}
عروض

"حُجرات الموت الأنيقة".. إعادة بناء عالم من الجثث

ضفة ثالثة

5 مارس 2020
صدر مؤخراً عن دار AVA كوباني- الدنمارك كتاب نثري بعنوان: "حُجُرَات الموت الأنيقة" من تأليف جوان تتر.

وجاء في تقديم الكتاب الذي كتبه الشاعر الزميل عماد فؤاد:
يملك جوان تتر حِسّاً لُغويّاً مختلفاً، وهو صوت يكاد يكون هامساً، مدركاً الفروق الطّفيفة بين الأنواع الكتابيّة التي يتنقّل بينها، لكنّها لغة تحتشد بالكثير من العنف الذي يعلن عن نفسه في غليان مكتوم: "وُلِدْتُ قَبْلَ كُلِّ شَيء، قَبْلَ الحَربِ وَالزّمَن. أبصَرتُ نُوراً آنَ خُروجي من مأوايَ إلى العالَم".
في "حُجُرَات الموت الأنيقة" تتجلّى هذه الرّوح التي ترصد الموتى في غيابهم الأخير، يؤرّخ تتر لرفاقه وأصدقائه الشّهداء، هؤلاء الذين تحوّلوا إلى مجرّد أرقام في قبور أنيقة أعدّت لراحتهم الأخيرة، مدوِّناً الموت الذي يهبط من السّماء، والجثامين التي هي: "أجسادٌ غضَّة تمرّ كلّ أسبوع مَحمولَةً على نعوشٍ".
في مقاطع الكتاب الأولى، نلمح هدوءاً أشبه ما يكون بهدوء ما قبل العاصفة، أو قل ما قبل طوفان المقتلة الجماعية التي تشهدها سورية منذ سنوات، ورغم هذا، لا يقع جوان تتر في فخّ كتابة المراثي، بقدر ما يعيد أمام أعيننا بناء عالم من الجثث عبر سرديّة متوالية. تلهث اللغة بين يديه مرّات لتهدأ مرّات أخرى، منشئاً لنصوصه إيقاعات لغويّة مختلفة، فنسمعه حيناً متأمِّلاً وحيناً آخر متردّداً وهو يحثّ الخطى، سارداً علينا تفاصيل وأسماء الموتى، كما لو كنّا نسير معه خلف أحد النعوش لنزفَّ صاحبه إلى مثواه الأخير، ومع كلّ حرف نطالعه محفوراً على الورقة البيضاء، نشعر بخشب النّعش محمولاً على عظام أكتاف ناتئة، لهؤلاء الذين لم يتحوّلوا إلى أرقام بعد، فيما غبار الطّريق التّرابية يعمي العيون عن رؤية القبر.



يدخلنا تتر إلى قرية مسحورة لا اسم لها، منذ رؤيته شعاع الضّوء لحظة ولادته، وحتى بصيص النّور الأخير وهو ينسحب من العيون الحيَّة المبصرة، خيط رفيع صحيح، لكنّه كان كافياً ليبني منه جوان تتر سيرته الأخيرة، أو بالأحرى سِيَرَ الذين رحلوا، هو الذي تحوّل في أحد مقاطع الكتاب إلى جثّة جماعية للشّهداء والقتلى: "لن يكون بمقدوري أن أشرحَ لأشباهي أنّي قُتلتُ في الحرب، وأنَّ المشافي ممتلئةٌ بجثّتي الضّخمة النّازفةِ دماً تَوزّع في كلّ الأنحاء".
منذ بداية الكتاب إلى نهايته، تتوالى أسماء وشخصيّات وشهداء، لنبدأ في استكشاف عالم محدود لقرية منسيّة، فرَّط أبناؤها في ذكرياتهم استجابة لدعوة الشّيخ الأحمر، الرّجل الغريب الذي دخل القرية ذات يوم ليُقتل فيها بعدما حصل على ذكريات أهلها.
يصبح مقتل الشّيخ الأحمر، حافظ ذكريات أهل القرية، أو سارقها، نقطة تحوّل أخرى في الكتاب، ليظهر بعده "بور"، الطّفل الغريب "الذي يُقنع والدتهُ بأنْ لا شيء على ما يُرام طالما أنّ الشّيخ الأحمر يختطفُ الذّكريات ويخزِّنها بدأبْ".
وبخروجنا من القرية المسحورة وشخصياتها، يعيدنا تتر من جديد إلى الواقع، حيث التفجيرات والضّحايا، ومعاناته في الحصول على قطرة ماء تقيه صحراء الحياة، الحياة التي ترغمه الأيام المتوالية على خوضها: "تكادُ تتماثلُ الأيَّامُ في مَشيها نحو حتفها! تولَدُ، تنمو، تشبُّ وتصيرُ كهلةً، ومن ثُمّ تعودُ إلى نومها الأزليّ، بتلكَ الطريقَةِ تتشكَّلُ الصورُ وتبقى كما هيَ، ربمَّا تُمحَى، أو يخالُ للمرء أنَّها كذلك، سوى أنَّها لا تلبثُ أن تحيَا بقسوةٍ أشدَّ في كلّ حياةٍ جديدةٍ طارئة".

