}
عروض

"جروح غوتنبرغ الرقيقة": أقدار بشر أجبروا على مغادرة أوطانهم

رمزي ناري

20 يونيو 2019
رواية "جروح غوتنبرغ الرقيقة" هي الأولى للشاعر العراقي وليد هرمز الذي صدر له حتى الآن ستة دواوين شعرية.
ثيمة الرواية تتناول سلسلة أقدار لبشر أجبرتهم قساوة بلدانهم ـ بلدان طاردة للمخلصين من أبنائها ـ ولأسباب عديدة، سياسية، ودينية، ومآسي حروب، على الهروب والاستيطان في عالم بعيد، جديد، منفيين أو مهاجرين بحثاً عن الأمان هرباً من عالم القهر، والموت والمعتقلات، والتصفيات الجسدية.
يستدرج المؤلف شخصياته التي التقاها في أكثر من مكان وزمان، في منفاه الاسكندنافي ـ في مدينة غوتنبرغ السويدية- إلى حوارات جاءت وكأنها اعترافات خارجة من قفص الروح. اعترافات عن ماضٍ بعيد، وأخر قريب، على هيئة تداعيات تنزف ألماً عن سنوات الاضطهاد والملاحقات والاعتقالات، والتسقيطات السياسية التي تُدمر الروح والجسد. حوارات طويلة، وأخرى قصيرة، متشعبة، طغت على طقس الرواية بصفتها الأسلوب الأكثر ديناميكية في محاولة المؤلف لكشف صريح للمعاناة الإنسانية المطمورة في دهاليز النفس البشرية. لكن بين هذه الحوارات ثمة استراحات قصيرة، على جرف المدى، تتوسط هذا التناطح الحُر، لكنها بالمُجمل تزدحم بهياج دافق بين مكانين بَعُدا جغرافياً، وتقاربا روحياً، بين شرق وغرب، في منفى يحاول أن ينبش أظفاره في جسد حيوات أنهكها فقدان "المنزل الأول".
جاءت الرواية في عشرة فصول، في كل فصل شخصية مستقلة عن الأخرى.
لم تقتصر شخصيات الرواية على المنفيين من بلدانهم فقط، بل اختار المؤلف شخصية نسائية سويدية "أليسيا"، المدمنة على تناول الكحول تعيش حالة اغتراب وانكسار روحي وجسدي في عالم يسوده الصمت البارد وتغلفه العتمة القاسية، ليكتشف أن تلك السكيرة هي مؤلفة روايات، وأغلب متابعيها هم من السكارى.
وهناك "سارا" المرأة اللبنانية، الهاربة من الحرب الأهلية، وحروب الضياع والانكسار في بلدها، كانت مقاتلة في صفوف المقاومة، لكنها تكتشف فجأة أن هذه المقاومة ضياع ولم تربح خَيارها الحقيقي في انتمائها إلى هذه المقاومة، فتختار دراسة الفلسفة، في محاولة لجبرِ هذا الانكسار المقاوم الذي سقط متحطماً كجرة، ثم لتجد نفسها مهاجرة إلى بلد الصقيع الاسكندنافي.
ثم هناك "ريباز" مقاتل عراقي كردي في صفوف الأنصار ضد نظام ديكتاتوري، يُصاب في إحدى العمليات العسكرية وما يلبث أن يصبح معاقاً، فيهرب إلى بلاد الصقيع.
معظم شخصيات الرواية من النُخبة التي لها لغتها المميزة، لذا جاء السرد الحكائي قريباً إلى عالم الشِّعر في الإفصاح، وبتماسٍ مشدود إلى بعضه، يقترب ويبتعد، في عالم كل منها.
ركز المؤلف في بعض الفصول على استخدام لغة "الإيروتيك الناعم الجميل"، المُحسَّن في محاولة لكسر المثالية الخانقة، والمُصطنعة لشخصيات مُلثمة بالخجل، فتجرأ المؤلف على كسر هذا التابو المدجج بسلاح العيب.
هذه الرواية هي رواية "المأزق الجميل" الذي أحاط بالعديد من المهاجرين والمنفيين الذين يحاولون ترويض الحيلة التي لا مفر منها واختراع مسالك أكثر رأفة للإنغمار في عالم الصمت والبرد والوحدة والظلام، لكن مأزق شخصيات الرواية التراجيدي العيش في عالم ينظر إليهم
نظرة استعطاف مشوبة ببعض النفور غير المُعلن. لا مفرَّ، إذاً، إلاَّ بمحاولة استعادة توازنهم الوجودي وابتكار مكانٍ أليف داخل مكان آخر في عالمهم الجديد.
لا أبطال مميزين في هذه الرواية. ثمة شخصيات واقعية تناطحت فيها قرون المخيَّلة تناطحاً هائجاً كأنها الجحيم الذي يقتصُّ منها ما تسوس إليه من تراجيديا الاقتلاع، المخيلة التي يرتبط جزء كبير منها بعالم "الحقيقة القابعة في أعماق كل كذبة" كما قال الروائي كالفينو.
صدرت الرواية عن دار "هُنَّ" المصرية في 300 صفحة من القطع المتوسط. ولوحة الغلاف من أعمال الفنان فراس البصري.

****

هنا مقطع من الرواية ثُبّت على الغلاف الأخير منها:

 "هل خُدِعْتِ؟".
ـ وجودي خُدعة، لكنها خُدعة ضرورية، تساعدني أن أكون.
"لكنكِ حملتِه، وهربتِ به من الشرق إلى هنا، أكنتِ واثقة أنه سيحميكِ؟".
ـ لم أفكر أن يحميني أحد، ربما هو مصدر راحة كاذبة. كان هدية من أستاذي في معهد الفلسفة، والهدية لا تُرَد.
"لِمَ اختاركِ، أنتِ بالذاتِ، أن يُهديكِ صليباً غريب الشكل والمعنى؟".
ـ اعتَبَرَني منشقَّة.
"بأي معنى؟".
ـ انتقالي من المقاومة إلى الفلسفة: احتفظي به، هو سلاح للتطهير، قال لي الأستاذ يومها.
"هل تعتبرين نفسكِ منشقَّة فعلاً؟".
ـ أحاول أن أُهذِّبَ قلقي، أُنَقِّيْه. أعياني الصبر. إلى أين تُريد أن تصل بمماحكاتك هذه؟
"أنا وصلتُ، من زمان، وحسمتُ الأمر".
ـ لِيَ رغبة أن تلحقي بي، ربما نكتمل.
"أبَرُّكَ أمان؟".
"أنا في لُجَّة بحرٍ، أُجذِّف علَّني أصل برّ الأمان".
ـ أنتَ أبْكيْتَني، وأنت تُحاول أن تطأ لاهِجاً، دكَّةَ فجري.
"البُكاءُ مغفرة".
ـ مغفرةُ ماذا؟
"أعْطيكِ ما ينقُصَكِ".

*كاتب ومترجم مقيم في عمَّان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.