}
عروض

تقرير الحالة الدينيّة في تونس

شكري المبخوت

6 سبتمبر 2018

استقرّ في أذهان التونسيّين وغيرهم، أنّ تونس تتميّز من الناحية الدينيّة بالانسجام المذهبيّ بمقتضى سيادة المذهب المالكي فقهيّا والأشعريّة كلاميّا والتصوّف على طريقة الجنيد، وهو ما حقّق للبلاد ضربا من الانسجام الإيديولوجيّ الدينيّ جنّبها ما تشهده عدّة بلدان عربيّة إسلاميّة من مشاكل اجتماعيّة. وهي سمة لا تنفي ترسّخ نزعة التحديث فيها مع إنشاء دولة الاستقلال بالخصوص التي أعادت ترتيب الشأن الديني على نحو يقوّي مسار العلمنة القانوني والاجتماعي، ولكنّه لا يعادي الدين بالتخلّي عنه وفصله تماما عن الدولة. فالدولة هي التي وضعت يدها على مؤسّساته وتعليمه وضبط مجاله. وحتّى الإسلام السياسي بطابعه الاحتجاجيّ المناهض للمسار التحديثي العلمانيّ لم يغيّر من هذه الصورة إلاّ قليلا، على اعتبار أنّ مطالبه لم تخرج عن حديث عامّ عن الهويّة أو مطالب مستحيلة بالتخلّي عن بعض المكتسبات الاجتماعيّة المتّصلة بالمرأة وحقوقها بالخصوص.

بيد أنّ صدور الدراسة الضخمة حول الحالة الدينيّة في تونس 2011 – 2015 بتحليلها النظري وبحوثها الميدانيّة في أربعة أجزاء وحوالي 1500 صفحة من القطع الكبير (مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2018) وشارك فيها ما يناهز الخمسين باحثا بيّنت أنّ الوضع الدينيّ أشدّ تعقيدا وأكثر ثراء، وأنّ الانسجام الظاهر يخفي تنوّعا في المكوّنات وإشكالات لم تتبلور مآلاتها بعد. ومن الضروريّ الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة هي الأولى من نوعها بالنسبة إلى تونس وإن كانت الدراسات الشبيهة في عالمنا العربي الإسلاميّ نادرة فلا نعرف منها إلا ما تعلّق بمصر.

ولا تعود المفارقة بين ظاهر الانسجام وحقيقة التنوّع إلى ارتباط الدراسة في الفترة الزمانيّة التي اصطفاها المشرفون على التقرير بالمرحلة الانتقاليّة التي عاشتها تونس فحسب، بل تعود إلى طبيعة المسائل المكوّنة للمشهد الدينيّ في تونس وعلاقة التوجّهات الدينيّة بتحوّلات المجتمع وصراع الآراء فيه علاوة على تنزّله في واقع عالميّ متوتّر ومنفتح في آن واحد.

من التداخل إلى الهجنة والترميق

ممّا أبرزه هذا التقرير ظاهرة بحث التعابير الدينيّة عن صيغ مختلفة للحضور في الفضاء الاجتماعيّ بشكل تنعدم فيه المعايير الضابطة له. وهو ما أفرز ضربا من التطوّر العشوائيّ في ظلّ حريّة التعبير التي جاءت بفضل الثورة التونسيّة وضعف الدولة التي كانت تهيمن على المجالين الديني والاجتماعيّ. ومن تبعات ذلك ضروب من التوتّرات والتشنّج تطبع المشهد الدينيّ.

وهذا ما يسم الفضاء الدينيّ في تونس بسمات التغيّر المستمرّ المفتوح على احتمالات شتّى والضبابيّة والالتباس على نحو يعكس بالضرورة تململا اجتماعيّا وتأثّرا بالاختلافات الثقافيّة بين الكونيّ والمحلّي وينعكس لا محالة على العلاقة بين الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ. والمفارقة أنّ هذا التنزيل المحلّي لقضايا ثقافيّة داخليّة وخارجيّة مرتبطة بالعولمة وبالقيم الكونيّة يكشف عن "امّحاء الحدود القوميّة وهجنة التمايزات الثقافيّة وترميق أشكال الوجود الاجتماعيّ الثقافيّ" (ص 40).

فإذا كان في الدراسة من نتائج ثابتة مجرّدة مهما تغيّرت المحاور والمسائل المدروسة فهو قيام المشهد الدينيّ في تونس على التداخل والهجنة والترميق. وكلّها تضع الانسجام والتماسك موضع سؤال وتجعل حديث القوى الدينيّة عن نفسها وتمثّلها للمجتمع التونسيّ مجرّد حديث إيديولوجيّ لا يرى الواقع في تعقّده وتشابك مكوّناته.

