}
قراءات

"عقيدة نتنياهو": إدارة الصراع وتأطيره ضمن منظومة صراع الحضارات(1)

حسام أبو حامد

5 مايو 2020
في شهر أيار/ مايو من العام 2012، كان بنيامين نتنياهو موضوعاً لقصة غلاف (COVER STORY) مجلة "تايمز" الأسبوعية، التي كتبها مدير التحرير، ريتشارد ستينغل، ورأى فيها أن نتنياهو على وشك أن يصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأكثر خدمة، منذ ديفيد بن غوريون "الأب المؤسس لإسرائيل"، من دون أي منافس وطني، وأنه نجح في تعزيز سلطته ببراعة، ليقود ائتلافاً يربط حزب الليكود وحلفائه من اليمينيين الآخرين مع حزب كاديما الأكثر وسطية. الائتلاف في رأي ستينغل يعطي مساحة للمناورة، ومساحة للمساومة، لن يضطر معها نتنياهو إلى الدعوة لإجراء انتخابات جديدة. اعتقد ستينغل في حينه أن نتنياهو يقف على أعتاب التاريخ، والسؤال هو: "ما إذا كان أسيرًا في ذلك التاريخ، أو يمكنه كتابة رواية جديدة؟"، فهو يحمل معه ذكرى خدمته العسكرية، والذاكرة الأكثر إيلاماً لوفاة شقيقه الأكبر يوني (يصفه ستينغل بالفدائي الإسرائيلي الشهير)، ويحمل معه أيضًا إرث تعاليم والده، الأكاديمي الصهيوني الأبرز الراحل، بنسيون نتنياهو، فهو مثل والده برؤيته للتاريخ اليهودي، على أنه سلسلة متعددة من الهولوكوست، وبإيمانه بأن معاداة السامية هي مسألة عضوية أكثر من كونها مسألة ثقافية. اعتقد ستينغل أن نتنياهو هو الشخصية الأكثر قدرة على التعامل مع تحدّيين جيوسياسيين أساسيين يواجهان إسرائيل: التهديد النووي الإيراني، والتحدي الدائم المتمثل في إقامة سلام دائم مع الفلسطينيين. ورأى أنه متشدد بالنسبة إلى الأول، أما بالنسبة إلى الثاني، فيراقب احتضار عملية السلام مع الفلسطينيين.
الآن، وبعد ثلاث جولات من انتخابات عامة، في أقل من عام، يبدو نتنياهو منتصراً، رغم عدم قدرته على تحقيق أغلبية حاكمة. ويمضي قدماً في مواجهة اتهامات بالرشوة، وخيانة الأمانة، والاحتيال؛ مع حملات إعلامية موجهة ضده؛ ومع سرب من رؤساء الأمن والدبلوماسيين السابقين الذين أعلنوا أن استمرار حكمه سيعرض الديمقراطية للخطر. تجاوز نتنياهو الصعاب، وبدا أنه يمتلك الكاريزما والقدرة على إقناع ناخبيه، وأنه على خبرة بالأزرار التي يجب الضغط عليها، ليضغط عليها بشكل أفضل من أي شخص آخر. كثيرون في إسرائيل يعتقدون أنهم يمكنهم الاعتماد على "بيبي"، الذي يحوز سجلاً من الإنجازات في الأمن والدبلوماسية والاقتصاد، وأن إسرائيل في وضع أفضل بكثير، بمقاييس مختلفة، مما كانت عليه قبل أن يستعيد السلطة في عام 2009. لا يبدو أن لوائح الاتهام أزعجتهم، ولم يبرر لهم حتى تصديق أنه رجل فاسد إلقاء زعيم سياسي ناجح من النافذة، ويبدو أن الوضع في غزة، والفيروس التاجي، حالا دون نجاح "أزرق أبيض" في أن يحوّل لوائح الاتهام إلى قضية انتخابية.
وتناغمت خطة السلام للشرق الأوسط "صفقة القرن"، التي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن بنودها، مع عقيدة نتنياهو الأيديولوجية والسياسية، ويبدو أن نتنياهو سيشرف
لسنوات أخرى على تنفيذها.
نتناول هنا أسس تلك العقيدة، التي يتبناها نتنياهو، وأبعادها، معتمدين على قراءتين في عملين بحثيين؛ أحدهما دراسة أنطوان شلحت «بنيامين نتنياهو: عقيدة "اللاحل"» (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - مدار، 2014)، والثانية دراسة مهند مصطفى، في كتابه «بنيامين نتنياهو: إعادة إنتاج المشروع الصهيوني ضمن منظومة صراع الحضارات» (إسطنبول: مركز رؤية للتنمية السياسية، ط2 2019).

