن سفينة عظيمة بسيارة صغيرة من الصفيح؟". العلاقة هنا تقيم خصاماً بين الاثنتين، فغياب السفينة (بانقراض الخروج للبحر) لا ينفصم عن ظهور السيارة بظهور البترول. إنها القراءة التي تنسحب على العالم الأشمل الذي يخوضه "النجدي" مغترباً وقد اختفى البحر نفسه أمام تغول المدينة "الجديدة": "لم يبق شيء. وحشُ المدينة ابتلع كل شيء: البيوت والبرايح وشاطئ البحر والسفن وغناء البحّارة".

تُرجِّع "النجدي" أصداء سلالتها، من "العجوز والبحر" لهمنجواي لـ"موبي ديك" ميلفيل إلى "حكاية بحار غريق" ماركيز وسواها من نصوصٍ كان أفقها بلا مواربة: الفرد والبحر لحظة المصير. وببنيةٍ متألبةٍ على السرد الخطي التقليدي، تختط "النجدي" بنيتها القائمة على مونولوج ساردها الطويل الذي تُسيِّره "الذاكرة". الذاكرة: إنها دالٌ مفتاحي في هذا النص الذي يخلق بنيته عبر ذاكرة صاحبه، كأن البنية السردية محاكاةٌ لاشتغال الذاكرة ولطريقتها في إعادة خلق ما باد. وهي ذاكرة تتجاوز ضيق الذاكرة الفردية لتصبح صورة للذاكرة الجمعية التي تختزن السؤال المشترك وتنقله من حدود الشفاهة إلى إطار التدوين. بنية شعرية إذن تسم "النجدي" إذ علاقات التجاور "المكانية" تحل محل علاقات التعاقب "الزمنية" لتطيح بخطية الزمن الكرونولوجي خالقةً تصورها المركب للزمن، كمزقٍ مشهدية تلتئم في نص فسيفسائي تتجاور فيه اللحظات والمحكيات الصغيرة لتمنحه في الأخير اتساعه كجدارية قوامها شذرات حكي أشبه بالشظايا.

"الميتا رواية": النص يُعرِّي تقنياته

تقدم "النجدي" طرحها البنائي كخطابٍ "ميتا روائي" لا يكتفي بإحكام إيهامه الفني، بل يفكك عمله متموقعاً في مراقبة نفسه كنصٍ قابل للقراءة داخل المتن الفني نفسه. نحن إذن أمام روايةٍ تتأمل "صنعتها"، ولا تكف عن تعرية تقنياتها كأنما فعل التفكيك الشكلاني لا ينفصم عن فعل التفكيك الموضوعي لنصٍ سؤاله هو "التاريخ" بالذات. وفق النص الميتا روائي، فإن المتن السردي، برمته، هو صوت "تدويني" يقيم حواريته مع نصوصٍ أخرى، يقرأها وينسخها بقدر ما تقرأه وتنسخه، في عملية تناص كاملة تجعل مرجع النص نصوصاً أخرى، بأكثر مما يمكن رده إلى الواقع أو التاريخ.

 يدعم ذلك كسر الإيهام المبكر في العتبة التي تخاطب "المتلقي" مباشرةً بتنويه لا يمكن تجاوزه: "تلوّن هذه الرواية واقعها الفني، بما يمكن قد حدث للنوخذة علي ناصر النجدي، مستندةً إلى وقائع حقيقية جرت له يوم الاثنين 19 فبراير 1979". الواقع الفني هنا إذن أسبق من الواقع التجريبي، يلوذِن قوامه مستعيراً ما يتيسر من الأخير، لإحكام نفسه كواقعٍ متخيل وليس للتوسل للمتلقي بمعقولية مدونته فضلاً عن "حقيقيتها". النص هنا إذن هو من اللحظة الأولى في حالة تناص كاملة، يصبح التاريخ نفسه بموجبها أحد النصوص المؤلفة للمروية وليس سلطة متعالية أو مرجعية ثبوتية. 