الكوني والخصوصيّ

من الطريف أن نشير استنادا إلى هذا التقرير إلى أنّه لم يعد من الممكن في تونس التفكير في المسألة الدينيّة بمعزل عن المعاهدات والمواثيق الدوليّة والإقليميّة وأثرها في الدستور والقانون التونسيين على ما نجده في المجلّد الثاني من الدراسة. فالحديث الدائر حول حرية الضمير والمعتقد والدين وممارسة شعائره بعد سنوات الاستبداد أعاد طرح هذه العلاقة بين المحلّي الثقافيّ والكونيّ بقطع النظر عن كيفيّة احترام الحقوق الضميريّة والدينيّة ووسائل إنفاذها.

وسواء نظرنا إلى مسألة الحقوق والحرّيّات الدينيّة من الجهة الحقوقيّة المبدئيّة أو الجهة القانونيّة العمليّة فإنّ طرح المسألة في حدّ ذاتها بين فاعلين سياسيّين ومدنيّين من مشارب فكريّة متناقضة ومناقشتها بكامل الحريّة يمثّل حدثا في حدّ ذاته جليلا. والمطروح الآن متابعة توجّهات الدولة والمجتمع والذهنيّة السائدة هل ستكون نحو مزيد من تقوية هذه الحرّيّات أم تقييدها؟ وهل ستكتفي بالرؤية التي حكمت إنشاء مجلّة الأحوال الشخصيّة وما قامت عليه من ترميق بين المدارس الفقهيّة التقليديّة في تأويل النصّ الدينيّ والقيم الحقوقيّة الكونيّة الجديدة أم ستتّجه نحو أسلوب آخر في التفكير المدنيّ؟ وليس أدلّ على خطورة هذه المشكلة من الحديث الدائر الآن، بعد صدور التقرير، حول المساواة في الميراث.

ولا يقتصر أمر الشأن الدينيّ في تونس على المستوى النظري بل له انعكاسات سياسيّة واجتماعيّة مثلما تدلّ على ذلك فصول كثيرة من هذا التقرير. من ذلك ما تشهده الأحزاب ذات المرجعيّة الدينيّة من اضطراب في المرجعيّات بين متأثّر بالفكر الإخواني أو التصوّرات الوهابيّة أو متأثّر بالتجربة التركيّة، إذ لم يعد الحديث عن التمسّك بالقرآن والسنّة "الصحيحة" كافيا لأنّ القضايا المطروحة من قبيل الشريعة الإسلاميّة والدولة المدنيّة ودور المرأة إلخ... تتطلّب تفكيرا معمّقا ومراجعات كثيرة. فكلّ هذا يتطلّب تصوّرات تحتاج إلى مراعاة الواقع التونسيّ بما يذهب بالصفاء الإيديولوجي الموهوم أدراج الرياح.

وممّا يزيد الأمر تعقيدا أنّ هذه الأحزاب تتحرّك في فضاء سياسيّ حافل بأحزاب مدنيّة وعلمانيّة أخرى لها مواقف من الدين وعلاقته بالدولة مختلفة. فالغالب على النخب التونسيّة بتأثير من الإرث البورقيبي هو الإيديولوجية العلمانيّة الحداثيّة. وهو ما برز في المجلس التأسيسي عند مناقشة الدستور ويعود في كلّ مرّة تطرح فيها مسألة ذات علاقة بالدين. ورغم التنازلات والتوافقات بين الأحزاب بمرجعيّاتها الدينيّة والمدنيّة الحداثيّة فإنّ تدبير الشأن الدينيّ في تونس يطرح مشكلة الانتقال من مبادئ الدستور إلى تجسيمها في الواقع.

ومن وجوه التفاعل المتوتّر التي تطرحها المسألة الدينيّة في تونس هو مدى تأثير الموقف من حقوق المرأة في تمثّل التونسيّين للدين. فمن المفارقات التي أشار إليها التقرير ما راكمته المرأة التونسيّة من حقوق قانونيّة وسياسيّة أضحت جزءا من واقعها مقابل صعود الإسلام السياسيّ وإخراج المجال الدينيّ من سلطة الدولة المطلقة. والمفيد في هذه المفارقة أنّها تطرح مسألة أنموذج المرأة المسلمة او المتديّنة الذي لم يحسم المجتمع مقاييسها مع ضغط من بعض القوى الدينيّة للتضييق عليها. فبعيدا عن أنموذجي المرأة الخاضعة للتصوّرات الدينيّة أو المتحرّرة منها قد يفرز الواقع التونسي بخصوصيّاته أنموذجا آخر.