عقيدة نتنياهو 

من بن غوريون إلى نتنياهو
تناول أنطوان شلحت الأدبيات السياسية الإسرائيلية التي تناولت التكوين الأيديولوجي لنتنياهو، ومشروعه السياسي، ومنها ما رأى أن لنتنياهو هدفاً سياسياً رئيساً واحداً: البقاء في السلطة، الأمر الذي جعله يتمسك بسياسة "عدم الفعل"، بديلاً من سياسة الفعل، لا سيما في ما يتعلق بمستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتكريس الوضع القائم الذي يتسم بحالة لا حرب - لا سلم، ومنهج إدارة الصراع. ولكن شلحت يرى أنه إذا كان عدم الإقدام على أفعال حاسمة كبيرة على مستوى سياسة إسرائيل الخارجية هو أكثر ما يسم أداء نتنياهو، فإن هذه السمة لا تنطبق بتاتاً على صعيد سياسته الداخلية، فهنالك من المحللين الإسرائيليين من يدحض كليشيه "نتنياهو لا يفعل شيئاً"، بل يرون أنه فعل الأكثر منذ ديفيد بن غوريون، لا سيما على صعيد تغيير إسرائيل كلياً، ضمن مسعاه لإعادة تركيب البنى السياسية والإعلامية والقانونية في إسرائيل بما يخدم مشروعه الأيديولوجي اليميني المتشدد. ولقد غيّر نتنياهو، في رأي هؤلاء، الوعي العام الإسرائيلي، وتحت وطأته يقوم بتهويد إسرائيل تماماً، وصولًا إلى سنّ "قانون أساس" هو "قانون القومية" يعرّف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي، وعن طريق الكشف الدائم عن "الأغيار الأشرار" يحول دون أي جدل حول سؤال "ما الذي تريده إسرائيل؟".
في رأي شلحت، يمتلك نتنياهو "عقيدة محدّثة"، فحواها أن المصالحة الأوسع نطاقاً بين إسرائيل والعالم العربي قد تساهم في دفع السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك خلافاً للعقيدة التي سادت حتى الآن، ومفادها أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني قد يساهم في المصالحة الأوسع

نطاقاً بين إسرائيل والعالم العربي.
في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي، وضع ديفيد بن غوريون "استراتيجية دول الطوق الثاني"، التي تقوم على أن تحالف إسرائيل مع دول شرق أوسطية لها مصالح مشتركة مع "الدولة اليهودية" ولا حدود لها معها، يمكّن من كبح النيات العدوانية للدول المجاورة، مثل التحالف مع شاه إيران، وتركيا، ومساعدة الأكراد... إلخ. وبحسب شلحت، فإن محلل الشؤون العسكرية في الموقع الإلكتروني لصحيفة بديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، يعيد إلى الأذهان تلك الاستراتيجية عند الحديث عن عقيدة نتنياهو الأمنية، التي برزت في خطابه في ندوة عقدها "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، في 9 حزيران/ يونيو 2014. وبحسب قراءة بن يشاي، فإن تلك الاستراتيجية تهدف إلى تمكين إسرائيل من عبور الاضطرابات التي تعصف بالشرق الأوسط، وتسونامي الإسلام المتشدد، بسلام، حيث يطرح نتنياهو قضية تعاون إقليمي محدود بين إسرائيل ودول عربية معتدلة بهدف كبح الجهاديين المتشددين. وكرر رغبته في التعاون مع دول خليجية في مقدمتها العربية السعودية، وأقرّ علناً لأول مرة باستعداد إسرائيل لمساعدة الأردن عسكرياً، وأنها تؤيّد تطلعات كردستان نحو الاستقلال، عاداً مصر شريكاً في هذا المعسكر. ويعتقد بن يشاي أن نتنياهو يبحث عن حل مؤقّت للصراع مع الفلسطينيين، لكن فقط في إطار هذا التعاون الإقليمي.
يحيلنا شلحت إلى خطاب نتنياهو أمام الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في 29 أيلول/ سبتمبر 2014، الذي أعلن فيه أنه في خضمّ التحديات التي تواجهها إسرائيل هنالك فرصة تاريخية، بعد أن أصبحت بعض الدول العربية القيادية تُقِرّ، بعد عقود من النظر إلى إسرائيل بصفة عدو، بحقيقة أنها وإسرائيل تواجهان تحديات مشتركة تتمثل في إيران النووية والحركات الإسلامية المتشددة، وأن كليهما يواجهان تحدّيًا يتمثل في الاستفادة من هذه المصالح المشتركة لإقامة شراكة مثمرة من أجل بناء شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً وازدهاراً.
وإن كان كثيرون اعتقدوا طويلاً أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني قد يساهم في الدفع بمصالحة واسعة بين إسرائيل والعالم العربي، فإن نتنياهو يعتقد أن الأمر اليوم يسير في الاتجاه المعاكس؛ إذ أن المصالحة الأوسع بين إسرائيل والعالم العربي قد تساهم في دفع السلام الإسرائيلي الفلسطيني. وينبّه شلحت إلى أن مبادرة السلام العربية، التي طرحت عام 2002، لم تلق سابقاً أي اهتمام من قبل نتنياهو، إلا أنه بعد أحداث الربيع العربي، وانتشار الإسلام المتشدد، فإنه لا يستحضرها إلا ليوضح أنها لم تعد صالحة لتحقيق تسوية منشودة حين اشترطت اعتراف الدول العربية بإسرائيل فقط بعد انسحابها إلى خطوط عام 1967، الأمر الذي يرفضه نتنياهو

