}
عروض

"ترحال" لـهرمان هيسه: بين الحنين إلى الماضي والتشكيك بالمستقبل

ميرنا الرشيد

12 أكتوبر 2020

في خضم رحلة بحثه وتجواله عن معاني الحياة المختبئة في الطبيعة، وخلال عبوره المعرفي والنفسي من مرحلة التعلق والالتزام إلى الانعتاق والتحرر من كُلِّ العقائد والأوهام، يتحول هرمان هيسه، الكاتب الألماني الشهير، المولود عام 1877، والمتوفى عام 1962، في كتابه (ترحال- ووندرينغ)، إلى ناسكٍ زاهدٍ متجولٍ، مسكونٍ بحُب اجتياز الحدود، (للوصول إلى الجهة الأخرى من كُلِّ شيء).
نُشِرَ (ترحال) بطبعته الأصلية الأولى عام 1920. وقد ضمّنه الكاتب خلطة من المقالات النثرية والنصوص الشعرية، كتبها بعد رسالة أرسلها إلى الأديب الفرنسي رومان رولان في شهر أيار/ مايو 1919، قال فيها: (حدث، في السنوات الأخيرة من حياتي، أن تحملتُ أعباءً ثقيلة. إنني الآن على وشك أن أبدأ رحلتي مجددًا إلى تيسينو، كي أعتكفَ لبعضٍ من الوقت، زاهدًا في الطبيعةِ وأعمالي).
بعد مرورِ حوالي عام، ولما كان قد استقرَ في قرية (مونتاجنولا) الجبلية الواقعة في كانتون (تيسينو) في أقصى جنوبي (سويسرا)، نشر الروائي الحائز عام 1946 على جائزة نوبل للآداب، يوميات ترحاله في هذا الكتاب، وهو يُعدُّ رسالةَ حُبٍّ لحديقة العالم السحرية. يمكن قراءته على أنه سيرةٌ ذاتية، يكشف فيها عن مشاعره المضطربة والمتأرجحة، وتأملٌ في محاولته البدءَ بحياةٍ جديدة. كلماتُ النثر النقي والشعر الغنائي، ومشاعر الحُبِّ للأرضِ وبركاتِها، نَظَمَها هرمان هيسه بإيقاع متناغم في هذا الكتاب الهادئ. وقد طرح فيه مسألة المعضلة الوجودية الحديثة المتمثلة بالحنين إلى الماضي وانعدام الرغبة بالعودة إليه والتشكيك والتردد حيال المستقبل.
تضمنتْ النسخة الألمانية الأولى من (ترحال) صورًا مطابقة للأصل لأربعة عشر منظرًا طبيعيًا، لوّنها هيسه بالألوان المائية. لاقت لوحاته إقبالًا في الريف الجنوبي، لدرجة أنه استساغ فكرة أنه (من الممكن لي أن أستمر في الهروب من الأدب نهائيًا، وأجني لقمة عيشي من مهنة الرسم الأكثر جاذبية). لسوء الحظ أن لوحات الكتاب الأصلية قد اختفت، واستُعيض عنها في طبعات الكتاب التالية بإنتاج لوحاتٍ ملونةٍ بالأبيض والأسود.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة عشر فصلًا معنونًا، يتخللها العديد من القصائد المُكمِّلة لكل فصل. تؤرخ الفصول أفكارَ يومٍ واحدٍ في رحلةٍ على الأقدام بين جنوب ألمانيا وشمال إيطاليا، أو سويسرا على وجه الخصوص، حيث كان من المفترض، في غضون سنواتٍ قليلة، أن يصبح هيسه مواطنًا من مواطنيها، بعد أن خاب أمله من موطنه الأصلي، وما خلفته الحرب العالمية الأولى من تبعات سلبية عليه. يقول الكاتب في هذا الصدد: (لا شيء على الأرض أكثر قرفًا وحقارةً من الحدود. إنها تشبهُ المدافع وجنرالاتها، فما دامَ السلامُ والرحمةُ ينشران أجنحتهما، لن يعيرهما أحدٌ انتباهه، لكن حالما تلوح الحربُ بجنونِها حتى يصبحا مقدَسَين ومطلوبَين).
تجدر الإشارة إلى أنه في أيلول/ سبتمبر الماضي، صدرت في دمشق، عن دار كنعان، لصاحبها سعيد البرغوثي، الناشر الفلسطيني السوري، ترجمة لكتاب هرمان هيسه، عمل عليها المترجم والصحافي العراقي حربي محسن عبد الله. الغلاف الذي حمل صورة هيسه بنظارته المعتادة وسحابة الدخان المنبعثة من فمه، أنجزه مصمم الغرافيك باسم صباغ، إضافة إلى أن الكتاب سيكون ضمن قائمة كُتب دار كنعان التي ستُعرض في معرض الشارقة الدولي للكتاب، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.  



