خرجت أمهات الشهداء والنساء والشبان والشابات والأطفال الصغار والكهول وكل من كان قادرا على المشي من أجل الثورة السودانية المجيدة. وغاب عنها جسدا ولم يغب عنها روحا الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن، المنفيّ في النمسا، والذي ظل يعيش الثورة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فلم يبخل بنصائحه ولا بآرائه على أبناء بلده من الثوار الأحرار.
من أعماق السودان المنسي
بركة ساكن مؤلف وروائي متميز، وتعد روايته "الجنقو مسامير الأرض" أيقونة الثورة السودانية المجيدة، فقد فازت بجائزة الطيب صالح في عام 2009، واستطاعت أن تجد صدى واسعاً في الشارع السوداني، ولاقت إقبالاً كبيراً داخل السودان وخارجه.
هذه الرواية تخاطب الوجدان وتحرك المياه وتزرع الأمل في المواطنين السودانيين وكانت حدثا بارزا في حياة الكاتب لأنها تنبثق من عمق أعماق السودان المنسي، من حياة الفلاحين البسطاء المعروفين باسم الجنقو، بل وتتنبأ بالثورة وترسم سيناريوهاتها بشكل مثير.
يطلق لفظ "الجنقو" في الأصل على العمال الزراعيين الموسميين في التخوم السودانية
الأريترية الأثيوبية، هؤلاء المهمشون المنسيون في أقاليم السودان الزراعية، الذين يعيشون على وضع اجتماعي متدن وظروف حياة صعبة جدا، يسهمون بشكل كبير في إنتاج الثروة السودانية، وتوفير الغداء للسودانيين، إلا إن الحكومة المركزية وعلى الرغم من استفادتها المباشرة من مجهودهم وشقائهم لم تسمع بهم ولا توليهم أدنى عناية أو أهمية، ولم توفر لهم أي حماية اجتماعية أو اقتصادية.
والرواية تخوض في حياة "الجنقو" الفردية والاجتماعية، وعلاقاتهم ببعضهم وبالمؤسسات، وتصور شقاءهم وما يعانونه بسبب الظروف الطبيعية والمناخية وعلاقات الاستغلال من أرباب العمل والمؤسسات الحكومية. كما ترصد التحولات التي طرأت على حياتهم ومجتمعاتهم، نتيجة إدخال الآلة الزراعية الحديثة.
سلط الكاتب اهتمامه على الناس العاديين، طريقة عيشهم وأحلامهم وأفراحهم وأتراحهم، ورصد تحول الشخصيات من حال إلى حال. وأفلح الروائي في اختيار شخصيات روايته ونحت ملامحها والغوص في أعماقها، فكل شخصية مستقلة بذاتها ومرتبطة في آن بالآخرين، يؤثرون فيها ويرسمون مسارها.
يُعدّ "ود أمونة" أهم شخصيات الرواية، ضحية الظروف الاجتماعية الهشة التي عاش فيها، وضحية والديه، فالأم منحرفة، والأب مجهول، والمجتمع لا يرحم، والدولة لا توفر شروط الحماية.
بدأت مأساة "ود أمونة" بدخول السجن صحبة أمه: "دخل السجن في هذه المرة الأخيرة مع أمه منذ سنتين، أي أنه كان في السابعة من عمره، وهو العام ذاته الذي التحق فيه أنداده من أطفال الجيران بالمدرسة". ومع حرمانه من حقه في التعليم، فقد خضع لأبشع أشكال الاستغلال الجنسي، على حداثة سنه، من طرف نزلاء السجن وحراسه، في حين كانت أمه تخضع لاستغلال آخر، وهو تسخيرها من طرف ضابط السجن للخدمة في بيته وبيوت جيرانه.
بيد أن هذا المحيط الاجتماعي الموبوء، والسلطة الحاكمة الفاسدة، تتيحان الفرصة للارتقاء أمام الانتهازيين والوصوليين، و"ود أمونة" خير مثال للضحية والانتهازي، تسلق طبقته الاجتماعية وخانها. فرحل إلى العاصمة، وتولى منصب الوزارة، على الرغم من أنه لا يتوفر على خلفية سياسية ولا تدبيرية تؤهله لنيل منصب المسؤولية وتدبير الشأن العام، فإن الفساد وغياب الديمقراطية يتيحان لأمثاله ذلك.
السجن هو وجه آخر للوطن
الجنقو هم أسرى واقعهم المرير، يقضون حياتهم بين المزارع والسجون. وأكثر شخصيات الرواية مرتبطة بالسجن، فهم إما نزلاء السجن، أو تربوا فيه، أو حراس فيه، وللسجن، على
الرغم من بشاعته، حضور طاغ في الرواية. ففي سجن القضارف عاش "ود أمونة" أهم مرحلة في حياته، وفيه تعرف على صديقه الذي هو ابن أحد حراس السجن. والطفلان، معاً، على الرغم من اختلاف وضعيتيهما، مرتبطان بعلاقة صداقة، ومحكومان بالحياة داخل فضاء هذه المؤسسة الرهيبة، إلى جانب كثير من الجنقو، الذين مروا منه، أو ينتظر أن يمروا منه بدورهم. "في زول في القضارف ما شاف السجن؟!"، يتساءل الراوي. السجن هو وجه آخر من أوجه الوطن، أو هو صورة للوطن نفسه، حيث تنتهك كرامة الناس وأعراضهم وحقوقهم وحرياتهم. وفيه تتم صياغة شخصياتهم.
صور الروائي أبشع مظاهر استغلال الدين في السياسة، ففي سجن القضارف يفرض الحراس على المساجين أداء الصلوات جماعة، كما يلزمونهم بسماع المواعظ الدينية التي تتمحور حول خطاب التأثيم، وتتوعد المعارضين السياسيين الذين لا يطيعون الحاكم السياسي بأبشع العقوبات في جهنم.
