ولعلّه من المبرَّر تأطير تجربة أحمد هاشم الريسوني ضمن هذا المنعطف الذي أسهم فيه بدوره بقصائده المطوّلة الأولى التي كان ينشرها في الثمانينيات النازلة بالملحق الثقافي لجريدة "العلم" الذي أسهم ــ تعريفاً وتصريفاً ــ في الشعر المعاصر بالمغرب وفي الواقع الثقافي والأيديولوجي بعامة. وكان من المفهوم أن تحظى قصائده هاته بمكانتها في هذا الملحق لنبرتها السيرية والمكانية.. والبعيدة، وقتذاك، عن البقية الباقية في ماكينات الأيديولوجيا الساخنة التي سادت من قبل. وهي القصائد التي ستؤول إلى عمل شعريّ له بعنوان "مرتيليات" (2000) في دلالة على مدينة مرتيل الجامعية والهامشية بشمال المغرب وبخاصة في تلك الفترة حيث التسكّع والعبور و"دفاتر الخسران" حتى نحيل على الراحل أحمد بركات. ومن قبل عمل الشاعر الأوّل "الجبل الأخضر" (1998) الذي أعلن فيه الاحتفاء بالمكان لكن على نحو سيريّ محدّد؛ ذلك
في عمله (الجديد) "هذا البيت" (منشورات "الفاصلة"، طنجة، 2019) يتواصل، ظاهريا، حضور المكان؛ وهو ما يتأكد بدءا من العنوان ذاته. والعنوان، في تمركزه على مفردة البيت المُرتَّب أو المَمْهُود لها باسم الإشارة، تلميح لما يمكن نعته بـ"هدْأة التصعيد" في دنيا الشعر والخلق والتخييل والاستقبال. بكلام آخر: التصعيد الهادئ مقارنة مع "لا" في دلالة على العنوان السابق (2012) في سجّل الشاعر المتكوّن ــ حتى الآن ــ من خمسة أعمال شعرية.
و"هذا البيت"، بحمولته الفلسفية الوجودية، وعلى صعيد المفهوم، ينأى عن أن يكون مجرد "عتبة" (Seuil) بلغة الرطان النقدي البنيوي المعاصر؛ عتبة لرسم عوالم العمل أو تقريب فضاء الدلالة في هذا الأخير. وأن نسميَّ الشيء معناه أن نمنحه مصيره كما يقول الروائي الإسباني أندريس باربا. ومن ثمّ رهان الشعر على المعنى بدلا من الحقيقة، على البعيد والمترامي لا الداني والمجاوِر. وحتى إن كان العمل يحفل بتسميات ــ صغيرة؛ للمناسبة ــ ففي المدار ذاته الذي يعضّد من شبه "أرخبيل" للمعنى في العمل كما سنرى.
والعنوان قرين انبثاق (Surgissement) "أنا الشاعر" في دنيا الشعر والإبداع والمتخيّل، مثلما هو قرين استقطار الدلالة في فضاء العمل. بمعنى آخر: إنه شرارة العمل وسياق جانب مهمّ وغالب فيه. وبكلام الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، صاحب التصوّر الأنطولوجي المتفرّد بخصوص الشعر والزمان الوجودي، فـ"هذا البيت"، وعلاوة على "هدأة التصعيد" سالفة الذكر، هو من باب التلويح بـ"الآن والهنا" والكينونة أو "الدايزن" حيث "انبساط التكلّم" (حتى نحيل على عنوان ترجمة الراحل بسام حجّار)، وحيث دروب الشعر والإبداع التي تعني أشياءً كثيرة دونما استقرارٍ على شيء محدّد في بلاغة هذه الدنيا العريضة والمتعارضة في
وكما قال الشاعر العربي القديم: "وآخذ نفسي بتأليف شيءٍ واحد في اللفظ شتّى المعاني". لذلك فالبيت، بيت الشاعر تعيينا، غير البيت بمعناه المضموني الحاسم. ونتصوّر أنه سيكون من باب الهَذَر أو حتّى التجنّي تلخيص العمل في المكان أو في عدّ المكان بطلا في العمل. كما سيكون من التجني المضاعف تلخيص المكان في معطى هندسيّ مفصول عن سطوح الذات وأقواس الأنا وشقوق اللغة ومفارقات الوجود. وهو ما يتأكد منذ أوّل سطر في العمل. يقول الشاعر مفتتحا عمله:
"هيّأت هذا البيت..
جرتْ قُدّامَه موجةٌ
قطفتْ يدي
ما من شِراكْ..!".
فالبيت هنا، وابتداءً، قرينُ نوع من الاستدعاء ونوع من التأسيس الأنطولوجي لذات الشاعر من قبل الذات الشاعرة ذاتها. لذلك فالبيت نبضٌ ورغبةٌ... من منظور الذات، ولذلك أيضا فالبيت ولادةٌ في دنيا الإبداع والاحتمال والخيال. وذلك كلّه بعد أن تحرّر هذا البيت من "الحجاب" الذي يعوق فعل الرؤيا وحلم الولادة. "هو ذا البيت/ قد رفع الحجاب.." كما يقول الشاعر منتشيا ومتكابرا؛ كما في كبرياء الشعراء المحمود.
