}
عروض

"فضاء السجن في الرواية العربية".. السياسة بمعزل عن الأخلاق

عماد الدين موسى

29 نوفمبر 2021


أنظمةٌ استبدادية تمتلك عبقرية البطش وجبروت الغباء، فتعتقل وتنكل بمعارضيها، ومن ثم تفلسف وتشرعن استبدادها بالبشر. من هذا الوعي تأتي دراسة الباحثة الأردنية، جمانة صوان، في كتابها الجديد "فضاء السجن في الرواية العربية"، الصادر حديثًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عَمَّان، فتضعنا أمام خريطة توضح فيها مسار بحثها عادَّة أنَّ "أدب السجون" هو كل أدب يتناول السجن كقضية رئيسة، ويكون السجن هو فضاء العمل المكاني، وقد يكون خارجه، لكننا نجد بقية عناصر العمل الأدبي ترتبط بالسجن بطرف ما. وقد يتطرق العمل إلى مواضيع عديدة من عالم السجن، أو لموضوع واحد يسلط من خلاله الكاتب الضوء عليه من دون غيره، ويكثفه، ولا يشترط أن يكون الكاتب قد خاض تجربة السجن بنفسه، فقد يكتب عنها دون خوضها. كما ترى أن أدب الأسرى يندرج تحت أدب السجون، ويكتبه فقط من خاض تجربة الأسر. وهنالك من يحصره في أسرى سجون الاحتلال، على عكس أدب السجون، إذ يشمل أدب السجون ما كتب داخل السجن، أو خارجه، على أن يكون السجن هو فضاء هذا النص.
الكتاب جاء في ثلاثة فصول: الأول بعنوان: السجن السياسي، فيما الثاني كان بعنوان: البطل السجين وإشكالية الأنا والآخر، بينما تعرضت المؤلفة في الفصل الثالث للبناء الفني في روايات السجون، مثل المكان، الزمان. ومن الروايات التي تناولتها الباحثة: "سمر الليالي" لنبيل سليمان، و"القلعة الخامسة" لفاضل العزاوي، و"شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف، و"القط الذي علمني الطيران" لهاشم غرايبة، و"القوقعة" لمصطفى خليفة، و"الساحات" لسالم النحاس، و"الأرجوحة" لمحمد الماغوط، و"إعجام" لسنان أنطون، و"يوميات كاتم صوت" لمؤنس الرزاز، و"جوانتنامو" ليوسف زيدان، و"سبعة أبواب" لعبد الكريم غلاب، و"العشاق" لرشاد أبو شاور، و"الزنزانة رقم 7" لفاضل يونس، و"الشرنقة" لحسيبة عبد الرحمن، و"تجليات الشيخ جدي" لمي الحافظ، و"مذكرات في سجن النساء" لنوال السعداوي، و"خمس دقائق فحسب" لهبة الدباغ، و"تحت شمس الضحى" لإبراهيم نصر الله، و"إسماعيل" لأحمد حرب.




في هذه الروايات، وغيرها، تؤكد المؤلفة أن المستبد الذي يحكمنا عنده ما يبرر ترهيبه لأصحاب الرأي المُعارض، لذا فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، ولأن السياسة في معزل عن الأخلاق والدين، فالمفارقة في شخصية رجال السلطة تبدو ساخرة لأبعد حد، فالسجن الصحراوي الذي يلاقي فيه السجناء أبشع ما يكون من صنوف الإهانات والتعذيب والاغتصاب، كُتب على بابه "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"، والآية هنا كتبت خطأ، أو كان هذا الخطأ متعمدًا ذا دلالة، يختلف فيه معنى الآية اختلافًا تامًا، ليناسب فكر السلطات المستبدة. وهذا يؤكد الفكرة بأن السجن على وشك أن يكون قدر كل فرد، فلكل إنسان في حياته قصاص. وحتى لو كانت الآية قد كتبت على النحو الصحيح، فهي بالتأكيد ستتناقض مع ما يفعله مثل هذا السجن في نفس الإنسان، إذ لا حياة بعده.
وترى المؤلفة أن سجين رواية "القوقعة" مثال آخر على هذا التناقض، فعندما يخبر المحقق بأنه ملحد، وليس مسلمًا، قال له المحقق باستهجان: (قال ملحد.. قال! إي بس نحن دولة إسلامية، أيوب كمِّل شغلك! وعادت خيزرانة أيوب تواصل عملها).
ليست خطيئة، ولكنه الفعل المأساوي الذي يجرم البريء، فيضطر البريء ليسري عن ذاته جور المستبد فيستدعي صورًا خيالية لشخصية المرأة، المرأة التي تمنحه الإحساس بالوجود، وهو استدعاء قصدي. فالمرأة كما ترى المؤلفة هي مصدر من مصادر تعلق السجين بالوجود، وذلك أن السجين الذي يعاني القلق والعدم والغربة، يلتمس العزاء بوجود المرأة والعلاقة معها، والسجن يشعره بالفناء، لذلك يلجأ إلى المرأة التي تنسيه هذا الإحساس، فنجده يحس بالفرح إذا ما كانت المرأة قريبة منه، ويشعر بالحسرة، والألم الدفين في حال ابتعادها عنه، كما حدث لمعظم أبطال الروايات، سواءً أكانت زوجة، أو أمًّا، أو محبوبة. ولتحرير (الأنا) من نطاق الحاضر المرتبط بالمعاناة، ومن الانحدار في مجال الموت، والاسترخاء في وعائه المظلم، تنبثق صورة الطيف محاولة بث الإحساس بالحياة داخل الأنا، ومعيدة بناء الذات الممزقة، فالطيف بهذا يحمل بذور الحياة وسط تربة الموت "الليل"، وكثيرًا ما يستدعي وينادي هذا الطيف في لا وعيه كي يخلصه من ألم الحاضر إلى عالم أرحب. وظهرت المرأة في عالم السجين بصور عديدة أهمها: السجينة، والأم، والحبيبة، والزوجة، والسجانة، حيثُ تأخذ المؤلفة على المجتمع العربي عدم تقبله المرأة التي تخرج من السجن، فهذه شهد في رواية "سمر الليالي" لنبيل سليمان تُغلق كل الأبواب في وجهها، ويبتعد عنها الكل، وتقول لها رواد: ابعدي عني. أنا الآن أستعد للزواج، وإذا سرقت مني زوجي مرة ثانية، أقتلك. ويرفض الأستاذ عبد الحكيم أن يستضيفها بعد أن فقدت بيتها أيضًا، فقد أصبح متزوجًا. واعتذر متعجلًا إنهاء الاتصال.




