}
عروض

"الكشف والبرهان ونقيضه".. بعث الروح في فلسفة الشعر

دارين حوماني

3 سبتمبر 2020

في كتابه الأخير "الكشف والبرهان ونقيضه - نظرات في الشعر والرسم والنحت والموسيقى والفلسفة" (دار الرافدين، 2020)، يبحث الشاعر محمد علي شمس الدين (1942) عن أصل الشعر الذي هو قديم بعمر الإنسان "حتى لكأن الشاعر الأول هو الانسان الأول". إنه يدافع عن الشعر، يشارك نيتشه وهايدغر في إنقاذ الشعر من أفلاطون وتلامذته، من قول كتاب القرآن فيه، من تحوّلات الزمن ومن الإشارات الإلكترونية، إنه يبحث عن الشعر في كل ما تعجز المواد عن تفسيره.
يحدّد شمس الدين هنا هوية الشعر من داخل الفلسفة ومن داخل الرسم والنحت والموسيقى والفنون الأخرى، فالشعر هو في البدء "نفخ الموسيقى في كتلة اللغة التي هي كتلة صمّاء في الأساس.. والشعر يجرح الوجود والأشياء والمعاني ليكشف عن دمها وأسرارها فهو جرح الوجود"، فالكشف في العنوان هو الحدس للكائن البشري "قريبًا من الشطح بعيدًا عن البرهان وأحيانًا نقيضًا له"، هذا الحدس الذي له قاعدة صلبة من معرفة تاريخية وأخرى فلسفية، وهو "يبدأ من حيث ينتهي التاريخ وتنتهي الفلسفة، فالشاعر ليس مؤرّخًا وليس فيلسوفًا، الشعر هو نفسه، ذاك المعطى الجمالي المعني باللغة والموسيقى والصورة والبروق الكافة وبالغامض والمجهول وبالحب والموت والسعادة والغيب والشقاء، إنه طفل الخيال المحلّق فوق التاريخ وفوق الفلسفة".



