}
قراءات

على هامش وقائع اليوم.. قائد هدم بلده حيًّا وميتًا

فيصل درّاج

5 يونيو 2020
لا رواية بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا رواية. قول سائر بين منظّري الرواية من دون أن يكون كامل الدقة. صدرت ديمقراطية الرواية عن اعتبارها الإنسان مبتدأ الكلام، واستبعادها للإنسان المتجانس الأحادي البعد، ولزوم الحوار داخل الإنسان وخارجه، وتأكيد ذاتها رسمًا للحياة اليومية البعيدة عن حياة نخبه متجانسة حاكمة.
اجتهدت الرواية العربية، كما غيرها من روايات البلدان المقموعة، في توصيف شخصية الحاكم المفرد الذي يجيء من الشعب ويقف فوقه. بدأ المصري، جمال الغيطاني، بروايته "الزيني بركات"، قائلًا بوحدة الاستبداد والهزيمة الوطنية. لحق به المغربي، سالم بن حميش، في "مجنون الحكم" الذي يخاطب السماء ولا يرى السائرين فوق الأرض، ذكّر عمليهما بروايات من أميركا اللاتينية التي حكمها عسكريون عتاة، أكانت رواية أوسترياس "السيد الرئيس"، أم رواية ماركيز "خريف البطريرك".
ولما كان عهد الحكّام الفرادى طويل العمر، انتقلت الرواية من وصف الحاكم إلى توصيف خرابه الاجتماعي، الذي يستولد سديمًا اجتماعيًا داميًا، كما هي الحال في رواية أحمد الزين عن اليمن: "فاكهة الغربان"، وعمل هدى بركات "بريد الليل"، إذ الأوطان هي بقايا ما كانته.
اليمني علي المقري، الذي أعطى كتابة روائية متميّزة أكثر من مرة، عمد في عمله الأخير

"بلاد القائد" إلى محاكاة بلا رقابة، بعد أن أسقط الشعب القائد وألقى به في "مجرى التاريخ". اقترب في توصيفه من "قائد خالد" رحل قتيلًا أسبغ على ذاته صفات متمجدة عديدة حتى ضاقت به اللغة. قرأت رواية المقري، التي ظهرت نهاية العام الماضي، "القائد" فردًا خاصًا "يكرّم المبدعين"، لأنه منهم؟ وأوغلت في تفاصيله، واشتقت منه "ظاهرة المستبدين" بعامة. فالمستبّد "حرّ وحيد"، يقرّر الكلام وشكل الكتابة، وما خارجه هوامش بشرية ملزمة بثنائية الوجه والقناع، حيث اللسان خارجيًا يمعن في المدح والإكبار، ويكثر في صمته من اللعنات والهجاء.
صيّر المقري المستبد إلى ظاهرة، لأنه بدأ من مستبد، ارتفع وهوى، كما لو كانت الظاهرة لا تقرأ إلا في تمامها، ذلك التمام الغريب الذي يُستهل ببلد موّحد وينتهي ممزّقًا، تتنافس على التحكمّ به قوى منه، وأخرى غريبة أغواها انكسار الهيبة وانحطام السياج. هجس الروائي اليمني بالخراب الذي اكتسح بلده، وبخراب موازٍ في أكثر من بلد عربي. نشر، في الحالين، سخرية سوداء تسرد وتصف وتُقلقُ وتُطلق احتجاجًا واسعًا ضد "الظالمين"، خرّبوا البلاد والروح البشرية معًا.
بنى الروائي، الذي ألمح إلى "ثورة عجيبة"، نصه بمقولات أربع معروفة الدلالة في العالم العربي: الإنسان العاثر الحظ الذي يلتمس الأمان في صمت ناطق ونطق مستحيل، يدمن القناع حتى يصبح وجهًا تخلّت عنه ملامحه، والمثقف الفقير المكسور، يخترع ذاته لينسج كلامًا يرضي الحاكم الوحيد، ويعيد اختراع "القائد" بمتواليات من الصفات المتعالية: تبدأ بالجلال المخلّد ولا تنتهي بالظافر الجليل. جعل الروائي من اللغة، وهي المقولة الثالثة، موضوعًا يرصد هوان المثقفين، وإشارة إلى "قائد" لا يؤمن بذاته، ويحتاج إلى برهان لغوي من مثقفين

