}
عروض

"مثل رحلةٍ لن تنتهي".. نصوصٌ بين الحلمِ والحياة

رشيد الخديري

3 ديسمبر 2021

 



ظلّت القصيدة المغربية منذ جيلها المؤسّس إلى مُقترحات الحساسية الجديدة في مطلع التسعينيات، وفيّة لإشراقاتها وخصوصيّاتها، حيثُ يمكن القول إنّها، في معظمها، تتأتّى من فيض معرفة وأسئلة كبرى وتّخييلات عميقة للإبداع الإنسانيّ. إن الرّهان على الاستمراريّة في الكتابةِ الشَّعريّة كفعلٍ محايثٍ ومساعد على ترسيخ قيم الشعر الكونيّة، هو الملاذ الآمن للشعريّة المغربية وعُبوراتها في المعنى واللغة والتّخييل، ورغم التّحولات الجذريّة التي مسّت الشكل والمضمون وعمليّة بناء والمعنى والفاعليّة الشعريّة، إلا أنّها ظلّت مرتهنة في أفقها التخييلي إلى الكتابة في معناها الكونيّ، ولا نجد غضاضةً في التّشديد على أهميّة المنجز الشعري المغربي في مختلف محطّاته وأجياله وحساسياته، ولأنّها شعريّة جديرةٌ بالتّأمّل والاهتمام والمتابعة النقدية، كنوعٍ من التّحفيز على الكتابة ومواصلة البحث عن منافذ للتخييل وفرز الأصوات الشعرية وضعها تحت المنظار، فإن ذلك يعني - من جهةٍ ثانيةٍ- الاحتفاء بهذا المنجز الغنيّ الخلاق، والإنصات إلى ما يُحقِّقُه من جماليات نصيّة ما فتئت تستجيبُ للدفق الشعريّ في كلِّ فُتوحاته وتخييلاته.

وفق هذا المنظور، فإن ما يُطالعنا من تجارب شعريّة جديدة، تتعيّن بوصفها تجارب في الكتابة والحلم والحياة، وتنضاف إلى وعد الشعر المغربي، بما تنطوي عليه من كشوفات خلاّقة. تأتي المجموعة الشعرية "مثل رحلةٍ لن تنتهي" للشاعر المغربي عبد الحق وفاق (منشورات مركز تعايش للسلم والتنمية والتبادل الثقافي، ط 1، 2020)، للتأكيد على هذه السيرورة والانحياز إلى جماليات القصيدة في شكلها الجديد، كما أن القصيدة لدى وفاق لها خصوصيات تميّزها عن غيرها من التّجارب الشعريّة، رغم الانتماء إلى الموجة الشعريّة ذاتها، إلا أنّه من الطبيعيّ، أن تقوم كلّ تجربةٍ كتابيّة على خصوصيّة معيّنة، ولعلّ من خصوصيّات هذه التّجربة الشعريّة هو ارتكازها في المقام الأوّل على "شعريّة الوجع وتشظي الذَّات"، حيث نلمسُ اشتغالًا واضحًا على هذه الموضوعة في كلّ النصوص تقريبًا، لنقلْ إنّه اشتغال على فاعليّة التّخييل والزّخم الشعري في مسعى إلى الإقامة في الشعر.. في أسئلته ومداراته العميقة واللاهبة في الآن نفسه.

إن هذا التّضام الحميميّ والتّماهي مع انشطاريّة الذات انسجامًا مع الرؤية الأورفيّة التي تتذرّى بين ثنايا النّصوص، ثم تتبدّى كنوعٍ من الكشوفات والمكاشفات الشعريّة/ الإشراقيّة، مما يُسهم في خلق وصياغة لحظةٍ شعريةٍ ممهورةٍ بالدفق الشعريّ/ الشُّعوريّ المتراحب، وعليه، تصير القصيدة عند الشاعر نوعًا من الاشتباك بين الرؤى والتّجربة الذاتيّة. هي لحظة الكتابة بامتياز، ومكرمةً أن يكتب عبد الحق بهذا الزّخم الشعريّ، وبهذا الارتهان إلى أفق كتابيّ/ تخييلي منذور للآلام والوجع، فهو "مثل قمر ساهرٍ/ عُلّقتْ زرقته/ فما عاد يُلهمُ العاشقين/ مثل قصيدةٍ/ اغتيل شاعرها/ فأضحتْ رجعًا/ تبكي الكلمات.."، إنّه نداء الكينونة.. حيث فعل الإدهاش وسؤال الشعر، هما يخترقان وجدان الشاعر، يسكنان فيه ويتوحدان مع تصوّراته وأحلامه ورؤاه.

