}
قراءات

"الحدث" لآني إرنو.. الحياة والموت في آنٍ معًا

دارين حوماني

21 يونيو 2020

"بالفزع نفسه والشك نفسه تقع حياتي بين طريقة أوجينو والعازل الطبي" هي إحدى صور إقامة آني إرنو (1940) داخل ماضيها الموجع في روايتها "الحدث" L’Evenement  الصادرة مؤخرًا بلغة الضاد عن دار الجمل للمترجمة سحر ستالة.

إرنو الروائية الفرنسية التي اختارت كتابة روايات أوتوبيوغرافية مستعينةً بدفتر يومياتها وبكائنات معذّبة احتفظت بها في خزانتها الشخصية، تمكّنت في رواياتها من نبش كل ما هو مدفون وتعليقه على جغرافيا الأرض عبر تخييط التجربة الفردية على سطح السترة الجماعية وعبر تحويل الألم الشخصي إلى تجربة إنسانية كاملة من أولى رواياتها "الخزائن الفارغة" (1974) وحتى آخرها "قصة فتاة" (2016)، أكثر من عشرين رواية تستدعي فيها إرنو أجزاءها المهمّشة، تهزّها ليتساقط منها ما ينبغي تثبيته في كتب سردية، سنعثر في أيّ منها على بصمات عيوننا ووجوهنا المدفونة. سنعثر في روايتها "الحدث" على أشخاص بلا مسقط رأس وعلى قبور مائية تؤرق وتعلق تمامًا في الذاكرة، ماتوا جميعًا أم لم يموتوا لا يهمّ، إنها تستخدم ذلك الزمن غير المكتمل، تلتقي من جديد بأفراده ومفرداته، وتستوطن نفس الأمكنة للتمكّن من كتابة الفزع نفسه والشقاء نفسه والغثيان نفسه.
"الحدث" هي رواية تفاصيل يومية لتجربة واحدة تحوّلت من حادث إلى حدث، الحدث هو محاولة إجهاض لشابة حملت من حبيبها الذي لم يعد يريد غير التخلص من علاقته بها ومن الجنين، وفي زمن كان ينصّ القانون فيه على أن الإجهاض جريمة يُعاقب عليها المشاركون فيه، الفاعل والأطباء والصيادلة والمرأة التي أجهضت والمحرّضون على الإجهاض. هي ليست سيرة ذاتية فقط، إنها تأريخ لمرحلة من مراحل التغيير الإجتماعي في أوروبا "كانت والدتي تنتمي لجيل ما قبل الحرب، جيل الخطيئة والعار الجنسي وكنت واثقة من أن معتقداتها مقدّسة".. وكانت إرنو تمنع نفسها من ممارسة الحب "رغم الابتهالات للعذراء ولقدّيسات أخريات من أن أمنع نفسي من معاودة التجربة، وإلى حدود الصيف الماضي نجحتُ بعد أن بذلتُ جهودًا كبيرة وتكبّدتُ إهانات كأن أعامَل على أنني عاهرة ومثيرة في الامتناع نهائيًا عن ممارسة الحب".. أما صديقها الذي لجأت إليه ورغم أنه يعمل في جمعية سريّة تدافع عن حرية الحمل إلا أن ردّة فعله أصابتها بالحزن وبالشعور بالوحدة "كان كأنه يراني منفرجة الساقين أمامه أهدي إليه فرجي.. لم أحب أن يعاملني باحتقار فقد تحوّلتُ في نظره من الإنتماء إلى فئة الفتيات اللاتي نجهل ما إذا كنّ سيقبلن بممارسة الحب إلى فئة اللاتي قمن بممارسة الجنس على نحو لا ريب فيه في زمن أصبحت فيه التفرقة بين الفئتين مهمة حيث كانت تحدّد مواقف الذكور من هؤلاء الفتيات"..  