وبهذا البيت، وفي هذا البيت أيضا، يتأكد الإبداع بمعناه المطلق: الوجودي بأكثر من معنى، ومن منظور الشاعر من حيث هو كائن مدينيّ حيث طنجة الساحرة... وفي دلالة على المدن التي توجد ــ وبلغة "الاستشراق" ــ في الواقع والخيال معا؛ ممّا يشرعها على صنوف من القول والخطاب في عالم الإبداع واللغة. ومن ثمّ "طنجة الشاعر" تمييزا لها عن طنجة باقي الشعراء والكتّاب... وكذلك المجانين والمجاذيب. طنجة التي يؤثّثها الشاعر بمفردات حميمة ومخصوصة وممتلئة ومرجعية حتى وإن كانت معطاةً أو من باب "المعالِم" (Repères) بلغة النقد السينمائي... حيث شارع الروكسي والريتز والروكسي وجهة البولفار وخمّارة البريد وشارع التحرير وشارع المكسيك... وغيرها من هوامش العيش المشترك و"أماكن الذاكرة المفتوحة" على نحو ما تتيحه من إمكان لمزاولة "طقس العبور" في أدغال الذات وجغرافيا الروح... بعيدا عن "النحن" و"الهُم" وفي إطار من النسيان المضمر والمحجوب ولعلّه "النسيان السعيد" كما يسمّيه المفكّر الثقافي البريطاني رايموند ويليامز.
المكان
يظل المكان شيئاً مركزياً بالنسبة للإنسان. والإنسان، كما يقول الفيلسوف مارتن هايدجر، لا يعيش فوق المكان، وإنما يعيش مع المكان. كما أن المكان غير محايد. وهو بدوره "يرى"، لكن بعين الإنسان؛ لكن دون أن يسلم هذا الأخير من تأثيراته في نطاق "الحتمية المكانية". فـ"المكان قدر" كما قال الروائي غالب هلسا والمترجم للكتاب الأشهر "شعرية المكان" لصاحبه غاستون باشلار. وفي إيجاز بارع: "الإنسان يصوغ المكان بقدر ما يصوغ المكان الإنسان".
لذلك حرَص عمل شاعرنا على أن يلتبس بالأمكنة ذاتها، كما هي، دون أن يجعل من طنجة
مدينة متشظية أو حتى نثرية. فلا غبار ولا حديد ولا ضجيج، ولا حتى بشر وتدافع بشر. فالأمكنة مرآة لذات الشاعر أو "مرآة في مرآة" أو "سياق المرآة العاكس لمرآة أخرى" بتعبير الناقد الهندي رامانوجان. ولذلك أيضا وجدنا العمل يشي، وعلى سبيل اللزوم لا الإشارة أو التضمّن فقط، بالفراغ والبياض والصمت... وغيرها من مراكز الدلالة في التصوّف الإشراقي والوجداني. وذلك كلّه في دلالة على طنجة التي تعشق طنجة لا سواها... كما يقول الشاعر مبتهجا. وهو الوجه الآخر للعشق ذاته الذي تخفيه الذات لطنجتها في دنيا المتخيل والمنفلت والاحتمال والجسدانية المتوارية. طنجة المندسّة في لحم الشاعر "موجة،/ وردة،/ قبض ناي/ أمد يغرُب في هوايْ" (ص24).
هي، إذاً، أمكنة في هيكل الذات، وبين أسوار الذات، وفي باحات الوجود الحميمة حيث الزمان الوجودي ذاته أو حيث الزمان غير المتزمِّن الذي لا مجال فيه للتواريخ أو حتى الفواصل الصغيرة التي تشرع الذات على التقطّع واختبار العتبات ولعبة البدايات وإبهام النهايات. فـ"الموعد عذابي.." كما يقول الشاعر؛ وشاكيا هذه المرة.
هي أمكنة في هيكل الذات كما قلنا. ومن ثمّ، وهذه المرّة، التطلّع نحو تلك "النقطة العليا" كما يحلم بها المتصوّفة والسوريّاليون الحالمون من الذين يقاسمونهم "مدارج التطلّع" إليها. ومن ثمّ الخمرة ضمن مراكز الدلالة المتقشّفة في العمل. الخمرة التي تسقي الذات دونما يدِ إنسان. خمرة بدون زجاجة أو زجاجة بدون خمرة. فـ"السماء نبيذ.." بالنسبة للشاعر. الخمرة مرآة. والخمرة داخل الذات؛ وليست، بلغة دراسات الجسد، لـ"عرض الذات" أو "خارج الذات". ومن ثمّ "السكر النافع" بتعبير العالم والطبيب ابن النفيس. ذلك الصنف من السكر الذي يطفئ الدماغ لكي يحييه من جديد، وذلك الصنف من السكر الذي ما أحوج إليه الشعراء والفلاسفة والمبدعين المجانين وعمّال الفكر ومنتجي الأفكار وأرباب الأحوال.