 

ثمة خمسة نصوص رئيسية مؤلِّفة لهذا الخطاب الميتاسردي، يقرأ واحدُها الآخر، وتخضع كلها في الأخير لقراءة المؤلف الضمني ومن خلفه المؤلف الأصلي. هناك الخطاب الروائي الموسوم بـ "النجدي" والذي يمثل النص الُمتضمِّن لبقية الخطابات المتضمَّنة، يتقاطع مع خطابين "وصفيين" معرفيين أداتهما "التوثيق" الذي يجادل القوام التخييلي للخطاب الفني: كتاب "أبناء السندباد" لألن فاليرز"، وكتاب "تاريخ الغوص على اللؤلؤ" لسيف مرزوق الشملان.

 كتابان "توثيقيان" يغذيان النص المُراوح بين التوثيق والتخييل. يحضر كتاب "ألن فاليرز" أيضاً كمرجع لصوتين، صوت "المؤلف" الواقعي  طالب الرفاعي، إذ يجتزئ منه تصديراً يستبق النص الروائي، وصوت "السارد" علي النجدي، إذ يستعيد في غير موضع مجتزآت من الكتاب، الذي يتوفر على شريحةٍ من تاريخه "الشفهي" وقد بات مدوناً بفضل القبطان الاسترالي الذي صحبه في رحلة امتدت لستة أشهر أنتجت هذا الكتاب. من الرافد "المترجم" الذي، ربما، لا يخلو من الروح الاستشراقية، للرافد "المحلِّي" الذي كتب مباشرةً بلسان متورط في وعي الجماعة، (ممثلاً كتاب "الشملان")، والذي يحضر بدوره داخل الخطاب السردي باجتزاءات دقيقة، يسهم النصان معاً في تعميق المنحى الأنثروبولوجي لعالم روائي لا يمكن له أن ينبت عن هذا الجانب في موضوعةٍ شديدة الخصوصية هي عصبه العاري.

ثمة أيضاً نص شفهي"غنائي" يمثله، مجدداً، صوتان: عوض دوخي وشادي الخليج. ينهض الشريط الصوتي المتغلغل في الرواية (كأنما هو موسيقاها التصويرية) على العامية الكويتية ملتبساً بالموسيقى، وهو نص صوت وتلفظ يمثل مرجعيةً شفاهية، يتقاطع بدوره مع النصوص الثلاثة السابقة، وبدوره يعيد قراءتها قدر ما تقرأه. وهناك، خامساً، نص "إخباري" مادته اللغة التداولية تمثله نسخة جريدة "القبس" الصادرة بتاريخ التاسع عشر من فبراير 1979، والتي تعمل كثبت تاريخي للخلفية السياسية للحدث الروائي، عبر إشارات سريعة غير أنها عميقة ودالة في الإطار السياقي للحدث الروائي: "لا أخبار جديدة. الخميني وعد عرفات بالدعم../ كلام.. لن يحرر فلسطين إلا الفلسطينيون".

خمسة خطابات إذن، بتراوحاتها اللغوية والرؤيوية، وبزوايا قراءاتها المختلفة، تشتبك في نص "النجدي" لتغذي مونولوجه الطويل بحواريةٍ كرنفالية، حسب التوصيف الباختيني، تفتح "المونولوج" نفسه على أصواتٍ لا تتوقف عن تأمل الموقف السردي من كافة اتجاهاته.

الخطاب السردي، بدوره، يتخلّق عبر ساردٍ مموه بين وجودٍ "تاريخي" متعين، كون علي النجدي شخصية حقيقية، ووجودٍ فني يلعب فيه دورين، فهو الشخصية الرئيسية للرواية وهو أيضاً ساردها بالضمير الأول. بين نص السيرة ونص التخييل، يتحرك علي النجدي، بقدمٍ في الواقعة التاريخية وأخرى في الواقع الروائي، ليقدم "رؤيته" لحياته روائياً، ملتبسةً بصوت مؤلفٍ، جعل من الشخصية الفنية لسانه وكأن "الأنا" في هذه الرواية موزعة على فمين.