نشوة الخلق
هذا العشق للشعر بدأه شمس الدين منذ مجموعته الأولى "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا" (1975) حتى مجموعته الشعرية الثامنة عشرة التي صدرت مؤخّرًا "آخر ما تركته البراري" (2020). يريد أن يثبت دائمًا أن الشاعر تأتيه نشوة روحية هي نشوة الخلق، وتتجاوز حدود العقل ولا يصل إليها الفيلسوف، فنشوته عقلية بحتة على الرغم من أنهما يمشيان على خط موازٍ هو "خط الغيب" كما يصفه الشاعر، "فالحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية تجليّات لمستور واحد هو مستور ميتافيزيكي، والعودة إلى المسافات المقفرة عبر التاريخ بتعبير هايدغر لا يُقصد بها العودة إلى الوراء كرونولوجيًا بل إلى هذا المستور أو الغائب أو الخفيّ بالذات، وإن تاريخ الشعر كتاريخ الميتافيزيك هو تاريخ الخفي في الوجود وفي الطريق إلى الغائب يتم التفتّح الشعري والتفتّح الفلسفي".
وثمّة تجارب شعرية زاحمت الفلسفة في سبر أغوار الوجود وأغوار النفس البشرية من خلال بروق الشعر، يعتبر شمس الدين أنه لم تحدث مواجهات بينهما إلا في اليونان القديمة وفي عصر النهضة أوروبيًا حين أسّس بعض الفلاسفة الأوروبيين فلسفتهم على أشعار شعراء معاصرين كما فعل هايدغر بتأسيس نظرية فلسفية من أشعار هولدرلين، فقدّم هذا الثنائي أعمق ما يمكن قراءته عن النفس البشرية. كما كان نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت" و"أصل التراجيديا" أقرب للشاعر منه للفيلسوف في تعامله مع اللغة، ووضع جاك دريدا إصبعه في دراسته الألسنية التفكيكية على الأسلوب النيتشوي الشعري في قوله الفلسفي وهنا أيضًا انقلاب على أفلاطون وفكره المضادّ للشعر والرسم، كما يقول شمس الدين.
لكن الشعر عربيًا ومنذ العصر الجاهلي لم يقدّم فلسفة ولم يتأمّل في الوجود إلا ما ندر وما مسّ الغيب من بعيد، "فالجزيرة العربية وأهلها من البدو كانوا على قلق لا يهدأ من تحديّات الموت فانعدم الفكر الفلسفي الذي يقتضي وجود حيّز من الاستقرار المدني والحضري. لا فلسفة. لا عمارة. لا مسرح. لا علوم بل أصوات الشعراء، وكان الشعر ملحميًا بأغلبه أشبه ما يكون بطقوسية الكهنة منخرطًا في العصبية القبلية"، لكن ثمّة حكمة تأملية يجدها شمس الدين في شعر زهير بن أبي سلمى: "ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحهِ/ يُهدم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ"... ولم يظهر فلاسفة عرب إلا في زمن هارون الرشيد والمأمون حين نشطت الترجمة من اللغات الأخرى وخصوصًا اليونانية فتمّت ترجمة كتب الفلاسفة اليونانيين ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو وبرز في العالم العربي فلاسفة إسلاميون كالفارابي وابن رشد والغزالي والحلاج والمعرّي.
يرى صاحب جائزة مؤسسة العويس أن أقصى ما توصّل إليه هؤلاء الفلاسفة العرب والمسلمون هو التوفيق بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية طارحين إشكالية الفيلسوف العربي والمسلم في ظل نصّ مسيطر هو القرآن، وليس كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي والردّ عليه "تهافت التهافت" لابن رشد سوى صدى لهذه الإشكالية. وإن النظرية الشعرية لدى هؤلاء الفلاسفة لم تخرج عن نظرة أفلاطون وأرسطو للشعر وهي نفسها نظرة القرآن للشعر، فالشعر بنظر فلاسفة اليونان هو تقليد لحقائق الوجود وهو تقليد التقليد والحاكم في جمهورية أفلاطون هو الفيلسوف، أما الشاعر ففي أسفل الجمهورية الفاضلة، وفي القرآن "الشعراء يتبعهم الغاوون" و"ألم ترَ أنهم في كلّ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون" و"وما علّمناه الشعر وما ينبغي له"؛ إذًا ثمّة اشكالية يطرحها هنا شمس الدين فالمتكلّم في النبي هو الله أما المتكلّم في الشعر فهو الشيطان. ويذكر المؤرّخون أن النبي محمد عفا عن الشاعر حسان بن ثابت حين امتدحه بقصيدة، ولم يعد وهج الشعر إلا في زمن الأمويين على يد الفرزدق والأخطل وجرير ولم تعد المصالحة بين القرآن والشعر إلا على يد المتصوّف محي الدين بن عربي (560-638 هـ) الذي قال بأن الشاعر هو قرين الخالق في الإبداع، ويُسأل لماذا، فيجيب: لأنه بالخيال يوجد الشاعر ما ليس موجودًا وهذا هو معنى الخلق. ويرى شمس الدين أن ابن عربي سبق هايدغر وكانط في الكشف عن دور المخيلة، وأنه من غير البعيد أن يكون هايدغر قد تأثّر بالنص الصوفي الإسلامي وهو يتماهى في بعض مقولاته مع مقولات المتصوّفة كما لا يُخفى هذا الأثر في أشعار غوته وريلكه وهولدرلين. ويقرأ شمس الدين أهمية أشعار الصوفية بأنها تتمثّل في الانتباه لأبعاد اللغة الرامزة في القرآن باعتباره مستودع الغيب الذي منه ينطلق الشعر وإليه ينتهي، ويستحضر شذرات فلسفية لأعمى المعرّة: "أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما/ دياناتكم مكر من القدماء/ فلا تحسب مقال الرسل حقًا/ ولكن قول زور سطّروه"، المعرّي الذي انتقد الحجّ والوحي وآمن بالعقل يقول أيضًا: "في كل جيل أباطيل يُدان بها/ فهل تفرّد يومًا بالهدى جيل". 