هي خمرة المتصوّف، وخمرة "مرتقى الأنفاس" التي تؤجّج عطش الإبداع. وكما يقول عمر الخيّام: "تعلّمت احترام الخمر لكي يحترمني". وما التذكير البارق، والمقصود، بمولاي عبد السلام بنمشيش: القطب الرباني، إلا من باب الإيحاء بمرجعية التصوّف في العمل وفي مجموع منجز الشاعر بخاصة إذا ما ذكّرنا بعنوان عمل آخر له وسابق "النور" (1999). وذلك كلّه في دلالة على الوجدان والذوق وفي إطار من التصوّف الإشراقي النوراني ومن خارج تواكب شروط المَكَنة والمعرفة والإغاثة... سواء في حال القطب سالف الذكر أو غيره من الأقطاب والأغواث والأولياء... في ريبرتوار أو سجّل تصوّف الشاعر.
مخزون الأنا
وثمة شقّ دلاليّ ثانٍ في العمل، وقد حافظ فيه الشاعر على النهج الكتابي/ الإنشادي ذاته حيث "عالم الكلمات" الذي يسير بجوار "عالم الأشياء" بعيدا عن الخلق أو التوجيه أو المحو أو التنابذ والتفتيت. فالكلمات، هنا، لا تعلو أو تفرض على الأشياء. هي تنصرف إلى الأشياء دونما دوار أو انشطار؛ ممّا يجعلنا بصدد صنف من فكرة "الكلمات ــ الأشياء".
وفي هذا الشقّ يطير الشاعر إلى مخزون الأنا ضمن فضاء أصيلة، أو أصيلا، دونما تاء تأنيث وعلى نحو ما يكتبها المؤرّخون المكرّسون أو "أزَيْلا" بشحنتها المبهجة كما يكتبها الشاعر. وفي هذا الصدد يكشف الشاعر عن السيري أو محكي الذات في نطاق الشعر من حيث هو "لمح تكفي إشارته" بلغة الشاعر العربي القديم. فأصيلا هاته، وبالنسبة للشاعر، هي بمثابة
"المرفأ الحقيقي لأفكاره ومشاعره وحدوسه، والروح المتجدّدة التي تسكنه وتتحكم فيه، وتحقّق إنسانيته، ومعنى وجوده" بتعبير الباحثة نُهاد المودن.
والمكان، في الشق نفسه، ليس من باب النوستالجيا المريضة أو التباكي المصطنع أو الاستعراض المفكّك. ومن ثمّ خمرة من نوع آخر حيث "مرغوبة" و"ماء مرغوبة" و"شاطئ برييش"... حيث صفاء العراء وبرهان الصفاء .... وحيث "أريج البلاغة" (بتعبير الشاعر) ومملكة الشاعر بعامة... وحيث الشاعر في قيلولة الوجود أو "القيلولة الوجودية" بتعبير محمود درويش. القيلولة المهددّة من أكثر من اتجاه... لولا الشعر والإبداع.
وعلى مستوى البنية والتكوين فالشعر، في "هذا البيت"، نص "أتيّ وسمح" بلغة الناقد العربي القديم. وعلى مستوى الرؤيا والتطلّع فهو صيغة وجود وعلامة حياة. وعلى مستوى الدلالة، وتواكب أنوية الدلالة، فهو امتلاء وانتشاء وفرح وجنون كامن... بعيدا عن الدمار والدرامية والخراب والتخريب والتمزّق والهوس... وباقي أشكال "القيامة الأرضية" أو الأبوكاليبيس القائمة أو المستجلبة ضمن آلام الوجود وتمزّقات الكائن وتصدّعات الأنا.
يقول الشاعر:
"هي ذي ألحاني..
أسكب ظلها..
في برزخ العين
وأنا الغارس..
الجاني..".
أحمد هاشم، وفي مجموع شعره، وعلى نحو ما يبدو لي، لا يُعنى بالقصيدة الدينامية ولا القصيدة الإلكترونية ولا القصيدة المجانية... مثلما هو لا يُعنى بالكلمات من حيث هي مدفعيات أو مسدسات... إلخ. همّه الكلمات التي تسير في اتجاه الكلمات، مثلما همّه ــ كما في "هذا البيت" ــ التجربة أو باحة التجربة حيث ظل الشعر والاستظلال به مثلما السير في ظلاله الأليفة. وعلى وجه التحديد، أو الأحرى اللاتحديد، ذلك الصنف من الظل غير القابل للمحو (Ineffable) بتعبير الفيلسوف هيجل، حيث التجربة والسبر والدخلنة بلغة الشاعر اللبناني المتفرّد عباس بيضون، وحيث الشاعر مثل ذاك الطائر الذي يغني لذاته ابتداءً، طائر النغري تعيينا؛ وبخاصة لما ينقر من عسل العنب المتبقّي والمتخثر ــ بين الأوراق الآخذة في الذبول ــ إلى حدّ الشبع والانتشاء و"الطيران فوق عش العقل".