أفق هذه التّجربة الشعرية هو ممارسة الكتابة ولا شيء غير فعل الكتابة، وكأن جوهر الإنسان لا يكتمل ولا يتحقق إلا عن طريق الكتابة والارتقاء إلى مقامات اللانهائي. نصوص "مثل رحلة لن تنتهي"، هي نصوص عائمة في لجّة الكلمات، حيث الامتثال إلى نبض الكينونة وتخييلات الذات، وما تبقى من تفاصيل، سيروي الليل بعضًا منها، فـ"الوقتُ مساءً/ والهمسُ ثالثُ الاثنين/ وأنتِ في حضرة الصمتِ/ تمسحين الصدرَ الناتئ/ بأطرافِ الأنامل/ تُعدين على عجلٍ بساط الانشطار/ الأحمر قاني في شفتيك/ واللون كرزيّ في وجنتيك/ جانب شاغر من السرير/ يُناجي صائدًا في بريتك..."، وهكذا، فهذه الحوارات المُدهشة مع الذّات والآخر، الصّمت وحديث الشفاه، ليستْ جوهرُ الكتابة فقط، وإنّما هي أيضًا نداءات خفيّة وموسيقى تعزفها الروح في عُزلتها الأبديّة.

في "مثل رحلةٍ لن تنتهي" ما يُؤشِّر على قوَّةٍ في الاشتغال على الشّعر، ولا شيءَ غير الشعر، حيثُ النّصوص مفتوحةً على الحلم والحياة والوجع الإنسانيّ، هنا هناك، وفي مُختلفِ النّصيّات، ثمة رهانٌ على "الالتذاذ الذّاتيّ" مرجعًا وأفقًا للكتابة، وحين يرتبط الشعر بالذّات، فذلك يعني كتابة وجودنا الإنساني وغوصٌ عميق في المناطق الدّاجيّة، فالقصيدة التي تُعيدكَ إلى العريّ الأوّل.. إلى لحظات الولادة الأولى، هي في تصوُّري قصيدة مُنْتَسَجَةٌ من صلب هذه الذّات وتعبيرٌ حيّ عن حيويّة الرُّوح وقلقها. بهذا المعنى، تجدُ القصيدة إيقاعها وديناميتها من خلال التّغلغل في مناطق الذات وتفاصيلها، ولا شك في أن حضور هذه الخيوط لأسرارٍ كامنةٍ في الدّواخل، له اتّصال مباشرٌ بعمليّة الكتابة باعتبارها فعلَ وجودٍ وسيرورة.

إن القصيدة كما يشتهيها عبد الحق وفاق "لغة تُعجز اللغة/ الموج الأزرق في المقلتين/ طقس الأفول/ قبس المبسم/ سراب يُربك الظمآن/ لغة الهمس/ قصيدة من زمن الذكرى/ نبض الارتباك/ وقع الارتياب/ أنشودة السهاد ساعة السّحر..."؛ لذا، فهي رحلةُ عشقٍ لا تنتهي، ولن تنتهي، رحلة الكتابة دائمًا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى التّجدد والتّطور النّمو. نحسب للشاعر انشغاله اليّومي بشؤون الشَّعر، وهو ما نلمسه من الاشتغال المرجعي والتّخييلي من خلال التقاطع من عددٍ من الشعريّات الكبرى كمحمود درويش وبدر شاكر السيّاب، وهو ما أعطى للقصيدة عند عبد الحق وفاق بعدًا جماليًا وأفقًا للاشتغال يمتاز بخصوصيّات التّفرد وبمعالم كتابةٍ شعريّةٍ لها جمالياتها الخاصة، ومن المهم، التّشديد ها هنا، على أن العودة إلى الشَّعريات الكبرى للقصيدة العربية في مختلف حساسيتها وأجيالها، يُفضي إلى نوعٍ من "الاستخلاف" الشعريّ وتخصيب المتخيّل واللغة والمعنى. وعليه، فإن هذه التّجربة الشعريّة، تأتي بتصُوّر جديد ومغاير للكتابة الشعرية. تجربة تتفاعل مع انشغالات القصيدة المغربية، حاملةً سمات التّجديد، ضاجَّةً بمنزعٍ إنسانيّ وكونيّ، وكأن الشاعر في بحثٍ مستمرٍ عن عشبة الخلود.. على خُطى جلجامش وأبطال الملاحم الكبرى. بهذا الأفق الإنسانيّ الدّافق، الشفيف، المغرق في "شَعْرَنَة" الذات وفتح منافذ إلى انجلاء أصدائها وأسرارها ونبوءاتها، والتّحرر من شرنقة التّشظي والانشطار فـ"التفاصيل تفقد أسماءها الآن/ أوديسيوس الحبيب/ لم يعد منتظرا/ شبِه حضوره الغياب../ النّوارس../ هجرتْ ذلك العباب/ استوطنته الغربان السود../ طائر الفينيق دنا أجله/ لم يحترق../ لم ينبعث../ أرخى جناحيه/ للظل البارد/ .."، وهكذا، يمتزج الأسطوريّ بالواقعي، الحلم بالحلم الرؤيويّ، في أفق ولادة قصيدة مُحايثة لرؤى الشاعر ووجوده. "مثل رحلةٍ لن تنتهي"، سفرٌ جوّانيّ.. دهشةٌ البدايات.. رحلةٌ في عالم الانزياح والتّخييل والمعنى، لكن، في هذه التوثُّبات الروحيّة، لا تهم الرّحلة، بقدر ما تهم الوّجهة، فهي مُبتغى الشاعر وظله الذي يسير في الأرض، ثم، يرتفع نحو معانقة عنان السماء.

        

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.