}
قراءات

"عنكبوت في القلب".. لعبة الرواية، لعبة الحياة

محمد المسعودي

20 مايو 2020
لعبة الرواية هي لعبة خيال تقوم على تعاقد ضمني بين كاتب وقارئ، وتفترض أن ما يجري بين سطور الكتاب مجرد تلفيق وكذب قصد خلق عوالم ممكنة تتمثل الواقع، أو تتجاوزه، والقصد من وراء ذلك كله توليد المتعة لدى المتلقي، وعرض رؤية ما خاصة بالكاتب عن الإنسان والوجود والحياة من خلال متخيل سردي يوهم بإمكانية وقوع ما تصوره الرواية.
ولعبة الحياة لعبة واقع؛ واقع إنساني وجودي قوامه مسار بشري يشهد: صراعا واستسلاما، ميلادا وموتا، فرحا وترحا، حبا وكرها، شهامة ونذالة، بخلا وكرما، إيمانا وكفرا.. وكل ما تعج به الحياة من تناقضات، وما توحي به من جد ومن عبث، وامتزاجهما إلى حد عجيب، ومن ثم فهي لعبة جد لا خيال، وقد تكون خيالا ارتدى مسوح الواقع وتجَلى في إهابه.
فهل يمكن أن تتحول الحياة إلى رواية؟ وهل يمكن أن تكون الرواية أفقا لحياة ممكنة، أو على الأقل تمثيلا لها؟
في رواية "عنكبوت في القلب" لمحمد أبو زيد (الهيئة المصرية العامة للكتاب، إبداعات قصصية 19، القاهرة، 2019) ينبني المتخيل السردي انطلاقا من تقاطع لعبة الرواية/الكتابة بلعبة الحياة في سياق فني لا يخلو من جد ولا يسلم من عبث. وبذلك يتشكل محكي الرواية وعوالمها السردية في أفق دلالي وفني غني بالرؤى والإمكانات الجمالية التي ستسعى هذه القراءة إلى تجليتها قدر الإمكان.

تبدأ الرواية حكايتها من أفق ضارب في اللعب الروائي عن طريق خلق مجال واسع للتخييل الفانتاستيكي، فمنذ العتبات الأولى نجد السارد يلج بنا متاهات حكائية شتى عن شخصية ستحضر بقوة في النص، وهي ميرفت عبد العزيز. وعن ذكر النحل، وعن تأبط شرا، وعن المملوك الوحيد الذي لم يغادر القلعة، وعن سامي. ولا يُدرك القارئ ما الغاية من هذه الوحدات السردية المنفصلة التي افتتحت بها لعبة الرواية، إلا بالانتهاء من قراءة الرواية. وفي الفصل الأول يجد القارئ نفسه أمام شخصية بيبو، وهي تلوب في مسارب حياتها المحددة بالعمل والمقهى والبيت وحب ميرفت عبد العزيز. ولكن معاناة بيبو الجوهرية تكمن في قلبه الذي دخل حالة سبات عميق أو موت، فكبله عنكبوت لم يتمكن من الخلاص من خيوطه التي أعاقته عن الحب سوى بالعودة إلى "الطبيبة المريضة" التي دلته على كيفية تخليص قلبه مما حل به. وهكذا نرى أن لعبة الرواية منذ بدايتها –أو لابدايتها- وحتى نهايتها –أو لانهايتها- تقحمنا في عالم سيريالي بين، وفي متاهات عبث وغرابة وسخرية لا تني عن التغير والتشكل والتبدل طيلة فصول الرواية. وبهذه الشاكلة نرى اللعب الروائي ينبني على إمكانات متعددة لتوليد الحكاية وتجلية العوالم المتخيلة التي تحدد قسمات حياة بيبو (أو طارق السيد) في علاقته بميرفت عبد العزيز، وبزملاء وزميلات عمله في مستشفى العباسية للأمراض النفسية، وبعلاء الدين ومصباحه، وبببغائه تأبط شرا، وملَكيْه الأيمن والأيسر، وبالمؤلف محمد أبو زيد.
وهذا التركيب المعقد والممتع في الآن نفسه يجعل لعبة الرواية قوامها المراوغة والمكر، وصلبها اللايقين والشك. فعبر المكر الفني، ومراوغة القارئ بتشتيت الحكاية الجوهر والإكثار من أوجه الاحتمال، ينتهي المتلقي إلى الشك في كل ما يقرأ وما يرويه له السارد، ويصل إلى أن اللامنطق واللايقين هو جوهر اللعبة الفنية في رواية "عنكبوت في القلب".
فهل لعبة الحياة ليست متاهة بدورها؟ وهل يطبعها اليقين والمنطق؟ كيف تتمثل لنا الرواية حياة بيبو وحياة محبوبته ميرفت عبد العزيز؟