*****

هنا مقتطفات من نصوص الكتاب:

 

ساقْ اصطناعيَّة

خشيةُ الضوء:

لن يكون بمقدوري أن أشرحَ لأشباهي أنّي قُتلتُ في الحرب، وأنَّ المشافي ممتلئةٌ بجثّتي الضخمة النازفةِ دماً تَوزّع في كلّ الأنحاء، ولن يكون بوسعيَ كذلك أن أشرح للطبيب الشرعيّ كيف يُسرِع في إشهار ميتَتَي الأبدية، فقط ربمّا أستطيعُ إقناعَ الآباء ألَّا ينجبوا إلّا ولداً واحداً ينمو بمفرده دون أن يضطرّ للذهاب إلى أطبّاء الأطفال.

 

مُذ صارت عيوني تخشى الضوءَ، بتُّ أرى الوجوهَ ضاحكةً خلالَ غَبَشٍ بالكادِ أبينهُ، أسيرُ بتؤدةٍ على ما بقيَ من أحلامٍ تأجّلت وبي خوفُ أن أتهاوى.

 

ساقٌ لا تؤلِم:

كنتُ أودُّ لو جرّبت أن لا أشعرَ بالألَمِ مثلك، يحملني أحدهُم كرضيعٍ على ظهره، يُجلِسَني على الكرسي المتحرِّك، وحينَ تحكّني ساقي المبتورةُ، أضحكُ من فكرة ألَّا يدَ تستطيعُ حكّ الداخل وهرشهْ، فقط أحملقُ في الجدار كممسوسٍ.

وكي لا يظنُّ العجوزُ أنّي مُقعدٌ مثله، أحاولُ الوُثبَ بساقي الاصطناعيَّة فأتعثُّر.

ساقي لا تؤلمني، ساقي تؤلِمُ أبي والأصدقاءَ والعالَمْ.

 

*****

 

منحوتاتُ السرطان

زهرةُ السرطان:

عمّتي دائماً تسرَحُ بفكرها، تنسى ثيابها الشتويَّة معرَّضةً للبلل، تبغضُ الجفافَ على مضضٍ!

عبر أصيصٍ زجاجيٍّ للزهور وسط (الحوش) الريفيّ، بالإمكان رؤية إبر السرطان مستقرَّةً على المصطبةِ الإسمنتيَّة: القطط تحبّ هذه الإبرَ! تقولُ عمَّتي.

 حدّثتني عن المرضِ مرَّةً تلي الأُخرى: "من يُصَب به نبيٌّ، فقط الأنبياء لا يشعرونَ بالألم".

عاشت عمرها وهي ترقِّمُ الإبرَ، إبرةً إثرَ إبرة وهي تُغرَسُ في عَضَلِ أجسادٍ لا تقوى على الكلام، تحدّثت عن حلمٍ قديمٍ راودها ليالي متوالية: "أرى الأطفالَ يُغرقونَ العجَزَةَ بماءِ الإبَر"! تتوقّف بغتةً وتُعيدُ على مسامعي كمن يستدركُ خطأً مميتاً:

 "لا، مُطلقاً، فلنُعِد الحديث إلى المبتدئ"، تقولُ ومن ثمّ تخرَسُ ساهيةً عن كلّ أمر، السكوتُ دلالةً على المبتدئ، كلّ مبتدئٍ ظلمٌ.

 

المغارة:

تأخذُ الليالي شكلَ الببغاء مُعيدَةً على مسامع الناس أصواتهم خلال النهار، يغدو الصوتُ أخاً رؤوماً لكلّ شيء، لا تكفّ مغاراتُ المرضِ عن الاتِّساع كفمٍ جائعٍ، ولا تكفُّ الليالي عن السخريةِ من تلكَ الأفواه، ها أنا ذا أسخرُ، تقول السحابةُ في السماء، ها أنا ذا قذفتُ أطفالكم الرضَّعَ في الشوارع، رسمتُ أقداراً بشعةً تتعثّرونَ بها وأنا سأبتسمُ، هل تستطيعونَ فعلَ شيءٍ غير الموت؟

 

العائلةُ العَتيقة:

لستُ آبِهَاً لمصيبةٍ هذا المساء، طالَمَا أنّ هناكَ كميّةٌ وافرة من الخمر و- الإنترنِت- بوسعي الآن إقامة عرسٍ في هذهِ الغرفةِ الدمشقيَّة العابقَة...

م ..ا.. ر.. ي.. ا.. ن.. ا.. هكذا أتهجّى الاسم المدوَّنَ أعلى الباب الخشبيِّ من الداخل مذهولاً، ليس اسماً دمشقيَّاً....

ماريانا!! ليس لقبَاً لعائلَةٍ عتيقَةٍ....

يدخُلُ النّادل بثيابهِ الأنيقَةِ فأتاَمَّلُ ثيابي الرثّة وذكرياتي المرقّعة وأسألهُ: من هيَ ماريانا؟ يصمتُ… من هيَ ماريانا؟ يقبّلُ جبيني خائفَاً!! يغادِرُ بِرقَّةٍ …

ماريانا !!وهل اللَقَبُ دلالَةٌ عَلَى عَبَقٍ ما؟ إشارةٌ سحريّة لفعلٍ شؤمٍ؟!

لا مجيبَ يطمئنني سوى التَّعَب المُسْتَشَفُّ من أحرف الاسم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.