}
عروض

رواية "باب الأبد" لصونيا خضر: الحياة فكرة متخيّلة

بسام جميل

10 مارس 2018

"نعم أنا أسكن في صفحتها على الفيسبوك، وأتأمل ما تكتبه للجميع سواي بمفردات كانت بيننا، أتألم ويصيبني الخبل التام والعمى الشديد عن وشم على رسغ كل عابر بصفحتها، عندما تكتب عن وشم على رسغ الغبي الذي تحبه وأفرح لأنني ذلك الغبيّ، وأعرف أن الكثير من الأغبياء يفرحون مثلي للسبب نفسه".

هذا واحد من المقاطع في الرسائل المتبادلة بين جاد وكارمن، بطلي الجزء الأول من "باب الأبد"، الرواية الأولى للشاعرة والكاتبة صونيا خضر الصادرة عن دار الفارابي في بيروت (نهاية عام 2016) بعد ثلاث مجموعات شعرية صدرت لها عن دار فضاءات الأردنية، وبيت الشعر الفلسطيني، ودار لزهاري لبتر الجزائرية، التي ترجمت مجموعتها للغة الفرنسية.

جاد الشاب الضائع الذي يقضي وقته في التواصل الإلكترونيّ نظرًا لأنه الوسيلة الوحيدة التي يستطيع من خلالها الاتصال مع العالم، وكارمن امرأة اللوحة التي تمثّل واحدًا من الأصوات الداخلية للراوية، وواحدًا من الأصوات الداخلية السريّة لغالبية النساء المحاولات البحث عن كيانهن الحقيقيّ والدخول إلى الإضاءات الخافتة للروح، كما تشير الراوية في هذا المقطع: "تصلح كارمن كما تبدو في اللوحة أمامي لأن تكون أي امرأة سوانا، نحن النساء المستهترات بكينونتنا، الخانعات لعبودية الإطار".

التباس

قد يلتبس الأمر على القارئ وهو يحاول الإبحار السريع في عمق الشخصيات الرئيسية في هذا العمل، فلا يعرف خلال تنقله من باب لآخر الهدف من زجّ يوميات الراوية الحقيقية بين سطور العمل، فبين كل رسالتين لجاد وكارمن تنتقل الراوية إلى موضوع قد يبدو مختلفًا تمامًا عن روح العمل، فبعد رسالة التعارف الأولى بين البطلين مثلًا والتي تعرّف بالشخصيتين الرئيستين، تنتقل الراوية ودون سابق تنبيه إلى باب بعنوان" ذبابة على ورق" لتتحدث فيه عن محاولاتها المضنية لكتابة هذه الرواية وعن الفوضى العارمة التي تجتاح ذهن الكاتب خلال فعل الكتابة.

"لم يعد العالم مخيفًا كما كان من قبل، ولم يعد لطيفًا ودودًا كما كان من قبل أيضًا، لكنه أصبح ديبلوماسيًا ومنافقًا بشكل مريع" (صفحة 35)- هذا ما تقوله الكاتبة في محاولة لوصف تداعيات نقل الخبر وأثر التداول الفوضوي لخصوصيات تنازلت عن خصوصيتها وعموميات فقدت أهميتها.

بعد تجاوز الصفحات الأولى من الرواية، يخرج القارئ من الالتباس الحاصل بسبب التباين الواضح في مواضيع السرد، ويدرك أن الراوية تقتحم المستوى الأعمق من الوعيّ والفلسفة الوجودية بأبعادها المتعددة للمس الجدوى من الزوايا الممكنة.

حجر واحد لسرب من العصافير

الحب، الزواج، الأمومة، السلطة، الفقر، اللجوء، الخيانة، الحرب، القتل، الوطن، ومعان أخرى كثيرة بالعمق الممكن والصدق الصادم، هي بعض المواضيع التي تناولتها الراوية من خلال الرسائل المتبادلة بين جاد وكارمن، بخفة شديدة ورشاقة لغوية تجر القارئ إلى عوالم سحرية يختلط فيها الواقع بالافتراض وبالتخيّل وبالشعر، لينجز الفصل الأول غارقًا في تفاصيل تستحق عناء الغرق.

هي محاولة جادة لتشريح كل فكرة من الأفكار التي تراود الإنسان والبحث في معناها الحقيقيّ وأثره على الذات في حياة قصيرة وواحدة، في هذه المحاولة كأنها تسعى لأن تصيب عدة عصافير بحجر واحد أو رواية واحدة، من خلال السيرة الشخصية والقصة المتخيّلة والقصة الواقعية التي نقلتها عن "يبوس" راوية الجزء الثاني من الرواية، والتي تتحدث فيها عن سيرة جدتها.

أساليب السرد

في الفصل الثاني من الرواية، تستبدل الراوية أسلوب السرد ليصبح أكثر اقترابًا من الواقع، كما تستبدل الشخصيات الرئيسية بشخصيات أخرى، ليرتبك القارئ مرة أخرى وهو يحاول فهم لزوم هذا التغيير. تتخلى في هذا الفصل عن اليوميات وتعود إلى خمسينيات القرن الماضي، لتتحدث عن البطلة الرئيسية إيفيت (حواء) التي تجد آدم بعد حياة حافلة بالمعاناة العلاقاتية من زواج مبكر ومشاعر ملبدة بالفهم الخاطئ للحب وأمومة هادرة تجرف الحياة إلى اتجاهات بعيدة عن الذات قريبة من البذل المبتذل للروح والقلب معًا.