فعلا إن تمثل حياة الشخصيتين المحوريتين في الرواية تكشف لنا عن مشترك بينهما يتجلى في طبيعة "الحياة الغريبة" التي عاشها كل من بيبو وميرفت عبد العزيز. ولعل هذه الغرابة تعود إلى طبيعة تكوينهما النفسي وشروط وضعهما الإنساني كما تُصوره الرواية، وهو وضع يتسم بالخلل والاضطراب وبالغرابة التي تدمغ المجتمع بميسمها، وجعلت بيبو وميرفت يؤثران العيش في عالم وحدتهما، وفي العوالم الفريدة الخاصة بكل واحد منهما. وقد كانت ميرفت ترد بجملة "لكن ما هو الشيء الذي ليس غريبا في هذه الحياة؟" (الرواية، ص. 113)، وهي الجملة التي تجابه بها كل من يلفظ في وجهها كلمة "غريبة"، تلك الغرابة التي صاحبتها طيلة مسار حياتها، وشكلت شخصيتها. وهي نفس السمة التي دمغت بيبو وحكمت مسار حياته. وقد أكدت الجملة أن "الغرابة" سمة من سمات الحياة الإنسانية، وعنصرا من عناصر الوجود. وهذا ما تؤكده الرواية وهي تتبع صيرورة حياة بطليها: بيبو وميرفت.
يقول السارد في مقطعين دالين من الرواية أولهما يصور غرابة بيبو والثاني يركز على غرابة ميرفت:
المقطع الأول: ".. استمرت معركته مع الصراصير طويلا بين كر وفر، لدرجة أنه لم يعد يذكر الوقت الذي استغرقته، ولم يكن يدرك، هل يقتلها لأنها تشعره بالتقزز أم لأنها تكسر وحدته، لكن المعركة انتهت فجأة، عندما اشترى ببغاء وجده بالصدفة في "سوق الجمعة".
.. سأل بائع الزواحف: هل أجد لديك كركدن يا عم؟ فرد عليه الرجل بصوت من أنفه. وعندما مل من البحث، سمع من ينادي: "ميرفت.. ميرفت"، التفت إلى الخلف، لم يكن ثمة أحد سوى ببغاء، ينظر إلى عينيه مباشرة ويردد الاسم، فاتجه من فوره إلى البائع، وضع في يده ما كان في جيبه، وعاد بالببغاء الذي طلب منه أن يناديه باسم "تأبط شرا"، وإلا.
في اليوم التالي لوجود "تأبط شرا" في البيت، اختفت الصراصير، اختفى إحساسه الدائم بأن شيئا ما يزحف على الحائط وعلى سريره وظهره، بهتت البقع السوداء على الحوائط حتى اختفت تماما. عادت إليه سعادته بوحدته.." (الرواية، ص. 65-66)
المقطع الثاني: ".. لمزيد من التوضيح أقول: ميرفت ليست شخصية غرائبية، هي تحب الأشياء الغريبة، لكن حياتها غاية في الروتينية، تشترك في جميع منتديات الغرائب على الإنترنت، وتدمن قراءة روايات أحمد خالد توفيق، ومشاهدة أفلام هيتشكوك وتحفظ مشاهد كاملة من "صمت الحملان"، وتدمن هاري بوتر والهوبيت وسجلات نارنيا وملحمة الشفق، وتمنت أن يسميها زملاؤها "ساحرة الأدغال السوداء"، لكن ملامحها البريئة، أو البلهاء كما يرى البعض، جعلت تحقيق تلك الأمنية مستحيلا، بالإضافة إلى عدم وجود أدغال أصلا في شارعها.." (الرواية، ص. 120-121) 
نكتشف من خلال المقطعين الطبيعة المتاهية لحياة الشخصيتين التي جعلتهما يتقاربان، لكن دون أن يتحقق شرط الوئام، ومن ثم الحب الذي كان يحلم بيبو بتحققه، لأن مكر الحياة في لعبتها غير المنطقية، وفي أبعادها العبثية تجعل من الحب عملة ثانوية أمام سطوة الواقع، وفي ظل سعي كل شخصية من الشخصيتين للحفاظ على حريتها وما يضمن بقاءها على قيد الحياة واستمرار تحقيق وجودها والعيش في قوقعتها الضيقة المحكمة الإغلاق.