علامات التحوّل الشعري عربيًا
مع عصور الحداثة وبعدها
ماذا عن علامات التحوّل الشعري عربيًا مع عصور الحداثة وبعدها؟ يعتبر صاحب "اليأس من الوردة" أن الحراثة الفلسفية في الشعر العربي الحديث تكاد تكون كالحراثة في أرض بور رغم خضوع الشعر العربي الحديث لتأثيرات غربية ولنظرات فلسفية تجلّت في مدارس كالوجودية والبنيوية والتفكيكية والسريالية وغيرها ورغم وجود بروق فلسفية مع صلاح عبد الصبور: "إن كنت حكيمًا نبّئني كيف أُجنّ/ كي ألمس نبض الكون المجنون"، وعبد الوهاب البياتي: "عائشة ليست هنا/ ليس هنا أحد/ فزورق الأبد/ مضى غدًا/ مضى ولم يعد". ومن هنا ينتقل صاحب "حلقات العزلة" إلى "موت الشعر" الذي انطلق فلسفيًا مع هيغل ثم توالت قداديس للفنون التي سبقت اللحظة الأخيرة المشوّهة للشعر والفن، "إنها ثمار ما بعد الحداثة في التفكيك والتعفّن في اللوحة والقصيدة والمسرح والموسيقى كأن الحضارة بعد أن تبلغ الذروة تنكفئ إلى نفاياتها فإذا كان شعر فلماذا لا يكون "لا شعر" وإذا كان فن فلماذا لا يكون "لا فن"".
يفرد الشاعر شمس الدين ثلاثة فصول لشاعر "الأرض اليباب" الشاعر الأميركي ت. س. إليوت (1888-1965)، يقارن "الزمن" فيه بـ"زمن" ابن عربي، فالزمن عند ابن عربي هو زمان آفاقي وزمان أنفسي وهو مشتقّ من إحدى الآيات القرآنية عن الزمن التي يصل عددها إلى أربعماية آية: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم"، ويعرّف ابن عربي الزمان الآفاقي ببدء حركة الأفلاك وتعداد أوقاتها أما الزمان الأنفسي فهو "عبارة عن مقادير الله". أما الزمن عند إليوت "الخطير والمؤثّر والشاسع" فيتدرّج من خلال الرباعيات من زمن الساعة إلى الزمن النفسي إلى الزمن التاريخي وينتهي بالزمن العظيم الذي هو الزمن الصوفي للشاعر. زمن الساعة لدى إليوت هو زمن العيش اليومي "ليالٍ قلقة في فنادق رخيصة لليلة واحدة"، أما الزمن النفسي فهو زمن وسيط برأي شمس الدين بين زمن الساعة والزمن التاريخي، وهو يقترب مما أشار إليه بيرغسون من "نقل الوظيفة من الماضي إلى الحاضر"، وفي الزمن النفسي عناصر من جدود وقومية وحياة عائلية ومهنية وهو زمن ذاتي أما الزمن التاريخي فهو آثار الدين والحضارة والجدود في نفس الشاعر وحيث يستعيد فيه إليوت فلسفة هيرقليطس: "ماء ميت ورجل ميت/ يتنافسان على السيطرة/ الماء والنار ينجحان/ والمدينة والكلأ والعشب الضارّ" ويقول هيرقليطس: "النار تعيش بموت الهواء/ ويعيش الهواء بموت النار/ ويعيش الماء بموت الأرض/ وتعيش الأرض بموت الماء"، ويعلو أيضًا نشيد الأضداد: "في بدايتي تكمن نهايتي".



"الأرض اليباب"
يصف شمس الدين قصيدة "الأرض الخراب/ اليباب" لإليوت بأنها أكبر وأشمل قصيدة مركّبة ظهرت في القرن العشرين، وهي قصيدة قلقة، غير يقينية، لولبية، ومرتدّة على ذاتها وفي ذاتها مثل قصائد إليوت الأخرى، ويقارن شمس الدين بين ترجمة عبد الواحد لؤلؤة وماهر شفيق فريد ومحمد عبد السلام منصور لهذه القصيدة معتبرًا أنه يميل تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، حيث تضعف الترجمة حين يضطّر المترجم لاستخدام الإيقاع المنتظم بالتفعيلة فتتعب القصيدة أحيانًا لكن في أحيان أخرى لا نشعر بعبئها بسبب براعة المترجم. وهنا يتساءل الشاعر "هل كان ت. س. إليوت ضرورة من ضرورات الحداثة الشعرية؟"، إن إليوت مضافًا إلى ويتمان وأراغون وإيلوار وآخرين هم جزء من الحداثة الشعرية العربية، وإن التحليل النصّي للشعراء العرب سوف يُظهر بشكل ملموس أثر هؤلاء، ويندر أن يُذكر اسم شاعر عربي حديث من جيل المؤسّسين خاصة ولا يُذكر خلفه اسم شاعر من شعراء الفرنسية أو الإنكليزية أو الإسبانية يجلس في خلفية المعنى المؤسّس للشعر أو النظرة للعالم أو التقنية الأسلوبية. إن أديت ستويل ستُذكر عند ذكر بدر شاكر السيّاب، وسان جورج بيرس عند ذكر أدونيس، وعزرا باوند مقترنًا بيوسف الخال، وأنتونان أرتو مقترنًا بأنسي الحاج، أما إليوت ولوركا فيخيّمان على عدد واسع من الشعراء، لكن "الأثر المتبادل بين الشعر العربي والشعر الأجنبي لم يكن متساويًا.. صحيح أن بصمات مؤكدة للشعر العربي في الأندلس على شعر لوركا وأن قيس بن الملوّح ترك أثره في شعر أراغون إلا أن العولمة الشعرية لم تكن متوازية".



