}
عروض

"شبّاك أم علي".. دراما الوجود بلغةِ الذات

بعد روايتي "شجرة الليف" و"أوتار الشجرة" تأتي رواية الأردني محمد العامري "شبَّاك أم علي"، الصادرة حديثاً عن دار الجيدة 2020، في عرض ذاتي لتاريخ أُم علي- العين التي لا تنام، الكاميرا التي تقبض على كل اللحظات، المنشغلة بالناس وبكل شيء يتحرَّك في مرمى شُبَّاكها، لا تكلُّ ولا تملُّ من المراقبة، فهي شغفها اليومي، الشبكة العنكبوتية التي تسجِّل كل ما يتحرَّك في الشارع، حتى إنَّها ترصد الطقس وحركة الدجاج والقطط وتنهر الكلاب، فأهل القرية اعتادوا عليها وكانوا ينعتون بيتها بـ"شبَّاك أم علي"، الذاكرة الفلسطينية في قرية القليعات في الأردن. ويعقد فيها الشاعر والرسام والروائي محمد العامري مواجهة بين الذات والموضوع، بين ماضٍ ما يزال ينتظر العودة، وحاضرٍ يحلم بها.

الرواية بحثٌ في (أنا) راوٍ ما يلبث يصير صوتاً في أصوات؛ تارةً صوت أم علي، وصوت ابنتها سلوى الطالبة الجامعية، وتارةً صوت حمدة القابلة، وصوت أبو هاشم سمّان وقاهي القرية، وتارةً صوت يسرى الحامل بيوسف الذي في رحمها وتسمع صوته وتعرف لون بشرته ولون شعره كما عينيه، وهو ما يضايق أم علي؛ إذ كيف تعرف هذه المعلومات عن جنينها وهو في الباطن الذي قد يكذِّبه الظاهر حين تلد، وتدخل في خلافٍ مع ابنتها سلوى التي تؤكد لها أن العِلم يؤكد ما تقوله يسرى، وهذا ما أرَّق أم علي. ومرَّةً صوت إبراهيم الذي تزوَّج يسرى والتي سيطلب منها قبل موته أن تكتب على شاهدة قبره "البقاء لفلسطين" راجياً اعتبار ذلك بمثابة وصية خاصة منه لها، وقد مات وهو مستلقٍ على أرضه التي كان يزرعها بيديه بين زوجته يسرى وبين يوسف الذي لما ولد استدان إبراهيم من أم علي واشترى ذبيحةً له جدياً أولم عليه لأهل القرية.

الهجرة بعيداً عن فلسطين
محمد العامري يسرد؛ زمنٌ يدخل في زمن، زمن يخرج من زمن في مكان واحد. كثيرون تعذبهم الهجرة بعيداً عن فلسطين، لكنهم كثيرون في (واحد) هو الراوي الذي يتقمَّص شخصية يوسف الذي يكتب الرواية ويسميها "شباك أم علي".

سردٌ، دراما وجودية مكتوبة بحدةٍ ذاتية فلسفية؛ لماذا نعيش؟ لماذا كل هذا الجمال وهذا الغنى؛ هذه الأزهار والورود والأشجار، والنهر الذي اغتسل فيه السيد المسيح (ع) ونعيش في فقر وعوز وبشاعة؟؟ أم يوسف تبيع القلادة العصملية لترد ديْن "أم علي" الذي صار صبياً، وديوناً أخرى لا بدَّ من ردها لأصحابها، وهي تأمل أن يشتري لها يوسف قلادة بدلاً عنها عندما يكبر ويعمل. سردٌ لحدثٍ جنيني يذهب من شبَّاك أم علي التي تراقب حركة أهل القرية وتمطرهم بأسئلةٍ فضولية وتطفلية، لكن من هذا الشباك تتولد أحداث الرواية، فنعيش في غمرة حكايات صندوق أم علي مع أشخاصٍ وليس أشباح، مع وجوه ذات خطوط مقطَّعة ومنكسرة، لكن بريق بصرها يحيلنا إلى الفكر. عيونٌ تفكِّر وإن خَبَت في الصندوق، فالعامري ربَّما لكونه رسام وضعنا مع إحساسات بصرية- حسية حركية: "فحين كنت أغرف الماء من وجه النبع كما لو أنني أغرف فضة من قمر سائل في المياه يترجرج وجه النبع، يتمرأى الحصى بخيلاء غريب، ثم أسكب الماء في المحقان ليصل إلى جوف البرميل، فنعود محملين بصافي الماء من نبع كريم يعطي من لذاذة مائه كل العابرين لسبيله، نعود إلى فم الجرار الفخارية العطشى لما حملناه من النبع فشفاه الفخار الناشفة تتلمظ لرشف النبع". صورٌ تتواطأ أو نتواطأ معها، لأنَّها تتعاقب أمامنا في الحقول كما في الطريق إلى النبع، وهي تشكل لوحة تعبيرية تحرِّض على الإحساس بالجمال.

 

الإمساك بالحلم..
محمد العامري في روايته "شبَّاك أم علي" يقودنا كقرَّاء من أشكال وحركات ملوَّنة إلى مشاهد تجمع بين عالم إنساني وبين تغييب الإنسان دون أن يقترف السياسة، فهو يكتب بألمٍ، بل يرسم ويصوِّر وإن بالكلام؛ لوحاتٍ هي أقرب لفن التصوير الزيتي، عن تاريخ العقل والروح الإنسانية، وبمشاعر محتدمة وكامنة وثائرة، حتى لا تختفي الروابط الروحية بين الناس، وينمو الشك في أعماقهم، ويفتقدون قوَّة الإمساك بالحلم..

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.