وفي السجن أيضا، هذه المؤسسة الرهيبة، يتم إخضاع السجناء للاستغلال الاقتصادي، فالسجينة "أمونة" يكرهها ضابط السجن على العمل في منزله لتنظيف ملابسه، بدون أجر، بل ويسلمها لأصدقائه لتنظيف ملابسهم أيضا، في انتهاك صارخ للقانون، ولآدمية السجين، ولعله كان يتقاضى أجرا على ذلك، أو منفعة مادية أو معنوية. يقول الراوي مخاطبا "ود أمونة": "أمك حتجي بعد كدا، المأمور كَرّهها الدنيا.. إنت عارف ملابسه وملابس أولاده وبناته، وحتى جيرانه. والله أنا شاكة في إنو قاعد يأخد عمولة من الناس في الغسيل.. أمك لو بقت مكنة غسيل".
وخارج أسوار السجن، صور الروائي مظاهر الاستغلال التي يخضع لها الجنقو، فكشف عن معاناتهم اليومية مع أرباب العمل والمشغلين المستغلين الأثرياء الذين يستنزفون شباب الجنقو بأبخس الأثمان، ليراكموا ثرواتهم في غياب شروط العمل والحماية وحقوق العمال، بتزكية من الحكومة التي تتغاضى عن ذلك.
والبنك الزراعي أيضاً، وهو مؤسسة مالية ترمز إلى الثروة والحكومة التي ترعاها، لا يهمه تحسين أحوال الجنقو، فخدماته كلها موجهة للإقطاعيين وكبار الملاك، يقدم لهم الخدمات المالية ويوفر لهم القروض للاستثمار، ويرفض أن يقدم قرضا للعمال المؤتلفين في إطار تعاونية أسسوها لأجل الارتقاء بأحوالهم وظروفهم والتحرر من استغلال الإقطاعيين.. ويعتبر البنك والحكومة نفسها يعملان على زيادة غنى التجار، وأنهم ضد الجنقو..
هذه الظروف الاجتماعية والسياسية قتلت في الناس كل طموح في تحسن أحوالهم، وفي المواطنة الكاملة والمشاركة السياسية، وستكون عاملا محرضا على الثورة.
طموح الجنقو في تحسين وضعهم والارتقاء بحياتهم، اصطدم برفض البنك تمويل مشروعهم،
فبدأت انتفاضتهم ضد تعسف البنك وظلمه، وعندما انحازت السلطة إلى البنك ووقفت ضد المواطنين، أصبحت الانتفاضة ضد الحكومة، فانقلبت إلى ثورة مسلحة ضد النظام السياسي.
وهكذا أفلح الروائي في رصد ملامح الثورة في نفوس الشخصيات، وفي رسم السيناريو المحكم للانتفاضة ضد السلطة، من خلال مراحلها الدقيقة. وحتى عن الأكاذيب التي تروجها السلطة لتبرير عنفها المسلط على المواطنين، يقول الراوي: "بعد المعارك الطاحنة التي دارت بين الجنقو وكتيبة من الجيش ترتكز بحامية زهانة، انتبهت الحكومة المركزية لخطورة ما أسمته بالشِفْتة أو النَهب المُسَلّحْ، وجرى الحديثُ عن القوى الخارجية التي تريد أن تطيح بالحكومة الوطنية وإجهاض (المشروع الحضاري للدولة).."... نفس الأسطوانة المشروخة التي ترددها كل الأنظمة المستبدة بالبلاد العربية المنكوبة بأنظمة الحكم الشمولي.
منع تداول الرواية
إن القارئ العادي يمكن أن تمرّ عليه هذه الأشياء وكأنها أشياء عابرة لا أثر لها، لكن القارئ المتفحص سيكتشف أن الرسالة هي بين طرفين: الشعب في مواجهة السلطة أو النظام. وهو ما فعله الرقيب في السودان حينما منع تداول هذه الرواية واعتبرها تخدش الحياء العام، في حين أنها رواية تنتصر للإنسان أينما كان، تنتصر للحق في مواجهة الظلم. وبسبب هذه الرواية منع عبدالعزيز بركة ساكن من دخول السودان، وأصبح مفروضاً عليه أن ينتقل إلى مكان آخر غير وطنه، حيث شدّ الرحال إلى منفاه بالنمسا، يستظل بعدالة وديمقراطية وحرية وأمن هذا البلد الأوروبي.
ظن الرقيب في السودان أنه استطاع أن يتخلص من رواية "الجنقو مسامير الأرض" ويبعد كاتبها عبد العزيز بركة ساكن بعيداً عن بلده السودان.
لقد اطمئن الرقيب، لكن هيهات أن يستمر هذا الاطمئنان، فما أن بدأت الثورة السودانية حتى أخرج الثوار ما كان الرقيب يظنه قد فات، وخرجت الشعارات مطالبة بإسقاط النظام وبالحرية وبالعدالة وبالحكم المدني، وأخرج شعار "الجنقو مسامير الأرض" الرواية السودانية الخالدة التي استطاعت أن تخرج من رحم المعاناة، والذين حملوا شعار عنوان الرواية هم من العسكر السوداني المجيد وغيرهم من الثوار. صورة كانت معبرة، وأكبر حدث عاشته الثورة السودانية المجيدة. وحُمل شعار الرواية في أغلب المدن السودانية، وكانت الصور تقول إن الجنقو هم الشعب السوداني الأصيل، وإن الثورة التي جاءت في الرواية هي الثورة المتوقعة التي يعيشها السودانيون اليوم.
*باحث في الأدب الإفريقي من المغرب.