ريلكـه
ثلاثة فصول أخرى يحكي فيها باحثنا عن صاحب "رسائل إلى شاعر ناشئ". يقول شمس الدين إن فلسفة الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875-1927) هي فلسفة الكنه والمعنى والأعماق وإنه شاعر الباطن بامتياز. هذه الرسائل التي كتبها ريلكه كانت موجّهة إلى الشاعر الشاب فرانز كرافر كابوس، الذي يكتب الشعر ولا يعرف إذا كان ما يكتبه هو حقًا شعر وقد توقف فيما بعد عن كتابة الشعر. يقول له ريلكه: "إن ثمة شيئًا واحدًا ضروريًا هو الوحدة الداخلية الكبرى، إن الحوادث الداخلية تستحق كل حبك، وإذا ابتعدت عن الناس فليس ذلك مدعاة للحزن والريبة فثمّة نداء للاقتراب من الأشياء.. أسلم نفسك في كل ما هو صعب إلى وحدتك واترك الحياة تفعل فعلها مع الباقي". إنها رسائل أبعد من الشعر، إنها فلسفة الشعر. في "مراثي دوينو" تظهر مسيحية ريلكه الملتصقة بتأملاته الحزينة وبالموت والغيب، ويكتب شمس الدين: "المراثي هي أناشيد الكائن للعدم، بل هي مدائح للموت المتغلغل في مفاصل الموجودات، بل لعل الموت هو الحقيقة في المطلق، أفي هذه الفكرة أساس للوجودية؟ إن غصّة ريلكه في أشعاره هي غصّة ميتافيزيكية، لو كان الشاعر وجوديًا لكانت له غصّة أخرى، مشكلته الأساس الديني لاحساسه". وقد أتبع ريلكه مراثيه بـ"أغنيات إلى أورفيوس" ليشكّل الموت جميع مراثيه وأفكاره تجاه الحياة "قصائد ريلكه شبيهة بأبخرة متصاعدة من قدر هي قدر الموت.. الموت في أشعار ريلكه حقيقة جاهزة أبدًا، ينتقل فيها الشاعر من المرئي إلى اللامرئي ومن العابر إلى السرمدي.. شعره يصبّ في الغيب، ميتافيزيك الكائن، أشعاره تنتمي لصوفية الكائنات أكثر مما هي رومانسية أو وجودية بالمعنى المادي الفلسفي للوجودية".
ينتقل بعدها شاعرنا إلى ضفاف الفرنكفونية فيذهب نحو وجه صلاح ستيتية (1929-2020) ونحو شعره، فيكتب "كان له وجه هندسي أقرب ما يكون لدمية، وشعر ستيتية أقرب ما يكون للمنحوتات تلك التي تنحت التجريد في الحجر، شعر ستيتية هو شعر هندسي بنسب دقيقة، مبني بناءً عجيبًا من تجريد التجريد وهو نحت في الضوء وفي المعنى: ضوء معتم/ ضوء غير مضاء/ ممتصّ بكثافة الجسم/ على طريق أعمى". يقدّم شمس الدين لنا قراءة نقدية نصية ذاتية متداخلة لنصوص ستيتية "هذه المقاطع تقدّم مساعدة للاقتراب منها من حيث صعوبة بل استحالة الضوء الملقى على الأشياء للانتباه لها.. إن اللغة تحاول أن تساعد نفسها بنفسها، وتتقدّم كأعمى يتّكئ على أعمى، تستعاد، ترتجف، تدور حول نفسها، تقول الشيء ونقيضه".