إيفيت تتحدث عن تجربتها بالتفاصيل الاعتيادية التي تبدو وكأنها الطبيعيّ الذي لا يدعو للتذمر أو الهروب، تتحدث عن الرتابة، الملل، الغيرة الزوجية، التقاليد وكل ما يمنح للحياة ذلك الإطار التقليديّ المنظّم والقاتل، تتحدث عن قصة عادية لامرأة غير عادية، هذا كل ما في الأمر، الا أن اللاعاديّ هو تشكيل الراوية لـ"آدم" النموذجيّ بلا مناص من تجاوزات مجتمعية ومنطقية تتعلق بالفارق الزمنيّ والاجتماعيّ، فـ"آدم" الذي يليق بـ"حواء" تلك هو من كبُر مع ابنها الوحيد صديقًا مقربًا له، شاركه اللعب والضحك والخصوصية الشديدة في التربية في كنف وحضن امرأة تقدّس الحياة والحرية والحب، امرأة تحاول تهذيب وتشذيب كل الأخطاء الممكنة التي تشوه المعنى وتسرق منه البريق، آدم هو الطفل الذي وجد في عائلة صديقه الصغيرة كل ما يفتقد إليه بين عائلته الكبيرة من تقدير للذات وتعزيز لها، حتى في فترة طيشه وتعدد علاقاته وجد من يسبر غور الأسباب التي دفعته لذلك لا من يحاكمه ويقاضيه على ذلك.

يكتشف القارئ بعد انتهائه من قراءة الفصل الثاني والتشابه الكبير بين شخصيات العمل النسائية منها والذكرية، أن هذا التشابه لم يأت اعتباطًا بل هو محاولة من الكاتبة للحديث عن الهموم المشتركة لغالبية البشر رغم تباين الإحداثيات من زمان ومكان، فيستطيع القارئ وقتها فك الالتباس الحاصل تجاه تعدد الشخصيات وجدوى وجودها في العمل، ويدرك أن نساء الرواية افتراضيات كنّ أم حقيقيات ما هن إلا امرأة واحدة ورجال الرواية كذلك.

العمق والمعنى

في "باب الأبد" وبعيدًا عن السرد والحبكات الناعمة التي لا تتم ملاحظتها بوضوح، تعمد الراوية ومن خلال الحوارات المتواصلة بين أبطال العمل إلى كسر القوالب التقليدية للترجمات السطحية لبعض المفردات الدارج تداولها في العلاقات، مثل مفردة "التضحية" المترجمة تقليديًا على أنها إنكار وتهميش للذات مقابل الذات الأخرى، حيث ترى الراوية أن "التضحية" بالذات هي سبب رئيسي للفهم الخاطئ للعلاقة وبالتالي فشلها، فالعلاقة أيًا كان عنوانها وشكلها هي ارتباط بين "ذاتين" لا صعود لواحدة منهما على حساب أخرى ولا وجود لواحدة في غياب أخرى، "ذاتان" لتشكيل النموذج الأقرب لـ"ذات" واحدة تمنح للمعنى بريقه.

وكما "التضحية" والتشريح العميق لمعناها، تتحدث عن معاني الحب والزواج والصداقة والأمومة والوطن، وانتهازية الأبناء، والفوارق الزمنية والطبقية التي تبدو من وجهة نظر الراوية هوامش عرضية لا يحسب لها حساب في العلاقة ككل، ويبدو هذا واضحًا في الحوار الداخلي الأخير الذي يدور بين الراوية وكارمن (امرأة اللوحة) وهما الصوتان الداخليان المتناقضان في داخل الشخصية الرئيسية والخفية في الرواية.

اعتمدت الكاتبة أساليب سرد متنوعة ومختلفة خلال الفصول الثلاثة من الرواية، ودمجت بين الأصوات الداخلية المتعددة للمرأة والرجل عن طريق اعتمادها للغة الحوار في الكثير من المشاهد، أجادت التكلم بصوت الذكر والحديث عن معاناته، تمامًا كما لو أنها "هو"، كما أجادت خلط الواقع بالافتراض وبالتخيّل دون استخفاف بالمنطق حتى حين زجّها لكائنات متخيلة مثل الكلب "بيبو" و"نيتشه"، فهي اعتمدتهما كرموز لأصوات خارجية مؤثرة، متصادمة أحيانًا ومتضامنة أحيانًا أخرى.

 رواية "باب الأبد" ليست الرواية التي ترجّح كفة الأنوثة أو الذكورة، وهي ليست رواية للنساء كما تقول الكاتبة، بل هي الرواية التي ترجّح كفة الإنسان والكيان المهدد فيه، هي الرواية التي تطرح الارتباكات الوجودية بفوضويتها، وتقصي السطحيّ والطبيعيّ والمألوف إلى الهامش اللامرئي بالنسبة لها، في محاولة لتذكير القارئ بكيانه وجدواه المؤقتة، كما سوزانا تامارو في رواية "اذهب حيث يقودك قلبك"، وكما الفرنسيّ ديفيد فوينيكوس في غالبية أعماله البعيدة عن الماديات الغارقة في المستوى الأعمق للوعيّ والذات.

"الحياة فكرة متخيّلة، نحاول أن نتفاداها لكي نعيش، والأبد هو الايمان بجدوى تحويل الفكرة من خيال إلى باب حقيقي نريد الدخول منه إلى البداية، إلى ما قبل ذلك الطرد من الجنة"- في هذه الفقرة توجز الراوية فكرتها عن "الحياة"، والفرق بينها وبين "العيش"، وايمانها بالمحسوس لا الملموس، في عالم موبق بالماديات والسطحية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.