لكنْ، في روايات بدت المرأة (الأم) ذات صفة ملائكية، وأنها مصدر للقوة والحرص والحنان، وقد كانت في: "شرق المتوسط"، و"الساحات"، و"الأرجوحة"، رمز البسالة والتضحية والمقاومة، فالسجين رجب كان يستمد قوته من أمه التي ظلت حتى آخر يوم تحرضه على الصمود وعدم الاعتراف والتوقيع، الأم هنا تتحكَّم به، وتوجه مسار حياته، لذلك نجده عند وفاتها يفقد مصدر قوته، ويخضع لإدارة السجن، فيعترف، ويوقع.
الباحثة جمانة صوان، وفي فنيات الرواية موضوع الدراسة، تتتبَّع عجز السجين والخوف الجارف الذي يدفعه إلى التفكير في الموت باعتباره إنسانًا مقيدًا، إنسانًا ضحية، فتقف عند الزمن الذي يسوده التوتر ما بين السجين والسجان، الزمن الذي يشغل حيِّزًا مكانيًا. فالمكان في رأيها أبعد من أن يكون محايدًا، بل هو الفاعل والمؤثر في الشخصيات، ويتخذ المكان معاني متعددة إلى درجة أن يكون أحيانًا علة وجود بعض الروايات، لا سيما الروايات موضوع الدراسة، إذ سلطت عليه الأضواء ولم تفارقه على مدى الاتساع السردي، وتشير إلى أن كثيرًا ممَّن كتبوا هذا النوع الأدبي لم يكونوا أدباء قبل ذلك، لكن تجربة السجن أخرجت هذا النتاج، ولا يمكن تبعًا لما سبق تجاهل الوظيفة المكانية، فالمكان في رواية السجون هو بؤرة النص ولُبُّه، لذلك جاءت أسماء الروايات دالة على المكان أكثر من غيره: "سبعة أبواب"، "شرق المتوسط"، "زنزانة رقم 7"، "جوانتنامو"... إلخ، إذ كان المكان هو البطل. أما عندما تغلَّب السجين على سجنه، فقد جاء اسم الرواية مختلفًا: القط الذي علمني الطيران.




أما الأماكن الأخرى في عالم السجين فلا يقل دورها عن السجن في التأثير على حياة السجين، إذ لا تقتصر على السجين بالمكان متمثلًا بالسجن، بل تربطه علاقة بالمكان الأليف الذي عاش فيه قبل دخوله السجن، ويتمثل المكان على شكل ذاكرة مكانية يعيشها السجين داخل السجن، ويشتاق لهذا المكان، ويتوق إليه، ويستحضره بين الحين والآخر. وتشير المؤلفة إلى أن السجن بالنسبة للمجرمين هو مكان للإصلاح، في حين يكون السجن السياسي مكانًا لإرضاخ السجين وإذلاله، وإعادته إلى الحظيرة. كل ذلك يجعل السجن يتحول من مدرك حسيِّ إلى مُدرك نفسي، وإن كانت العلاقة الشخصية بالمكان يمكن أن تكون ذات دلالة سلبية؛ "المكان المُعادي" الذي يحمل سطوة وضيقًا. كما يرتبط السجن من حيث هو مكان مُعاد بمفهوم الحرية إبان مصادرتها، وبقدر ما يبعث البيت الإحساس بالراحة والخوف، يبعث السجن الإحساس بالخوف والضيق والكآبة. كما أن السجن سيتحول بعد خروج السجين إلى مكان نفسي وكابوس يطارد السجين بعد تحرره، فيشعر بأنه لم يخرج منه، بل يظل مُحاطًا بأسواره العالية.
وتأخذ المؤلفة على الروايات أن السرد في معظمها كان سردًا نمطيًا، ولأن المكان غالبًا في هذا النوع الروائي هو مكان واحد، فلا بد من الخروج من قيده، ولأن الزمن لا محدود ورتيب، فلا بد من كسر رتابته. وتخلص الكاتبة من بحثها إلى عدة توصيات، منها أن عالم السجن عالم واسع، وهنالك متسع للدراسة والتوسع فيه أكثر، فاللغة في أدب السجن ما زالت في حاجة إلى الدراسة، وكذلك صورة المرأة في السجن، وموقف السجين من التراث الديني والاجتماعي، لذا لا بد من مواصلة البحث والدراسة في هذا المقام، وإيفائه حقه من الاهتمام والعناية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.