ويكمل حراثته في أرض الشعر والفلسفة فيطرح إشكالية "نهاية القصيدة" وهي عنوان مقالة للباحث جيورجيو أغامبن الذي يقول: "الشعر لا يحيا إلا في التوتر وفي الفارق بين الصوت والمعنى"، ثم يستدعي بول فاليري: "القصيدة تردّد مطوّل بين الصوت والمعنى" فإذا انتهى هذا التوتّر والتردّد انتهت القصيدة. هذه المقالة ولّدت ردًّا نقيضًا لها من الباحث ليوبلد بيترز بمقالة تحمل العنوان نفسه. يدوّن شمس الدين ملاحظاته على المقالتين ويقول إن ذلك يبدو وكأنه حقل تناطح ألسني حول الشعرية. يرى شمس الدين أن أغامبن قدّم تصوّرات نظرية ألسنية في الشعر والشعرية والفارق بين الشعر والنثر أكثر ممّا ركّز على نهاية القصيدة، والشعر بالنسبة لأغامبن "هو صوت يبحث عن معناه حتى إذا عثر عليه وقع فيه وانتهى الأمر، ومات، أي مات الصوت في المعنى، وكأن الشعر كائن يبحث عن دماره، ودور الناقد هو تحليل حطام القصيدة، إذ أن كل قصيدة آيلة لأن تتحطم.. وينتهي أغامبن إلى نهاية غريبة من سقوط الصوت مضرّجًا بدمائه في براثن المعنى لكي ينتثر، يتحوّل إلى نثر ويموت". أما بيترز فيتهمّ أغامبن بالانبهار بالهوّة ويراه شمس الدين حائرًا بين الصوت والمعنى مع ميل بضرورة سياق الخلاف نحو الصوت فيما هو معنى والمعنى فيما هو صوت، وما دام موجودًا هذا الحلول للمعنى في الصوت وبالعكس فهناك الشعر فإذا انفصل الصوت عن المعنى يموت الشعر.. ويرى بيترز أن أغامبن ينظّم موكبًا جنائزيًا للشعر، لأن الشعر لا نهاية له بموت أو سقوط في الحفرة فهو أصلي على الدوام.. ثم يدعو للأمل.



بين الشعر والنثر عربيًا
عربيًا يعتبر صاحب "منازل النرد" أن هناك برزخًا بين الشعر والنثر في العربية على الرغم من أن النظرية البلاغية طالت الفنّين إلا أنها بقيت أمينة على اعتبار الشعر خصيصة الوزن الذي هو عبقرية العرب وفلسفتهم على التاريخ كما يقول الجاحظ، وهو موسيقاها وإيقاعها الذي تستحيل ترجمته للّغات الأخرى. إن هذه الثنائية شعر/ نثر يعيدها المحدّثون حتى في الغرب إلى الواجهة، من بينهم الذين أسّسوا المدارس الحداثية الأساسية في الشعر حتى أن إليوت يقول: "وراء أكثر الشعر تحرّرًا يجب أن يكمن شبح وزن بسيط إذا غفونا برز نحونا متوعّدًا وإذا صحونا غفا". يختم شمس الدين حديثه عن هذه الجدلية: "علينا أن ننتبه إلى أن الوزن هو جزء محدود من الإيقاع الذي هو روح الشعر".
سوف ينتقل شمس الدين إلى تحليل المثنى الذي تقوم عليه أغلب القصائد العربية، يقول امرؤ القيس: "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ/ بسقط اللوى بين الدخول وحوملِ"، ويقول المتنبي: "يا ساقيّي أخمرٌ في كؤوسكما/ أم في كؤوسكما همّ وتسهيدُ"، ويقول المعرّي: "علّلاني فإن بيض الأماني/ فنيت والظلام ليس بفان"". وكذلك في القرآن: "فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان"، "رب المشرقين ورب المغربين"، "ولمن خاف مقام ربّه جنّتان" إلى غيرها من القصائد والآيات، فما هو سرّ الاثنين في الخطاب العربي؟ يرى شمس الدين أن الخطاب العربي بالمثنّى في الشعر والقرآن هو خطاب جمالي محض، فخطاب الواحد قليل وخطاب الواحد للكثرة كثير، فليس أجمل من الاثنين، ويرى أن القصيدة التي يتجلّى فيها جمال المثنّى بأبهى صورة هي مرثية مالك بن الريب لنفسه وهو يحتضر: "فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا/ برابية إني مقيم لياليا/ أقيما عليّ اليوم أو بعد ليلة/ ولا تعجلاني قد تبيّن ما بيا"..