الفصول في سطور.. الحلم والنتيجة
في الفصل الأول الذي حمل عنوان (البيت الريفي)، نلمسُ صراع هيسه مع الحضور الراسخ والثابت لكُلٍّ من الوظيفة والبيت والعائلة، مقابلَ رغبته في التأكيد على جمالية البداوة وحياة الترحال. فهو بدويٌّ، وليس فلاّحًا. يضيفُ قائلًا: (أنا أعبدُ اللايقين والتغيير والاندهاش، ولا أبالي حين أضع قلبي في مكانٍ عارٍ على هذه الأرض). القصيدة المُصاحبة لهذا الفصل كانت بعنوان (المقبرة). وصفتْ أبياتُها السلامَ الذي ينعم به الأمواتُ (في جوفِ القبر)، على أمل أن يكون (حلمُ الموت ليس إلا دخانٌ أسودٌ/ تحترق تحته نيرانُ الحياة).
عندما يمرُ الرحالة (في الممر الجبلي)، وهو عنوان الفصل الثاني، تستيقظ مشاعر الحنين لديه، وتتلاشى آماله الشاعرية، و(تدق الذكرياتُ كالأجراس من الوديانِ النائية). يقف على مفترق طريق، إما العودة من حيثُ أتى، أو أن يكمل المسير ليفوز بـ(التماعِ البحيراتِ والبساتين، وعبير الشذى المتصاعد). في النهاية يرضى بما وجدَتْه عينه، ويصبحُ (متلهفًا للنضوج، ومستعدًا للموت، ومستعدًا كي أولدَ من جديد).
يجتازُ هيسه في الفصل الثالث (بلدة صغيرة)، يقول عنها: (ها قد بدأتِ الحياة الحقيقية للكائنات الجوالة، الحياة التي أحبها، حياة التجوال بلا وجهة معلومة، تبدأ مع بزوغ الشمس، إنها حياة متشردٍ حُرٍّ بالكامل). في القصيدة المصاحبة لهذا الفصل، وهي بعنوان (الضائع)، نجد فيها صورة المتجول سائرًا في نومه، وحالمًا، ومترددًا في الاستيقاظ، ومُحمّلًا بالذكريات والرغبات غير الواضحة.
في الفصل الرابع، وفيما كان هيسه يقطع (الجسر) الممتد فوق الجدول الجبلي المنحدر من الشلال، تُعكِّر صفوه ذكريات الحرب والمسؤوليات. فهو كان قد اجتاز هذا الجسر أيام القتال. حينها كان العالم بالنسبة إليه (ما يزال قويًا بما فيه الكفاية لإفساد الأرض وتدميرها)، وكان عليه أن يهرب مع آلافٍ غيره بأسرع ما يستطيعون، لتفادي جنون الجنرالات، أما الآن فهو يَعبر من فوقه بسلامٍ وهدوء. تعكس القصيدة التي أرفقها الكاتب مع هذا الفصل، وكانت بعنوان (العالم الرائع)، سيكولوجية المتجول بعُمقٍ أكبر:

كثيرًا ما جربتُ طريقَ الحقيقةِ المُرعب

حيثُ الأشياء الأكثر قيمة هي المهنة والقانون والأزياء والمال

لكنني تحررتُ من الوهمِ

وانطلقتُ بعيدًا

إلى عالمٍ آخر

عالمِ الأحلام والحماقةِ المُقدسة.

يتأمل الرحالة في الفصل الخامس بـ(بيت الكاهن) الماثل أمامه، البيت الذي تخيل أنه قد يقطن فيه خلال رحلته. سمح لخيالاته أن ترسم صورتين متناقضتين. فهو إما أنه كاهنٌ يواسي المحتضرين، و(في أيام الآحاد يتجول بخطواتٍ رزينةٍ عبر البلاط الحجري إلى الكنيسة، وهو يحمل في رأسه عظة اليوم المقدس). وإما أنه سيصحو (مرتعبًا من الكوابيس التي يسببها الضمير المُذنب المثقل بخطايا سرية مع امرأة شابة جاءت للاعتراف).
عندما يصل إلى (المزرعة) في الفصل السادس، يصبح في مزاجٍ جيد. لا يسمح للأفكار الحزينة والأشواق أن تحرمه من متعة النظر والتأمل في الطبيعة. يقول: (في كل مكان تجلس فيه، تجد أن العالم يعزفُ بسعادةٍ وروعةٍ من حولك). تبدو المزرعة بالنسبة إلى هيسه المكان الذي يصبح التفكير فيه (لعبة ليس إلا)، ويكتشف فيه المرء (أن العالم جميل، والحياة قصيرة).
في (الأشجار)، وهو الفصل السابع، وأفضل الفصول في (ترحال)، يُعبّر هيسه عن علاقته بالأشجار. فهي كالنُساك التاريخيين الحقيقيين. (إنها تمامًا مثل البشر الوحيدين، مثل الرجال العظماء المنعزلين، على غرار بيتهوفن ونيتشه).
ينقلنا (الطقس الماطر) في الفصل الثامن إلى مزاج الرحالة الكئيب. الألوان أصبحت باهتة، والغيوم الملبدة تحجبُ النور، (كما لو أن الحيرة والمزاج السيء ينتشران في السماء). يبرر هيسه حالة التوتر النفسي التي يمر بها بقوله: (ربما أكون قد أسرفتُ في شرب النبيذ ليلة البارحة، أو أنني قد حلمتُ بأشياء فظيعة لا يعلم بها إلا الله).