إن "علي النجدي" نفسه، يقدم في بطاقة الكتاب باعتباره صاحب فكرة الغلاف، (بطل النص الواقعي يصمم غلاف نصه وقد صار شخصيةً من ورق!)، وإذا ما وضعنا في اعتبارنا، من جهةٍ أخرى، أن النجدي "الحقيقي" لقي حتفه قبل نحو أربعين سنة، فإن فكرة هذه الرواية نفسها، أو الاحتشاد لها، ربما سبق ظهورها الفعلي بنحو أربعة عقود. في سياق متصل من مزج الوهم بالحقيقة، يحضر اسم "ذات السلاسل"، ناشرة الكتاب، في المتن الروائي كمكان يتردد عليه البطل، بوصفها ناشرة "كتاب الغوص"، الذي يلعب بدوره دوراً فاعلاً في المتن الروائي: "يجب أن تزور مكتبة ذات السلاسل في السالمية. عبد الوهاب ممسكاً بجريدة القبس، ويخاطبني: المكتبة تعلن عن طرح الجزء الثاني من كتاب تاريخ الغوص على اللؤلؤ".  

نحن إذن أمام رواية مموهة بين الحدود: الفني التخييلي والتوثيقي التسجيلي، التدويني والشفهي، الحالي والتأريخي، مثلما هي عالقة بين البحر والبر. تشبه "النجدي" تشكيلياً جسد الغواص نفسه: فقدماها معلقتان في الأعلى ووجهها غائص بحثاً عن لؤلؤةٍ مستحيلة، نصٌ يكتم أنفاسه راغباً في النجاة ولذلك ينحو للقِصَر واللغة اللاهثة التي تصيب هدفها من أقصر نقطة دون إطناب أو تطويل، فلا وقت لديها والهواء المتاح شحيح. "النجدي" رواية تخوم، رواية تهجين بين الخطابات "المتنافرة" للوهلة الأولى، رواية المزق المعرفية والمشهدية في عيني بطل هو بدوره "لا بطل" حيث التاريخ، وفق هذا النسق ما بعد الحداثي، يسرده المهمشون والمهزومون وليس السادة والمنتصرون.

 

لعبة الضمائر.. مرايا الأصوات

تتخذ "النجدي" من تراوح الضمائر عموداً لاشتغالها السردي على استحضار ذواتها. الرواية تبدأ بنداء (لن يكف عن التواتر بامتداد المروية) تختزله "تعال" الآمرة، خالقةً من البداية شكل علاقة بطلها بالبحر في صيغة المخاطب المباشر. إنه الصوت الذي يقرب "المطلق/ البحر، من النسبي/ الفرد على شرف اللغة الإنسانية التي لا ينطق بها المطلق إلا وفق تأويلٍ استعاري، فتجعل البحر في حضوره الروائي تمثيلاً للإله في اتصاله بفكرة "الرسول". هل يتمتع "علي النجدي" إذن بهذه السمة الرسولية التي تجعل منه مبعوث الإله/ البحر لبشره أو قومه؟ وهل لهذا السبب، في قراءةٍ استعارية، يقرر بعد حين أن يترك مهنة "نوخذة الغوص" التي يمتهنها أبوه إلى "نوخذة سفر" حيث التوسع الأفقي في الحركة يحل محل التعمق الرأسي في المكان نفسه؟ إن "علي"، وفق القراءة الاستعارية نفسها (والتي أرى أن قراءة "النجدي" لا تستقيم دون اتكاء عليها) يرى أن لديه "رسالة" يستوجب نشرُها توسيعَ المكان بحيث يصبح مكانه هو العالم ذاته، رسالة تتجاوز اللغة "المشتركة" للجماعة أو القبيلة لتتصل بلغة متجاوزة للقوميات والألسنة، هي ما تسميه الرواية "لغة الريح"، لغة الريح التي تكاد تكون لغة الله نفسه: "نوخذة السفر يا أبي ليس له بعد الله إلا الريح"، "يا والدي، نوخذة السفر يحفظ لغة الريح كما يحفظ راحة يده".

