}
قراءات

"كيس الراعي" لرمزي الغزوي.. موسوعة البراري والحقول

محمد جميل خضر

27 مارس 2020

ليس مبالغة، في رأيي، على الإطلاق، قولنا إن أسماء الأزهار والأشجار في الثقافتيْن والبيئتيْن: الأردنية والفلسطينية، تتشابهان وتتماهيان، إلى الحد الذي يجعلنا موقنين أن الوحدة بين الشعبيْن متجذرة في الأرض كما هو حال نباتاتها.
حقيقة تعيد تأكيدها الموسوعة التي أصدرها حديثاً الأديب الأردني، رمزي الغزوي، وحملت عنوان: "كيس الراعي/ أشجار وأزهار في الثقافة المحلية الأردنية".
فالمارُّ على صفحات الكتاب، الصادر بطبعة فاخرة ملوّنة مجلّدة بغلاف سميك، سيلحظ تشابه الأسماء الشعبية لمعظم أزهار البريّة وأشجار البساتين والحقول والكروم، في الأردن، وفي فلسطين. وسيلحظ، إلى ذلك، ارتباط الأسماء والمسميات، وألقاب تلك الكائنات، بحكايا متشابهة، وأساطير واحدة، وتعالقات متقاربة عند الفلاح والراعي والبدوي العابر قناطر الفلاة نحو وجيب الماء وممكنات الحياة.
فالدّحنونة الأردنية هي الحنّونة الفلسطينية، والطيّون هو الطيّون نفسه هنا وهناك. والشقائق هي شقائق النعمان من أول الزمان حتى آخر الزمان.
لا يحتاج مقلّب صفحات الموسوعة البالغة 232 صفحة من القطع الكبير، إلى عينيّ صقر ليرى الجهد المبذول فيه، والإحاطة الوافرة الوارفة الظلال المبثوثة داخل ثنايا معلوماته. وهي معلومات، جمع الغزوي عند حصرها وسردها بطريقة قصصية بسيطة بعيدة عن زخارف البديع، السردية الشعبية إلى جوار المعلومة العلمية، من دون أن ينسى تثبيت الاسم العلمي لكل زهرة وشجرة رصدها كتابه الموسوعيّ، إلى جوار الاسم الشعبي، ومن دون أن ينسى، أيضاً، وأيضاً، إيراد الأسماء الأخرى المحتملة لكل زهرة وشجرة. وهي على وجه العموم أسماء مرتبطة إما بشكل الزهرة، أو الشجرة، أو فوائدها، أو طعمها، أو الحكايا المرتبطة بها، أو فترة إيناعها، أو عجائب طبائعها، أو فوائدها الطبية، أو مخاطرها السمية، أو التناقض المرتبط بها، كما هو حال زهرة "الحلوة مرّة"، التي جاء اسمها من التناقض القائم بين شكلها الجميل وقوامها المغري وألوانها الهيفاء، وبين طعمها المر المذاق، إلى الحد الذي جعل الأمهات يستخدمنها في فطام الرضع، فلا يطيقون الرضاعة فور صدمتهم بطعمها المر.
يفرد الغزوي صاحب عشرات الإصدارات القصصية، وتلك المرتبطة بنصوص المكان، وأدب