في خضم رحلة بحثه وتجواله عن معاني الحياة المختبئة في الطبيعة، وخلال عبوره المعرفي والنفسي من مرحلة التعلق والالتزام إلى الانعتاق والتحرر من كُلِّ العقائد والأوهام، يتحول هرمان هيسه، في كتابه (ترحال- ووندرينغ)، إلى ناسكٍ زاهدٍ متجولٍ، مسكونٍ بحُب اجتياز الحدود، (للوصول إلى الجهة الأخرى من كُلِّ شيء)



تثيرُ (الكنيسة الصغيرة) في الفصل التاسع رؤية هيسه الدينية. يعيد النظر في التقوى التي يرى أن الطريق إليها تأتي بـ(ارتكاب الأخطاء والمصائب والأحزان)، كما أنه يعيد تعريف الصلاة على أنها محاولة، ليس لفهم الله بالضرورة، بل لفهم الحقيقة، ذلك أن (الرب الذي يجب أن نؤمن به، نجده داخل أنفسنا، ومن يقول لا لنفسه، لا يمكنه أن يطيع الرب).
في (القيلولة) في الفصل العاشر، يتلاشى خوفه من أي شيء، ويتجلى لديه مفهوم آخر عن الحزن، فهو (ليس إلا ظلال الغيوم. الحزن هذا ليس إلا موسيقى عذبة للأشياء العابرة)، ويصبح، كما بيّنت أبيات القصيدة المُصاحبة للفصل، (المتجول يحادث الموت)، على استعدادٍ لملاقاة الموت عندما تحين ساعته:

سوف تزورني في يومٍ ما

سوف لن تنساني

وعندها سينتهي العذاب

وتنكسرُ القيود.

يراود هيسه في الفصل الحادي عشر، (بحيرة وشجرة وجبل)، حلم يذكّره بأيام الطفولة. في الحلم، يعود طفلًا صغيرًا، وتظهر أمه بهيئة ملاكٍ يحوم حول الرب. الرب كان يقف على غيمة، مرتديًا رداءً بنيًا، وينشد الأغاني. يعكس حنينه إلى أيام الطفولة وأمه تناقضًا واضحًا مع واقعه التعيس حتى هذه اللحظة. ترافق الفصل قصيدة بعنوان (سحرُ الألوان).
تعود (السماء الغائمة) في الفصل الثاني عشر لتذكرنا بمزاجه السوداوي الذي رافقه في (الطقس الماطر). يُقِرُّ بأنه (من وقت إلى آخر، ترتفع داخل روحي موجة معتمة، لا مسببات خارجية لها. السوداوية تهاجمني من وقت إلى آخر، ولا أعرف في أي وقتٍ تتلبدُ سمائي بالغيوم).
في (البيت الأحمر)، وهو الفصل الختامي، تكون حيرة هيسه في أوضح تجلياتها. البيتُ يأخذ عقله إلى الجهة المقابلة من العالم، حيث يملكُ بيتًا شبيهًا به. نشعرُ أن حياته تتأرجح بين مسارٍ ومسارٍ آخر مضاد له. توقُ إلى البيت هنا، وتوقٌ إلى الترحال هناك. شوقٌ إلى العزلة هنا، وشوقٌ إلى الحُبِّ والناس هناك.
يُصرُّ الكاتب والرحالة في ختام رحلته على أنه فعل كل ما يود فعله. لقد امتلك بيتًا، وحديقةً، ولوحاتٍ علّقها على الجدران. أراد أن يكون شاعرًا، فكان له ما أراد. كان يحلم بزوجةٍ وأولاد، واستطاع أن يحقق حلمه. أراد أن يُعجَبَ الناس به، وهذا ما فعلوه، لكن في الوقت نفسه (أصبح الشِعرُ مشكوكًا فيه، والمنزلُ ضيقٌ. كُلُّ هدف كنتُ أصِلُ إليه لم يكن بالهدف، كُلُّ سبيلٍ سَلَكتُه وجَدْتُه بعد ذلك منحرفًا عن الهدف).


*كاتبة وصحافية سوريّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.