واليمين في إسرائيل. فمسعى نتنياهو هو توقيع اتفاقيات مع هذه الدول التي ليس لإسرائيل معها أي مشاكل جغرافية، وأن تبقى القضية الإسرائيلية الفلسطينية معلّقة في الهواء. ففي ظل الظروف الحالية، يعتقد نتنياهو أن معظم دول العالم تستطيع التعايش مع مسألة فلسطينية معلّقة، هناك نزاعات إقليمية عديدة تغلي برفق على نار هادئة في كافة أرجاء العالم، وأنه في الأشهر والأعوام المقبلة ستحوّل مآسي إنسانية وسياسية عديدة الانتباه عن المسألة الفلسطينية.
وبحسب الباحث مهند مصطفى، يضيف نتنياهو في كل مرحلة مطلباً جديداً من الفلسطينيين، أو يشدد على مطالب معينة. ففي دورة حكومته الأولى (1996 - 1999)، عدَّ أن الضمانات الأمنية، ومكافحة "الإرهاب"، هما الشرطان الأساسيان لأي تسوية. وفي دورة حكومته الثانية (2009 - 2013)، طرح مطلب الاعتراف بـ"دولة يهودية" شرطاً أساسياً لحل الدولتين. في أحيان، يركز على "وقف التحريض"، أو يطرح معترضاً موضوع دعم السلطة الوطنية الفلسطينية لعائلات الشهداء والأسرى، وطوراً يتذرع بالمصالحة الجارية بين "فتح" و"حماس" للانسحاب من المفاوضات. هذه، وغيرها، مبررات لعدم المضي في تسوية، أو حل، مع الفلسطينيين. ومن خلال إدارة الصراع، يبقي على الوضع القائم، فكل شيء عند نتنياهو يتم التعامل معه بحسب السياقات المحلية والفلسطينية، الإقليمية والدولية، وعندما يعود نتنياهو إلى قواعده الأيديولوجية فإنه يتّبع سياسة حسم الصراع، وعندما يضطر إلى ترك مواقفه الأيديولوجية فإنه يدير الصراع، لكنه بطبيعة الحال يفضل البقاء في قواعده الأيديولوجية.