هل يمكن عنونة إرنو، الحائزة على جائزة رينودو الأدبية عن روايتها "الساحة" في عام 1984، على أنها كاتبة الاعترافات الخطيرة، كاتبة التجارب المثقلة بالحياة والموت. علاقة حميمة أدّت إلى حملها وإلى إحساس مخيف بالذنب وبالشقاء. تحوّل الزمن فجأة بالنسبة لإرنو التي تدرس الآداب وتُدرّسه من متوالية فاترة من الأيام من الإمتحانات والعروض والمقهى والمكتبة إلى شيء يتقدّم في أعماقها وينبغي تدميره "لم أعد أنتمي إلى العالم نفسه، كانت هناك الفتيات ببطونهن الخاوية وأنا". زيارتها للأطباء لم تسعفها "إنهم لا يخاطرون بخسارة كل شيء من أجل عينيّ آنسة صارت حبلى لشدّة سذاجتها".. لم تنفعها الحُقن التي وصفها الطبيب لها.. أرادت تجريب الألم إلى أقصاه علّها تتخلّص من هذا الرعب الذي يسكنها.. وضعت إبرة الحياكة في مهبلها دون أن تعثر على عنق الرحم.. هي الهوّة السحيقة التي كانت إرنو مستعدّة أن تفعل أي شيء للخروج منها.. لكنها كانت تعود دومًا إلى نقطة البداية المفزعة..
الأربعاء 15 كانون الثاني/يناير 1964، باريس، الدائرة 17، ممرّ كاردينيه، عمارة بالية، الطابق الثاني، السيدة ب-ر، السرير، جدران عالية مع شق في الوسط، الستائر، الماء المغلي، المسبار، ستصرف هذه الصور الشقاء كله، هناك ستقتل الكاتبة والدتها في داخلها، وستتخلّى عن حبيبها، وهناك ستشعر أن العالم كلّه تخلّى عنها إلا هذه المرأة الشبيهة بساحرة أو قابلة عجوز وهي تغرز المسبار بين فخذيها.. هي فقط "صانعة الملائكة" كما كانوا يلقّبونها، المرأة التي كانت مقابل 400 فرنك فرنسي مستعدّة لأن تمحو عذاب فتيات لسن سوى ضحايا أسباب عديدة.. السبت 18 كانون الثاني/يناير 1964 ستحتاج إرنو إلى تبديل المسبار الذي سيجعلها تشعر بألم مضاف إلى آلام لامتناهية..

سيتقلّص الزمن في الليلة الفاصلة بين 20 و21 كانون الثاني/يناير، ستشعر آني إرنو وقد تحوّلت إلى وحش وهي تحمل "ذلك الشيء"، الجنين الذي اندفع كقنبلة يدوية من بين فخذيها مترافقًا مع أفكار مشغولة بفوضى مخيفة وببُعد بصري حادّ لن تتمكّن بعده إرنو من تغييبه عن ذاكرتها.. ثمّة حبل سري لا تدري إرنو وصديقتها ماذا ستفعلان به ويجهلان في أي موضع يجب قطعه، "لكنها فعلت ذلك حتى النهاية.. إنفجرَت باكية وشاركتُها البكاء في صمت، إنه مشهد بلا اسم، الحياة والموت في آن معًا".. وضعت إرنو "طفل الماء" في كيس بسكويت فارغ وأسقطته في المرحاض، ثم نظرت إلى الأرض لتجد أنها تغرق في الدماء، وبين الرعب الأول والثاني أخذت تبحث عن مكمن الخطأ لكل هذا النزيف. رفضت استدعاء الطبيب ثم استسلمت.. "رجوته ألا يتركني أموت..اعتقدت بسبب عينيه المجنونتين أنه كان قادرًا على أن يتركني أموت.. أنظري إليّ أقسمي أنك لن تفعلي ذلك مرّة أخرى.. أنا لست سبّاكًا"، كانت هذه الكلمات آخر ما سمعته آني إرنو من الطبيب قبل التخدير..
الطبيعة ستواصل عملها آليًا في الغياب، سينتفخ صدر آني وهي تطفو على سطح أيام شتائية رمادية وسط العالم.. ستعود آني إلى عالم آخر ليس نفسه العالم الذي كانت تعيشه قبل تجربة الحياة والموت، "وجوه المارّة، السيارات، الأطباق على طاولة مطعم "أو"، بدا كل شيء طافحًا بالمعاني.. لا أعرف متى عدت إلى العالم الذي نصفه بالعالم العادي"، وفي الكنيسة ستشعر آني إرنو أن الزمن الديني قد انتهى بالنسبة إليها..

تقول صاحبة رواية "الاحتلال" عن تجربتها: "محوتُ الشعور الوحيد بالذنب.. لأنه في ما وراء كل الأسباب الاجتماعية والنفسية التي يمكن أن أجدها في كل ما عشته هناك سبب أنا واثقة منه أكثر من أي شيء آخر: الأشياء حدثت لي كي أدرك معناها ولعلّ الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي: أن يتحوّل جسدي وأفكاري وحواسيّ إلى كتابة إلى شيء واضح وشامل إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم".
التخييل الذاتي الذي أسّست له الروائية آني إرنو كتيّار حديث في عالم السرد يقودنا معها إلى شوارع فرعية تغفو في الظلّ، تبسط خرائطها الجينيّة لنا وتدوّنها كما هي دون تعديل وبرغبة عميقة في تحويلها إلى أحداث للتاريخ أمام البشرية كلها وليصبح هذا "الإجهاض" مكتوبًا كشاهد على زمن مضى كما في كل رواياتها الأخرى التي تحمل كل منها حدثها الخاص والعام في آنٍ معًا..

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.