الأطفال، مساحة وافرة مخلصة لزهرة الدَّحنون (Anemone coronaria)، يقول في الجزء المخصص للحنّون، أو الدَّحنون:
"بيني وبين الدجاج عداوةٌ منذ شرخ الطفولة، فقد كنتُ ولداً مجنوناً، يحبُّ الدحنون أكثرَ من تعليقِ الدراسةِ في يوم الثلج، وكنتُ إذا ما هلّت طلائع الربيع، أهيمُ على قلبي أجمع دحنوني وأنضّدهُ عقداً لصبيَّة من أحلامٍ ناعسة.
وكنتُ إذا ما عدت تطردني جدتي، قبل أن أصلَ سياج الدار، وتأمرني أن أرمي ما معي من دحنون، بعيداً عن عيونِ دجاجها، فهو إذا ما رآه تقلُّ خصوبته، ويمسّهُ العقمُ، وينقطع منه البيضُ، وكنتُ أهمسُ حانقاً لاعناً: (ليت الجاج ما باض يا جدة).
اليوم، وقبل أن أقطف دحنونةً، ما زلت أمسحُ عن تاجها قطرةَ ماءٍ؛ لأغسلَ عن قلبي خوفَ خريفٍ آتٍ. فيا ترى، حزنُ من هذا الأحمر؟ أهو دمُ عاشقٍ مسفوحٌ كان يرعى قطعان الغيم؟ ولهذا كانت الصبايا تضفِّرُ الدحنون، وترميه في النهر المخضّب؛ ليمتدّ الشتاءُ بطولِ دمعتين.
في الأسطورة اليونانية أن فينوس سيدةَ الجمالِ أحبّت أدونيس، وهامت به، مما سبّب غضباً شديداً وغيرة في نفس زيوس (كبير الجماعة)، الذي قرّر أن ينتقم من معشوقها الشامي، فتمثّل له على هيئة خنزيرٍ بريٍّ بنابين كبيرتين وقتلهُ؛ ليختلط دمهُ في الأرض.
وهكذا، فإنَّ الأنهار كانت وما زالت تحمرُّ حزناً نهايةَ كلِّ شتاءٍ، وكأنّها امتزجت بدم أدونيس، ثم ينبت الدحنون تعبيراً عن اختلاط الحبِّ بالموت.
وعندما يمَّمَ ملكُ الحيرةِ، النعمان بن المنذر بن ماء السماء، إلى ظهر الكوفة، رأى رملاً ينبتُ زهراً جميلاً؛ فاستحسنهُ وأحبّهُ، فقال لجنوده: احموه؛ فسُمّي الزهرُ من يومها (شقائق النعمان). ويُقال أيضاً أنّ النعمان من أسماء الدم في بعض لغات العرب، والشقائق قطعهُ، فتكون شقائق النعمان بمعنى: قطع الدم.
فيا أيّها العاشقون لشهقة الربيع الأولى هذا دحنونُكم الجريءُ يبزغُ في رحلةٍ ستكون قصيرة كقبلةٍ مخطوفةٍ عند عتبة باب. ولذلك يسمّى: زهرةَ الريح؛ لأنّهُ ما يلبث أن يرحل سريعاً، ويطير بعيداً كالذكريات.
فتعالوا نقع في عشق هذا الأحمر، ونقرأهُ شعراً ونثراً وصفاءً، فما زالت هناك أشياء صغيرة تكبّرُ لنا الحياة وتجمّلها، وتعظّمها في نفوسنا. فهل راقبتم الدحنون كيف يهيجُ كعاشقٍ هزَّهُ