 

"أوسلو": الخطر الاستراتيجي
يؤكد شلحت: إنْ كان البقاء في السلطة بالنسبة لنتنياهو هو هدف سياسي، فإنه ليس الهدف الوحيد على الإطلاق. ويدرس ما تسبب فيه حكم نتنياهو في عملية التسوية السياسية للقضية الفلسطينية. والسؤال الرئيس عند شلحت: كيف ينعكس حرص نتنياهو على جعل السلام مستنداً إلى الأمن في كل ما يتعلق باحتمالات حلّ الدولتين، وإلى أي مدى يشكل هذا الحرص دافعاً لتقويض هذا الحل من الناحية العملية الواقعية؟
يحيلنا شلحت إلى خطاب نتنياهو في مستهل ولايته الثانية، رئيساً للحكومة، أمام جامعة بار

إيلان في 14 حزيران/ يونيو 2009 (خطاب بار إيلان 1)، الذي قبل فيه لأول مرة إقامة دولة فلسطينية مع تحفظات، وتذهب تحليلات إسرائيلية إلى أن نتنياهو أراد من ذلك تقديم دفعة على حساب عملية عسكرية أميركية في المستقبل ضد المنشآت النووية الإيرانية، لكن عندما أدرك نتنياهو أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لن يتحرك عسكرياً ضد إيران، ردّ عليه بالتخلي عن حلّ الدولتين، وتدمير أساس المفاوضات مع محمود عباس. وبعد أربعة أعوام وأربعة أشهر، ومن على المنبر ذاته، ألقى نتنياهو "خطاب بار إيلان 2"، الذي وصف فيه الفلسطينيين والإيرانيين بالنازيين، واستبعد إمكانية الاتفاق مع الفلسطينيين الذين يرفضون الاعتراف بيهودية الدولة، وبترتيبات أمنية بعيدة المدى، مما أكد للمحللين أن المفاوضات لم تعد تشكل مدخلاً إلى اتفاق ما، كون نتنياهو لن يُقَدِم على التوقيع على وثيقة تفرض الانسحاب إلى حدود عام 1967، مع تعديلات بسيطة على الحدود القائمة، وإخلاء لمئات المستوطنات، وإنما هدف نتنياهو البقاء في الأراضي المحتلة منذ 1967 إلى الأبد.
يشترط نتنياهو على الفلسطينيين ترتيبات أمنية بعيدة المدى، في مقدمتها بسط السيادة الإسرائيلية على غور الأردن. ومع أن هذه الترتيبات، كما يوضح شلحت، ليست جديدة، فإن الجديد أنها تطرح اليوم كمطلب مركزي، استطاع نتنياهو تحويله إلى عقبة، مع أن عديد من رجالات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية سبق أن أكّدوا عدم وجود حاجة جوهرية إلى منطقة غور الأردن، وأنه يمكن حماية إسرائيل من دون هذا الشريط. وبالإضافة إلى سعيه إلى سَنّ قانون أساس يعتبر إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي، فإنه دفع الهيئة العامة للكنيست إلى المصادقة بالقراءتين الثانية والثالثة (يوم 12 آذار/ مارس 2014) على قانون جديد يقضي بإجراء استفتاء عام قبل التنازل عن أراض خاضعة للسيادة الإسرائيلية، بهدف التضييق على أي تسوية مع الفلسطينيين وإفشالها.
هنالك من المحللين الإسرائيليين من يرى أن الوقت يعمل لصالح نتنياهو، الذي يجد في "أوسلو" خطراً استراتيجياً ينبغي تجنبه، مع أنه ليس لديه مشكلة في العودة إلى طاولة

المفاوضات، بوصفها جزءاً من تكتيك العودة إلى التفاوض، وتبادل الآراء، والجدل الذي لا ينتهي، لكنه جيد لخفض التوتر الداخلي والخارجي. هكذا تحولت العملية التفاوضية من أداة للتوصل إلى تسوية سياسية إلى وسيلة ناجعة في يدي نتنياهو لتكريس الوضع القائم.
ويذهب شلحت إلى أنه إذا كان إرساء "خطاب السلام" معظم الوقت بمثابة إرساء "خطاب عملية السلام" فقط بمعزل عن أي أفعال ملموسة تدفع بالسلام قدماً، فإن إرساء ذلك الخطاب تحوّل على يد نتنياهو، ومعه اليمين الإسرائيلي، إلى مجرد غطاء على أفعال أقل ما يقال إنها تناقض السلام نفسه على نحو جليّ ومفضوح للغاية، وإن تبنّي نتنياهو لهذه العقيدة المحدّثة على الصعيدين السياسي والأمني، والقائمة على افتراض استمرار عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وتهديد الإسلام المتشدد، لا تطرح إمكان معاودة السلام مع الفلسطينيين، ولا تطرح خطة إسرائيلية مستقلة للتسوية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.