بالتوازي والتقاطع مع توظيف المخاطب في علاقة البحر بالنجدي، يُتكأ على المخاطب أيضاً في علاقة علي بأبيه، ففعل المناجاة هو الرئيسي في خلق حوارية الابن الحاضر مع الأب الغائب. في الحالتين يستخدم المخاطب في العلاقة الخاضعة لتراتبية السلطة الهيراركية الأبوية سواء كانت الموجود الطبيعي/ البحر أو الذات الحاكمة/ الأب. لكن، وبينما يتحدث البحر فينصت علي، يحدث العكس في علاقة المخاطب بين علي والأب عبر حضور صوت الابن واكتفاء الأب الذي صار مدفوناً في مقبرة الذاكرة بالإنصات. مع الثلث الأخير من الرواية، سيهيمن ضمير المخاطب تماماً ليصبح المخاطِب والمخاطَب معاً هو "علي" نفسه، كأنه، فيما يتحد بالبحر، صار البحر والأب وكافة الذوات والموجودات في لحظة النهاية: "كيف لم تحسب حساب العاصفة يا علي. طافت الرائحة بأنفك. كان عليك ألا تجازف. إلى متى تريد أن تبقى معانداً؟"

بالتقاطع مع الدور السردي لضمير المخاطب، يسود ضمير المتكلم خطاب "علي النجدي" كساردٍ بالضمير الأول. إذا اعتبرنا "النجدي" جُملةً سردية طويلة، فإن هذه الجملة تبدأ بنداء وتنتهي بتلبيته. بين "تعال"، الكلمة الأولى في النص على لسان البحر لعلي الطفل، و"لن أفارق البحر"، العبارة الأخيرة على لسان علي السبعيني بينما يتحد بالبحر في غرقه الأخير، تتحقق حوارية بين صوتين: صوت المطلق، الطبيعي، وصوت النسبي، الإنساني أي الثقافي. يكاد يهيمن هذان الصوتان على النص كله، حتى أن أصوات بقية الشخوص الروائية تكاد لا تغادر محدودية التلفظ اليومي الذي لا يقدم معرفة بالوجود، من "نورة" لعبد الوهاب وأسامة وقطيع الأسماء. أصواتٌ لا تتجاوز خطاباتها حدها الاستعمالي أو التداولي، تنزلق على سطح لغة السارد المتأملة والمستبطنة.

المونولوج الذي يهيمن على الرواية، يتأرجح بين مونولوج داخلي (هو الصوت المهيمن) ومونولوج ظاهري يوهم بأنه طرف في "ديالوج" خارجي يُتَرجم فيه صوت السارد إلى تلفظ يوهم بحواريةٍ مع الآخرين الذين يمثلون نص الحاضر (نورة الزوجة الثانية، عبد الوهاب وسليمان رفيقا الرحلة) غير أنه ما يلبث أن يرتد إلى الداخل، كأن الزمن الفعلي للخطاب الروائي هو القراءة الاستعادية فيما يبقى المضارع محض وجودٍ إجرائي، كأنه "طُعم" للاستعادة.

يتحد النجدي في النهاية ببحره، منفذاً وصيته غير المكتوبة واستشرافه اليقيني "نهايتي راح تكون في البحر". كأنه، هو نفسه، "الخيط الأبيض سريع التلاشي" الذي ظل يتعقب اليخت في رحلته الأخيرة، وتكرر حضوره بتنويعات مختلفة. ربما "علي" نفسه هو هذا الخيط الهش الذي يطارد عمره وما يلبث أن ينقطع لهاثه مستسلماً للاختفاء والتواري. النجدي، الذي لم يُعثر على جثته إلى الآن، ذاب في رحم بحره.. حتى أن بوسعنا أن نتساءل: أيهما، البحر أم النجدي، هو من غرق في الآخر؟

 

 *كاتب من مصر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.