الحنينُ؟!".
الخبيزة التي تستر الفقر، وتقيم أود كثير من العائلات، النرجس (Narcissus) المرتبط بحكاية الأمير نرسيس الذي ظل يحدق نحو انعكاس صورته في الماء حتى انزرعت ساقاهُ، وصارتا جذوراً، وشعره المجّعد غدا ورقاً، فيما وجهه الأبيض وتاجه الذهبي تويجات بيض وصُفر. الأقحوان، الخرفيش (milk thistle)، العكوب (Gundelia)، الزعتر (Thymus vulgaris)، الشُّعيط (Asparagus officinalis)، الرِّجف (عصا الراعي)، اللوف (الرقيطة)، الكلخ، كف الدب، عينُ البنت ساطعة الجمال، الملُّول، التين "أمّنا الرؤوم الحنون، ومرتعنا البهي، وملاذنا من لهيب القائظة. على جذعها الغليظ حفرنا أسماء حبيباتٍ يحضنهن خيالنا الوفير"، القيقب، شيخُ الربيع، شرشُ الحلاوة، السُّماق، الخرُّوب، بيلسان، التوت، شوكُ الفأر، الزيزفون، أسكدنيا، الحور، العُلّيق، الختمية (عين البقرة)، القبَّار (ينمو في المقابر وله تسمية أخرى: الحلق)، الخُزرق (أو الزمزريق أو خف الجمل)، الجربوح، الحُمحُمُ (أو خبز النحل)، القصبُ، لحيةُ التيس (أو كلاب الريح)، خنَّاقُ الحُرش، القُريضة، القنفذية (أو شارب عنتر)، المُصِّيص، العبهرُ، أخيليا (حشيشة الدود)، الصُفصاف (Salix) الذي يوضع بحسب المعتقدات تحت سرير العروسين لمعالجة العقم، بندورةُ الحية، كستناءُ الحصان، الخُشخاش، الزَّعرور، الهَجنبل (أو حناء الضبع)، الفَرفحينة (البقلة)، السوسنةُ السوداء (قوس قزح والزهرة الوطنية)، الشومر (من أسمائه: السنوت، الرازيانج، الشمَّر، الشمرة، الحبة الحلوة، حبة الحلاوة العربية)، لسانُ العجل، زويتة، البسباس، الحندقوق، إبرة الراعي، مشطُ الراعي، الفيجن (أو نبات الجن)، بزازُ البقر، كزبرةٌ الغولة (Adiantum capillus) من السرخسيات، حليبُ الطير، نعنع الوادي، بيضُ الحمير، القُرِّيص، الدُّفلى الذي يورد الكاتب عند الوصول إليه ترويدة شعبية مرتبطة به: (نوّار الدفلى، ونوّار الصفصاف، البنت المليحة بتهوى وما بتخاف) لترد الصبايا بأغنيةٍ تتسلّلُ إلى أسماع الشباب مع لجلجة الزغاريد: (يا زريف الطول، وعلى جبل وقّاص، الحبُّ محلّل والبوس بالرصاص)، قرنُ الغزال وعشرات الأسماء الأخرى لأزهار وأشجار تنتشر في تلك الربوع التي تشكل الأردن جزءاً منها، يوردها الغزوي، معلقاً ومتذكراً قصة مرتبطة بها، قصة من طفولته أو من طفولة التاريخ الشفوي لبلادنا.
يفرد الكاتب مساحة ضافية للعنب (Grape)، فلهذه الشجرة المثمرة مكانة في بلادنا لا تضاهيها مكانة. يقول الغزوي عندما يصل إلى العنب: "قد توصف جدائلُ النساءِ بالحنشانِ، أي الحيات السّود. أما حين تبدو ممتلئةً ومتينةً وأشدَّ حيويةً، فلا يجدون لها وصفاً إلا بحيول الدوالي، أي أغصان شجرة العنب الغليظة؛ ولهذا كانت النسوةُ يتسلّلن إلى الكروم في أواخر الشتاء؛ ليجمعن العصارة التي تنزُّ من أغصانها، بعد عملية التقنيب والتقليم؛ ويغسلن بها رؤوسهن، على أملِ أن تغدو جدائلهن كالحيول.
والدوالي مثلُ النساءِ الحسانِ، تتناقل صفاتهن ألسنُ الناس. الكلُّ يسعى إلى أن يحصلَ على حيل من دالية موصوفةٍ بطيبِ عنبها ويناعةِ ورقها. فهذه دالية خضارية سنزرع منها حيلاً في رأس البستان. عنبها نقراشي أسود، يقرمقش تحت الأسنان، ولا بدّ أن نزرع حيلاً آخر من دالية جيراننا؛ فعنبها كأصابع العروس. وحين يتحدّث الواحدُ عن داليته، تحسبهُ يتغنى بعشيقته