محترفين...! كأن توصيف القائد، الذي يبذخ في العطاء تسفيهٌ له، وللغة التي تمجّده، ورثاء لشعب انتظر ثورة صارت مهزلة. وإذا كان الراحل عبدالرحمن منيف اخترع في "مدن الملح" بلدًا دعاه "موران"، فقد استولد المقري دولة دعاها: "عراسوبيا"، جامعًا بين العروبة والمجهول المضحك، ذلك أن القائد المفترض "مرتبة وسطى" بين الله والنبي. والمقولة الرابعة التي تحتضن ما قبلها: الخراب الذي يبدّل الطبائع والمسميات، ويسفر عن وجهه في "ثورة جديدة" صادرها الخراب السابق وتركها تمارين في التقاتل والتحارب والتكاره وصناعة الأطلال.
ليست "بلاد القائد" في رواية على المقري إلا بلاد "اللغة العربية" التي دورها في زمن التآكل المسلح طمس الحقيقة. وسّع الروائي الفضاء السلطوي، الذي ملأه "قائد" الأرواح المشوّهة، بجهد لغوي دقيق التفاصيل وافر الإشارات، رسم به حكاية مأساوية ساخرة المظهر دامية النهاية. كشف، فنيًا، عن دلالة الفضاء المستبد بحيّز سلطوي واسع يلتهم غيره، وبهامش ضيق لكائنات مضطهدة تمر كأنها كلام ممنوع. أدرج المقري في روايته مركزًا ظاهرًا قوامه "القائد"، ومركزًا أكثر عمقًا ونفاذًا أعلنت عنه "أدبية اللغة" التي تقبض على "الظاهرة المستبدة" من دون بلاغة كبيرة، أو تعمد إنشائي.
وزع الروائي نصه على أربعة عناوين تصفّ وتوحي معًا: "فصّ المرجوّ" مدخل عوالم القائد وإشاراته، و"فصّ المبجّل" مرآة لديكتاتور صغير، و"فصّ الاكتمال" حيث ما جاء به غموض قاتل يحصده غموض أكثر دموية (من أين جاء الحكّام المتألّهون؟)، و"فص القذى" الذي هو من مخلّفات الاستبداد المنتظرة، يتداخل فيها الحريق وقتل الأبرياء وقصف المدن وتكاثر

المرتزقة... شكّلت العناوين الأربعة سيرة إشارية موجزة لحاكم عاش "ثلاثة وثلاثين عامًا"، كما جاء في الرواية، دمّر بلدًا وأرضى روحًا فارغة أسهمت في بناء "بلاد من فراغ".
أليس في عنوان الرواية: "بلاد القائد" أكثر من دلالة؟ القائد مفرد، والبلاد بصيغة الجمع، لكنه، وهو المفرد والمختلف، حوّلها إلى ملكية خاصة تأتمر بمشيئته، والدليل أن خرابه مستمر بعد قتله، وأن آخرين مسلحين يشبهونه يقاتلون من أجل امتلاك البلاد من جديد.
أنتج علي المقري نصًا جديدًا عن الاستبداد، ومآل المستبّد المتألِّه الذي ينتهي كلطخة قذرة، ومآل المستبد بهم الذين عاشوا الخوف في زمن "القائد" والتحارب بعد رحيله. جمع الروائي بين المقيّد والطليق والساخر والباكي، والسخرية المريرة، والتأمّل الحزين. قد يسأل المستبد به في زمن: من أين يجيء الحكّام؟ ويلحقهم بعوالم غامضة جديرة بالقدسية، ويعرف حقيقتهم بعد سقوطهم، يسقطون عموديًا، بلا عقل ولا كرامة.
الكتابة الروائية الإبداعية نقد واحتجاج ومقاومة وتذكير، وهي صوت المستضعفين الذين خدعهم الطريق، وذاكرة البلدان العربية التي فقدت الذاكرة، فأكثرت الكلام عن تحرير الأوطان والمقدسات، والقدس وفلسطين من بينهما، و"حرّرت" بلادها من الكرامة والأمان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.