دراسات نقدية
يذهب شاعرنا نحو الدراسات النقدية لعدد من الكتب؛ يبدأ بكتاب "المعرّي ذلك المجهول" للباحث عبد الله العلايلي فيثير موضوع تمدّد اللغة العربية عاموديًا فيما تتمدّد اللغات الآرية أفقيًا، وأنه في مجال التطوّر الصوتي للّغة العربية كانت تنتهي دائمًا بمتحرّك، وأن عين الفعل في العربية كانت سماعية وأن اللغة كالكائن الحيّ تعتريها تطورات. ثم يستكمل شمس الدين قراءة كتاب العلايلي الذي رسم التباسات المعرّي النفسية وقرأه قراءة عرفانية لغوية وليس قراءة معجمية ساذجة بتعبير شمس الدين "إنه عقل غامض يتقصّد الغموض: إذا قلت المحال رفعت صوتي/ وإن قلت اليقين أطلت همسي.. أما اليقين فلا يقين وإنما/ أقصى اجتهادي أن أُظنّ وأحدسا". يقول العلايلي: "النقد القاموسي لهذا الفيلسوف نقد عاجز، والنقد الشهوي له نقد فاسد".









وبعدها سينتقل شاعرنا إلى قراءة كتاب "ما بعد الحداثة والفنون الأدائية" للباحث نك كاي، يحكي فيه كيف كسرت ما بعد الحداثة قداسة الحداثة، وكأن الحداثة ديانة وما بعد الحداثة خرق وتخريب لهذه الحداثة، فمشروع ما بعد الحداثة غير ثابت حتى كأنه مشروع قيد الإنجاز ويدمّر فكرة استقلالية أي عمل فني واكتماله سواء في المسرح أو التشكيل أو النحت. يحكي شمس الدين عن "هارمونية النشاز" في ما بعد الحداثة، فالناقد المعماري تشارلز جينكس يشير في كتابه "ما بعد الحداثة الكلاسيكية الجديدة في الفن والعمارة" إلى عنصري التشظّي والتناثر والتنافر في عمارة ما بعد الحداثة. كما أن الفنانة الأميركية جون جوناس اشتهرت بعملها المسرحي "رأسًا على عقب وإلى الوراء" وهو مؤلّف من كولّاج من الخيوط السردية القديمة والجديدة وتنتهي بخلطة مسرحية أساسها إفقاد المنطق والنص برأي شمس الدين.
ثم يقرأ لنا شمس الدين نقديًا كتاب "تشميل ما بعد الحداثة/ الفلسفة الصنعة/ الآلة المفكّرة/ المعلوماتية/ الذكاء الاصطناعي" للكاتب سامي أدهم معتبرًا أنه كتاب نادر وخطير في الثقافة العربية المعاصرة الغارقة في سلفية استعادية أو حداثة مقنّعة أو بما يجعل منها ثقافة تملّق للسلطة السياسية أو الدينية أو المالية الحاكمة. وأهم ما يطرحه أدهم في كتابه هو نظريات فلاسفة وعلماء علوم ما بعد الحداثة معلنًا موت الإنسان القديم وولادة "اللاإنسان"، وسينقلب الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذًا أنا موجود" الذي يتمحور فيه الأنا المفكّرة بالداخل، أما الكوجيتو الجديد فإن الأنا فيه ليست داخلية بل هي أنا صنعية متحيّزة وآلية.