الغيداء".
العنب يفجر داخل وجدانه عبَرات الشعر، فيكمل متغزلاً: "يا أيتها العصافيرُ النفورةُ الخائفةُ، حتى من همس ظلّها على الأرض. أيتها الكمنجاتُ الطائرةُ في صحن الفجرِ، المشتاقةُ إلى عسلٍ بات قابَ قبلتين. تعالي قبل أن تحمرَّ عينُ الشمس، وتحرقُ عينك".
إلى أن يقول: "هي الكروم أيّها العاشقون. آوان السّمر والسّهر تحت عرائشها المشرعة لنسيم يتسلّلُ من بحر بعيد. هي الذكريات الراسخة عن عناءٍ لذيذٍ، فننفض بقايا النوم عنا، ونسري مع صوت المؤذن، ننتقي أزكى العناقيد، ونقطفها كزهرة، وبعد أن نستريح نشقُّ لقمةً من رغيفٍ ساخنٍ، ونلفّ بها لفاً رشيقاً متناغماً حبةَ عنب باردةً غسلها الندى، تكون فطورنا الذي لا يُنسى".
الرُّمان (Punica granatum) يأخذ حقه أيضاً من الوصف والغزل: "ما زال العارفونَ بفنونِ الرّمان ولذاذاته وخفاياه، إذا أرادوا مدحَ امرأةٍ هيفاءَ رشيقةً قالوا: مطرق رمان. والمطرق هو الغصنُ المتزن، الذي يكون مستقيماً، ومنتظماً، ليّناً وموجعاً في آن واحد. بهذه المطارق كانت أمهاتنا يطرقنَ وينفشن الصوف المفرغ من الوسائد، كلما قست تحت رؤوسنا. كنَّ يضربنه بشدةٍ؛ ليعودَ إلى سابق عهدهِ طرياً قابلاً للأحلام الجميلة. وهي ذات المطارق التي كانت أقوى أداةً بيد معلمٍ، أو أبٍ غاضب. والويل لمن يجربُها".
وطبعاً نال القمح (Triticum)، بدوره، ما يستحقه: "ما زال سيداً لطعامنا، نحن أبناء الأرض. بالمشقة كان يبذرُ، وبالكدِّ والجهد يُحصدُ، وبالضنكِ والعناءِ يُرجد (تجمع سنابله إلى البيادر)، وبالصبرِ يُدرس ويطحن. الخبز دوماً سيبقى جديراً بالتعب".
يوضح الغزوي أن الينبوت يخالفُ طقوسَ الطبيعة، ومسارَها المنطقي. في مطلع الصيف

يزهرُ، وفي آبَ تراه منتعشاً بقرونِ ثماره. وفي الشتاء يخمدُ ويموت، وهو شوكيٌّ من العائلة البقولية، يعمّر طويلاً، ويتجدّدُ في ذات مكانه، سنةً إثر سنة.
وعن دمِ المسيح (Helichrysum sanguineum) يقول: "هذا الزهر كان يخصّبُ خيالي، ويثير أشواكه. وكنت لا أكفُّ أسأل وأتساءل: دمُ من هذا الذي طفح على هيئة وردةٍ كرويةٍ صغيرةٍ فوقَ سيقان فضيةٍ خفيفة؟ من هو القتيلُ؟ ومن القاتلُ؟ وكيف قُتل ولماذا؟ ومتى وأين؟
وكان كلُّ ما يصلني من أجوبة أنه ليس دماً لأحدٍ، بل هو نبات عادي يسمّى (بزاز العدرة)، أي العذراء، مريم ابنة عمران والدة سيدنا المسيح عليهما السلام. وهي التسمية الشائعة في عجلون والسلط.
ذات ربيع رافقنا جارُنا المسيحيُّ في رحلة إلى الوادي، واندهش حين شاهد هذا الزهر. ثلّث بإشارة صليبٍ رسمها بين رأسه وكتفيه، وقال: سبحان الله، هذا دمُ المسيح يطفحُ فوقَ الأرض.
يزهرُ في نيسان، ممتداً حتى نهاياته، أي متزامناً مع أعياد الفصح المجيدة. وفي أيار وحزيران تجفُّ الزهرة، وتتفتح كرتها على ما يشبه نجمة صغيرة".
يحفر كتاب الغزوي الموسوعي لنفسه مساحة مغايرة عما تعودنا أن نطالعه للأدباء و(المثقفين) من إصدارات وموضوعات. ويتجلى بوصفه تأسيساً متيناً حارّاً لمعنى ارتباط الثقافة بأرضها وجذور انبثاقها. وهو يحيلنا نحو تعريف جديد عميق شامل عضوي للثقافة بوصفها انصهاراً بمختلف تفاصيل الحياة، وأنها (أي الثقافة) أكثر حيوية ومرونة وتلمسية مما يحاول بعض (الفوقيين النخبويين المتفذلكين) حبسها فيه، وحشرها داخل شرانقه الواهية المجرّدة الصمّاء البعيدة عن الواقع المعاش المجبول بالميدان ومفردات الوجود حولنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.