}
عروض

"مرايا الغياب" لفرج بيرقدار.. رؤيا الشاعر بين الكون والعدم

عماد الدين موسى

2 نوفمبر 2020

تنتمي قصيدة الشاعر السوري فرج بيرقدار (مواليد مدينة حمص، 1951) إلى الزمن الجميل للشعر السوري؛ حيثُ يقفُ جنبًا إلى جنب مع كل من الشعراء رياض صالح الحسين، منذر مصري، بندر عبد الحميد، مرام المصري، وعادل محمود كأبرز روّاد القصيدة الشفويّة، على حدّ تعبير الناقد السوري محمد جمال باروت.
في كتابه الشِعريّ "مرايا الغياب"، الصادر حديثًا عن دار سامح للنشر في السويد (2020)، يُطلقُ الشاعر بيرقدار المقيم في ستوكهولم، سراحَ الطيور/ الغزالات/ السفوح/ المناديل/ الورود من داخل سجنه/ سجنها؛ لكن بعد خمسة عشر عامًا من الغياب.

 

الإخلاص للفكرة
يكتب شاعرنا قصيدته بحماس وإخلاص للفكرة، فالقصيدة عنده فكرة، ولكن يجب أن نحسها ومن ثمَّ نعيشها. طبعا هو لا يجيء بالمواعظ الفلسفية. بل نقرأ تأملات، استرسالات وجدانية لما جرى معه وله في السجن، كونه قضى خمسة عشر عامًا كسجين رأي. مئة صورة، مئة فكرة، مئة رؤيا، مئة قصيدة، ولكن مكتوبة بشعور إنساني يتخطى جدران الزنازين. فالإنسان مخلوق للفرح والسعادة، وليس ليسحل ويوطأ بالأقدام، ويُضرَب بالعصي:

تهامَسوا:

مَنْ غيرُ المجنون

يسنُّ الوردة

ويحنو على السكين؟!

يا لقناديلِ حزنِكِ يا خديجة

لو تعرفين إذًا

كم من الورود

وكم من السكاكين

مزَّقتُها

ومزَّقتني.

الإنسان كائن مفكر خلاق، ولكن عندما يفكر لماذا تقوم الأنظمة الاستبدادية بالغلق على عقله؟ فرج بيرقدار يفتح على عقله في السجن كل نوافذ وأبواب الحرية، يمزِّق ويتمزَّق ويكتب بروح نقدية حيَّة عن معاناته، عن أحلامه، عن حياته العقلية، عن الآلام التي عاشها وعن انصهار روحه فيها، فتسمع صوت إيقاعاتها وتناسق صورها وتماثلها. فالألم لا يفارقه ولا يغادره أبدًا، لكنه تراه يتنقل بين الفرح والحزن وكأنه لا أمل:

السجن زمن

تؤرِّخه في الأيام الأولى

على الجدران

وفي الشهور اللاحقة

على الذاكرة

ولكن عندما تصبح السنوات

قطارًا طويلًا

متعبًا من الصفير

ويائسًا من المحطات

فإنكَ تحاول شيئًا آخر

يشبه النسيان.

ليس النسيان ولكنه يصور واقع حاله في السجن، وانعكاسه الحياتي بتراكيب من جُمل بغاية الحيوية والجمال، فيدمغ المعنى بالمبنى ما يكشف عن تجربته الشعورية وانفعاله بما يرى ويسمع. يبدو مضطربًا، وقد تحسه غدا مجنونًا، ولكن ليكشف لنا قوة روحه وصبرها وتحملها عذابات السجن، مستخرجًا الأمل من غسق الوعي:

لا شمس هنا

ولهذا أجدني عاريًا

من الظلال.

ولا امرأة أيضًا

ولهذا أجدني عاريًا

من نفسي.

صَفَوْتُ

حتى أوشكتُ على الماء

وأوشكَ الماءُ على الومض

والومضُ على الرؤيا

والرؤيا على الكشف

والكشف على الغموض

والغموض على الشعر

والشعر على الصمت

والصمت على السر

والسرُّ على الفضيحة.

 

النقيض ينتج النقيض
فرج بيرقدار وهو يتأمل، وهو يفكر، يهزَّنا هزًا عنيفًا وهو يقاوم ظلمة الزنزانة، فيتشابك عنده الضعف بالقوة، والخضوع بالرفض، والسلام بالحرب، والكراهية بالحب، الخبث بالبراءة. فالنقيض ينتج النقيض، فيتجاوز كل التهابات العدم المزمنة التي يولدها محترفو التعذيب ووكلاء القمع:

لو كانت الآلهة

آلهة حقًا

لما قَبِلَتْ من القرابين

ما هو أدنى

من طاغية.