شذرات فنية وموسيقية
لا يريد شمس الدين أن ينهي كتابه دون شذرات فنية وموسيقية، فيذهب إلى "الليل" في لوحات بعض التشكيليين الغربيين ويقارن بين خطوط وألوان ديلاكروا، روسو، رامبرنت، غوغان، ماكس أرنس، سلفادور دالي، كاندينسكي، خوان ميرو، رينيه ماغاريت والرسام الياباتي ذاووكي. ثم ينتقل إلى لوحة الفنان حسن الجوني التي رسم فيها حديقة منزل شمس الدين. ويرى شمس الدين أن الجوني يقف بين ليل ديلاكروا و"إعدام في الليل" لـ غويا وبين ليل الآخرين وأن في لوحات الجوني لطف الشعر ودفء الجسد وغموض الأزرق والكوبالت وكأنه داخل في أمواج النشوة اللونية.
لماذا اختار شمس الدين لوحات حسن الجوني؟ لقد أرفق الفنان عددًا من لوحاته بأشعار شمس الدين في تماه وتداخل فني شعري نادر بين اللوحة والقصيدة. ويريد المؤلف أن يخبرنا عن الشعر من داخل اللوحة ومن داخل اللون، فهو يروح ويجيء حول الشعر.
يختار شمس الدين بعدها منحوتات سلوى روضة شقير ليحكي عنها: "في أعمال هذه النحاتة شعر تجريد، قصيدة بلا قصد، ترغب في تكعيب التكعيب.. ثمّة مراحل تسمّيها شقير "مرحلة الأبيات الشعرية" فقد قامت بعمل وحدات هندسية متنوعة ومنفصلة من الخشب والألمنيوم والفخار وهي بمثابة التفعيلات في الوزن العروضي الخليل".
أما موسيقيًا فيقرأ لنا شمس الدين من كتاب "أسرار الموسيقى" للكاتب علي الشوك الذي يقسّم تطور الموسيقى من "ما قبل الحداثة" وموسيقى "الحداثة" و"موسيقى ما بعد الحداثة" ويحكي عن الأبعاد التحرّرية وتنافر الأصوات والشطح في موسيقى ما بعد الحداثة.
وينهي شاعرنا كتابه بـ"قدّاس جنائزي للروح" وهو عنوان مقال للكاتب بوب هولمز يدور حول البرنامج الموسيقي في الحاسوب المسمّى "إيمي" الذي أعدّه وصوّره موسيقي يدعى دايفيد كوب استطاع أن ينتج سمفونية جديدة لموزارت عبر تلقيم الحاسوب ما سمّي بجوهر موزارت فظهرت كأنها لمؤلف موسيقي يقلّد موزارت لكنها فاقدة الروح..
لماذا يطرح قضية الموسيقى الصنعية جيدة التقليد؟ بنظر شمس الدين يمكن مدّ تجربة برنامج "إيمي" في الموسيقى الصنعية إلى برامج أخرى في الرسم الصنعي والشعر الصنعي والفكر الصنعي والفلسفة الصنعية، إنها حداثية ثورة المعلوماتية والاستنساخ. ويُطرح هنا السؤال الميتافيزيكي حول كيفية التحوّلات ومعناها "من هنا نقطة عبور الشعر إلى الميتافيزيك.. حين يطرح المفكّر أسئلته على العلوم ينبثق الميتافيزيك وينبثق الشعر والدين والسحر والأسطورة وتهتز الثنائيات القديمة الصارمة في اتجاه فكرة الاحتمال وقضية الممكن بين الصفر وواحد. إنه الوصول إلى المنطق الضبابي الذي تمّ على حطام المنطق الأرسطي والصوري والديكارتي ونهض مع التفكيك. من خلال المنطق الضبابي يذهب العاملون داخل الكومبيوتر إلى عمليات التوهيم التي تلجأ إلى الخيال واحتمالاته. من هذا المعبر الغامض بالذات يتم مرور الشعر والموسيقى ومرور كل ما تعجز المادة عن تفسيره. من هنا أيضًا تعبر الروح". 
يرسم لنا الشاعر محمد علي شمس الدين في شذراته ونظراته ودراساته خريطة كاملة عن الشعر من حيث هو الأصل الذي أضاء عتمة الإنسان الأول ومنحه الخيال وطمأنينة المكان ولم يفترق عنه رغم الحديث عن موته. ويريد أن يقول لنا باختصار إن الشعر موجود كنبتة محفورة في الباطن، وإنه يظهر ليس في ذاته فقط بل في الرسم والنحت وفي الموسيقى وفي كل ما يتقدّم نحونا كضوء، إنه موجود في تلك الأمكنة التي تنادينا لنشوتها من وقت لآخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.