التنوّع ولا شيء غير التنوّع

يكشف بحث الحالة الدينيّة في تونس محدوديّة القول بهيمنة المذهب المالكي رغم تجذّره تاريخيّا وتأثيره في تصوّرات قانونيّة عديدة وانتشاره وعلاقته الثابتة بممارسات التديّن العالم (من خلال الجامعة الزيتونيّة بالخصوص) والشعبيّ في آن واحد. (المجلّد الثالث).

بيد أنّ هذا الانتشار للمالكيّة صاحبه تراجع للمذهب الحنفيّ الذي كان مذهبا رسميّا قبل نشأة النظام الجمهوري سنة 1957. ولا يعود هذا التراجع إلى موقف من بورقيبة ولا إلى تحكّم منه ولكنّه تراجع يلمس كذلك بعد الثورة التونسيّة سنة 2011. فالواقع هو تخلّي الحنفيّين أنفسهم أو ما تبقّى منهم عن موقعهم في المشهد الدينيّ لصالح المالكيّة فابتعلتهم "الأغلبيّة" ولم ينشئوا شبكة علاقات مع نظرائهم المذهبيّين خارج تونس. والطريف أنّ الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي من ذوي الأصول الحنفيّة بيد أنّ الحنفيّين قليلو المشاركة في الحياة العامّة الدينيّة والخيريّة والسياسيّة. وقد بقي لهم بعض التأثير في التصوّف غير الطرقيّ وفي الدولة العميقة.

وخصّص التقرير فصلا مهمّا عن التصوّف في تونس أكّد فيه على دور التصوّف الاجتماعي ووظائفه العلاجيّة خصوصا لدى الفئات المهمّشة. وتاريخيّا مثّل التصوّف الطرقي في عهد بن عليّ بالخصوص الذي شجّعه بتحويل الزوايا إلى مهرجانات سنويّة سندا لمقاومة الإسلام الاحتجاجيّ. لكنّ الطرق الصوفيّة وجدت نفسها بعد الثورة عرضة لتكفير السلفيّين لأربابها بسبب اتّهامها بالقبوريّة والشرك والبدعة فهاجموا الزوايا واعتدوا عليها. ولكنّ ما لاحظه التقرير هو الوضعيّة الماديّة والرمزيّة المزرية للزوايا والتصوّف وهيمنة التمثّلات الخرافيّة عليها.

وتعمّر المشهد الدينيّ في تونس مذاهب وتيارات أخرى أبرزها جماعة التبليغ والدعوة رغم محدوديّتها عددا وتأثيرا. وقد وجدت نفسها بعد الثورة في صراع مع بقيّة التعبيرات الدينيّة والسياسيّة والفكريّة. وما يميّز جماعة التبليغ والدعوة تاريخيّا، وقد سمح لها النظام قبل الثورة بالعمل في حدود مرسومة، خطابُها الدعوي المتمايز عن الخطابين الفقهي والطرقي. لكنه خطاب ساهم بطريقة غير مباشرة في نشأة الإسلام السياسي الاحتجاجيّ.

ولا يكتمل المشهد الدينيّ في تنوّعه المذهبي إلا بالإشارة إلى حضور السلفيّة بصنفيها الأساسيّين العلميّة والجهاديّة. فرغم افتقار السلفيّين في تونس إلى منظّرين فإنّ فهم هذا التيّار لا يكون إلا ضمن نسيج التيارات الفقهيّة والدينيّة والسياسيّة في تونس وفي إطار أسواق التديّن والجهاد.

وبالمقابل يعدّ التشيّع في تونس وثيق الصلة تاريخيّا بالثورة الإيرانيّة وقد تواصل بعد الثورة. لكن يبدو أنّ الحاضنة الفكريّة والاجتماعيّة للتشيع في تونس محدودة جدّا رغم أنّ ما جرى ويجري في سورية واليمن وما كان لمقاومة حزب الله اللبناني لإسرائيل، بما فيه من جوانب مذهبيّة في علاقة بالدور الإيرانيّ كان له دور في تطلع بعض التونسيّين إلى التشيع الإثني عشريّ. إلا أنّ حضورهم لم يرتق إلى مستوى الظاهرة إذ تقتصر مظاهر هذا الحضور على بعض المناسبات من قبيل عاشوراء وعيد الغدير وأربعينيّة الحسين.