إنه اصطياد الإنسان في شبكة العدم. هي عقوبة التفكير، ضربات، عصي، صعقات الكهرباء على الدماغ فيبقى مُستَغلق الحواس، مخدرًا، مترنحًا. كُلنا على النعش، ولكن:

لن تستطيعوا تكفيري

كل ما في داخلي يصلِّي

مؤمنًا أنني

يومًا ما

سأشرب الحرية

حتى الثمالة.

الحياة عظيمة، هي تؤلمنا، لكننا نحبها. فرج بيرقدار يكشف عن تعلقه بها، لكنه يرفض أن تستعبده، أو الانحناء خضوعًا لمطالب المستبد. هو يحب الحياة كما كل البشر، ولكن الحب المتفاني للمصير، فلا يمد يده مسامحًا أو مصافحًا اليد التي تجلده. إنه يقاوم العدم، فالحياة لا تذوي في أعماقه؛ بل تغلي، تتشكَّل كما الفلز في بوتقة النار مهما كان الثمن باهظًا:

الحياة باهظة

إلى درجة الموت

والعدالة

بيضاء العينين

وما من بارقةٍ

تشهد على ما يجري

سوى دمائنا.

رؤيا وخلق، مغامرة في الكشف والمعرفة، مواجهة حية مع العدم تثير دهشتنا، لا غرابة ولا غموض، لا تشاؤم. أو كما قلنا العدم. ففي أعماقه يتصارع النماء والخصب مع الموت والجدب. فرج بيرقدار يلامس أعماق الشعور فيتسامق بنفسه على كل ممكن معريًا الحقائق. فالعدم هو غياب الوجود؛ كيف وهو في الوجود. هي رؤياه الفلسفية- لا يتفلسف، هو أنا شعب مفكرة، ليست أنا هلامية:
لا تابوت، وإن كان يُموَّت، تشنجات وارتعاشات، ظمأ وعطش، برق ونار. فالحرية كما "الماسة" تحتاج لأن تحفر وتحفر في أعماق المناجم لتستخرجها من الظلمة. الشاعر فرج بيرقدار كما سجناء الرأي يتألم لفقده الحرية، ولكنه يريد أن يكون سيد ألمه، فهو صاحب مواقف فكرية. مع ذلك فهو لا يسقط في حزنه. بيرقدار في قصائده هذه، وفي صوره التشبيهية، يضعنا أمام تجربة نفسية، أمام معاناة تعرض فيها للتحقير والإذلال ككل سجناء الحرية، ولكنه أرادها صورًا وجدانية تجسد رؤيا الشاعر بين الكون والعدم، فنسمع صوته وقد صار أكثر انفعالا وحماسة رغم المناخ البارد الذي يحيط به في الزنزانة:

يقتلنا الحب

وتقتلهم الكراهية

رباه!!

أما في أمجادك العاتية

غير القتل؟!

إنها الرؤية، الصورة الصوفية؛ لا فزع، ولا ثقل، لا جحيم، لا مُلك، ولا استئثار، لا سلطوي سياسي، لا عزل ولا نبذ ولا إقصاء. كشف عن الباطن- عن الذي جرى ويجري، عن الحقيقة. لا رمز ولا إشارة، لا إيماءة. ثبات، تجاوز، نقاء، تحرير للقوى اللاشعورية، دهشة. فالصورة عند فرج بيرقدار من تجربة ورؤيا:

دخلتُ السجن

وأنا بكامل استعدادي

للموت

وها أنذا

بعد لا أدري كم

من السنوات

أرتِّب أحلامي للمغادرة

وأنا بكامل استعدادي

للحياة.

لا ألغاز في قصيدته، حرية وضرورة، جود وبخل، ماء ونار، أضداد، أضداد. كلام نثري ولكنه ليس أي كلام، نثر من شعر لا يتبخر، شعر من إثارة ومفاجآت يحرر القوى الساكنة في الذات، فيكشف عن أسرار وأسرار تصل ما انقطع عن الواقع، أسرار الذات الجامحة وهي تأتلف مع الحرية ومعارجها الفكرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.