هكذا نرى أن لعبة الحياة في الرواية تستند عند شخصيتي بيبو وميرفت إلى رغبة ملحاحة في الحفاظ على ما يضمن هويتهما المستقلة ويحقق الحرية لهما. ومن هنا، فإن العنكبوت الذي عشش في قلب بيبو والعناكب التي تسكن روح ميرفت لم تمكنهما من جعل قيمة الحب طاقة تجعل حياتهما تتوج بالحب والانسجام والتناغم، بل جعلت الانفصام والاختلاف واللاتناغم أساس حياتهما. ومن هنا ظلت المتاهة قدرا مقدورا حكم شرطهما الوجودي وطبع كينونتهما بطابعها الخاص.
وكما أن الإنسان يحيا حياته لحظات، ومواقف، ومراحل، منقطعة بعضها عن بعض، ومنفصلة بزمنها وفي مكانها، لا روابط سببية أو منطقية تحكمها ظاهرا؛ فإن الرواية بدأت بحكايات متقطعة، تتشكل من لحظات أو وقائع وتجارب حياتية منفصلة عن بعضها لا روابط بينها ليؤكد أن لعبة الرواية ولعبة الحياة تشتركان في هذا البعد، وأن مصائر شخصيات الرواية تخضع لسيرورة غريبة عبثية متاهية كما هي حيوات عدد لا يحصى من البشر. ومن ثم يحكمها الانفصام والانقطاع واللاتواصل.

وبهذه الشاكلة تعكس الرواية جوانب من لعبة الحياة: لَعبة تتماهى فيها الحدود بين الحقيقة والخيال، وبين ما تحياه شخصيتا بيبو وميرفت من وقائع وما تتطلعان إليه، كما تكتنفها رؤية غائمة ضبابية تجسد ما تعانيه هاتين الشخصيتين مما يدور حولهما في العالم الخارجي، فلا تجدان من مفر سوى هذا العالم غير الواقعي الهلامي لترتميا فيه هربا من ليل الواقع الذي يلفه الشك والقهر والغرابة والظلم إلى نهار مفترض: المتخيل والانغماس فيه بما يتيحه لهما من قدرة على خلق رؤى ذاتية ومن إمكانات للتحرر وتحقيق الذات بعيدا عن وصايا الآخرين.
وبذلك نتبين أن لعبة الرواية تتداخل بلعبة الحياة في رواية "عنكبوت في القلب" لتجعل من النص لعبة فنية سردية بامتياز قوامها اللعب الماكر، والتخييل البديع، والتصوير الطريف، والمرامي الروائية البعيدة المغزى، والرموز الشفافة التي تشي بأن الحياة بقدر غرابتها هي رواية ماكرة بدورها، لا تقل خبلا عن خبل الخيال المجنح في الإبداع الفني. وهل الفن إلا حياة أخرى تتغيا فهم أسرار الحياة والتباساتها؟ وهذا ما تقوم به الكتابة أساسا في رواية "عنكبوت في القلب" من خلال إمكاناتها السردية المتعددة وأساليبها الفنية المتنوعة. وبهذه الكيفية تقول الرواية أشياء كثيرة عن طريق مزجها بين لعبة الكتابة ولعبة الحياة في تقاطعهما وامتزاجهما لتشكل منظور السارد العابث لما يجري من حوله في العالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.