ورغم أنّ الشيعة وجدوا في تونس قديما مع الدولة الفاطميّة ثمّ انقطع حضورهم فإنّ المذهب الإباضي استمرّ في الوجود في جزيرة جربة إلى اليوم. ولكنّ المسجد، وهو الحاضنة الأساسيّة المركزيّة للجماعة، فقد لدى الإباضيّين رمزيته ودوره في حياة الجماعة. فلم يعد يؤدّي وظيفته التربويّة المدرسيّة ولا يقوم بنشر الفكر الإباضيّ. إذ ضعفت سلطة المشايخ وبقيت المساجد الإباضيّة مجرّد فضاء للحفاظ على التواصل مع عامّة الإباضيّين بحكم أنّهم على وعي بأنّهم أقلّيّة دينيّة صار هدفها الحفاظ على وجودها والتعايش مع المختلفين مذهبيّا ودينيّا في جزيرة جربة بالخصوص.

وعلاوة على هذا التنوّع المذهبي خصّص التقرير بحثين معمّقين عن اليهود والمسيحيّين التونسيّين وطرح إشكالات مهمّة ترتبط بمسائل المواطنة وحرّية الضمير والاعتقاد والمساواة بين التونسيّين بقطع النظر عن دينهم. ولكنّ البيّن أنّ ارتباط بعض اليهود التونسيّين بالصهيونيّة ودولة إسرائيل لمّما عسّر وجودهم الاجتماعي وحياة من بقي منهم في تونس. وليس حظّ المسيحيّين التونسيّين بأفضل من حظّ اليهود. فهم ضحيّة العلاقة التي قامت بين الكنيسة والاستعمار في تونس قبل الاستقلال. ولكنّ هذا المعطى التاريخي لا يخفي تنوّع الحضور المسيحيّ من خلال الطوائف والكنائس والأعمال الخيريّة والمدارس والمكتبات رغم أنّ عدد أفراد هذه الطائفة لا يتجاوز الثلاثين ألفا بين تونسيّين وأوروبيّين وأفارقة.

السياسة الدينيّة وإمكان التعايش

إنّ كتاب "الحالة الدينيّة في تونس 2011 – 2015" أكثر ثراء من القليل الذي اكتفينا فيه بالإشارات المقتضبة. فقد درس أصحابه المشهد الدينيّ من خلال المؤسّسات (وزارة الشؤون الدينيّة والمجلس الإسلامي الأعلى والجوامع والمساجد) ومن خلال التربية والبحث العلميّ والإعلام (المؤسّسة الزيتونيّة ومناهج التعليم الرسميّ والإنتاج العلميّ الدينيّ ووسائل الإعلام التقليدي والشبكات الاجتماعيّة والجمعيّات الثقافيّة الدينيّة). هذا علاوة على مسائل الشأن الدينيّ في الحركة الطلاّبيّة وعلاقة المرأة بالدين والجمعيّات والمنظّمات المهنيّة الدينيّة.

ويظلّ الجزء الرابع من هذا العمل الضخم من أهمّ ما جاء في التقرير. فهو بحث ميداني قام على استبيان علميّ متين منهجيّا مفيد في نتائجه. ويحتاج إلى وقفة خاصّة وتقديم مستقلّ لنتائجه وما رصده من آراء ومواقف لدى عيّنة ممثّلة من التونسيّين.

إنّنا أمام عمل توثيقيّ وتحليليّ على قدر كبير من الأهمّيّة يتطلّب كلّ فصل من فصوله نقاشا معمّقا. لكنّه في تكامله، رغم تعدّد المشاركين فيه وتنوّع اختصاصاتهم، يقدّم لأوّل مرّة نظرة علميّة شاملة عن مسألة الدين في تونس من زوايا متنوّعة. ورغم الطابع الخصوصيّ للدراسة التي انصبّت على الحالة التونسيّة فإنّنا متأكّدون أنّ هذا الضرب من البحوث لو عمّم على البلدان العربيّة الإسلاميّة لكانت نتائجه مفيدة في حلّ كثير من المعضلات. فأكثر حديثنا عن الدين وأثره في مجتمعاتنا انطباعيّ تقريبيّ. ولكنّ التدقيق العلميّ خصوصا إذا كان مؤسّسا منهجيّا ونظريّا متعدّد الاختصاصات سيكشف لنا حقائق أقرب إلى الواقع بعيدا عن وهم الانسجام المطلق. وإلا فبم نفسّر التمزّقات المختلفة الطائفيّة والمذهبيّة والفكريّة وتنوّع التمثّلات والممارسات الدينيّة؟ ألا يكون بناء سياسة دينيّة تنطلق من معرفة مدقّقة بالواقع الدينيّ الفعليّ أقدر على حماية هذه المجتمعات وتأسيس التعايش والاحترام المتبادل وأنسب لتماسك المجتمعات وتجنّب الهزّات المختلفة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.