كان المخرج والمؤلف السينمائي الإيطالي، بيير باولو بازوليني، صاحب حياة غير عادية. فقد كان مناقضًا تمامًا للثقافة الإيطالية السائدة، وصاحب اعتقاد راسخ بأن إيطاليا بدأت تفقد روحها بعد الحرب، لتتحول إلى النزعة الاستهلاكية، وتتجاهل ثقافتها الأصلية الغنية والمتنوعة. وقد وضعته هذه الآراء بعيدًا من السلطات، وأماكن صنع القرار، دائمًا، لكن المفارقة الأكبر أنه اختار الترويج لأفكاره الخاصة المضادة للحداثة من خلال الطريقة الأكثر حداثة على الإطلاق، وهي السينما الشعبية. كان بازوليني رجلًا حديثًا يبحث في الماضي والتاريخ.
بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت إيطاليا من دولة فاشية فقيرة إلى دولة صناعية مزدهرة، وانتقلت بسرعة إلى عالم الابتكار والإبداع، وأنتجت كميات كبيرة من المنتجات الإبداعية، لتحدث بها طفرة صناعية أدت إلى طفرة اقتصادية يشار إليها الآن باسم "المعجزة الاقتصادية"، ومع هذه الطفرة تحول الإيطاليون إلى النزعة الاستهلاكية، وهذا هو الذي تتبعه بازوليني في أفكاره في السينما والرواية، خاصة بعد انتقاله من قلب روما إلى الحياة في أطرافها المهمشة والمنسية.
بدأت علاقة الحب بين باولو بازوليني ومدينة روما عام 1950، عندما كان في أواخر العشرينات من عمره. في خلال الأشهر الأولى، تعرف على ألبرتو مورافيا، وجورجيو باساني، وكارلو إيميليو جادا. في ربيع عام 1951، عرضت عليه وظيفة مدرس في مدرسة فرانشيسكو بتراركا في تشامبينو، في ضواحي روما البعيدة، التي وصفها بأنها "مدينة أكواخ". عرض عليه راتب قدره 27 ألف ليرة في الشهر. كفل ذلك المبلغ لبازوليني وأمه استئجار منزل في منطقة ريبيبيا. وضع بازوليني روما بصورتها اللامعة وراءه، واستقرا حيث البيوت المتهالكة والجيران الفقراء. كان هذا الانتقال إلى الضواحي الفقيرة سببًا في تغيير حياة بازوليني الإبداعية إلى الأبد.
تراوحت أعمار تلاميذه بين 11 و13 عامًا، وكانوا جميعًا من عائلات تعيش على الكفاف. أحدهم كان صبيًا يدعى فينتشنزو سيرامي، أصبح في ما بعد شاعرًا وروائيًا وكاتب سيناريو. قرأ بازوليني دانتي للأطفال، وشجعهم على تذكر الأغاني التي كانوا يسمعونها صغارًا من آبائهم وأمهاتهم، وتدوينها. بحلول عام 1953، اكتسب بازوليني ثقة كبيرة للكتابة بالعامية الإيطالية، وهي اللغة المميزة للفقراء والأحياء الفقيرة. خلال تنقله ورحلاته المختلفة، زادت مفرداته، ولم يظهر كدخيل على الطبقة المتوسطة، خاصة عندما اعتاد على ارتداء الملابس غير الرسمية.
بدأ بازوليني الكتابة بينما كانت الواقعية الجديدة في كل من الأدب والسينما لا تزال منتشرة وراسخة في إيطاليا. لكن رغم ذلك عندما نشر روايته الأولى "أولاد الحياة" عام 1955 أثارت استياء الماركسيين والشيوعيين، وأشاروا إلى أنه لا يوجد في سرد الرواية ما يشير إلى أن حياة الأبطال الضائعة قد تتغيّر إلى الأفضل بفضل الأفكار اليسارية. أثارت الرواية أيضًا استياء الكنيسة، وأعلنت أن الرواية تحرض على الفحش. بذلك، توحد اليمين واليسار، على حد سواء، على كراهية بازوليني الروائي.
حياة بازوليني العنيفة
تعد رواية "حياة عنيفة" لبازوليني، التي كتبها عام 1958، وصدرت مؤخرًا عن "دار روايات" في الإمارات، بترجمة المترجم السوري، معاوية عبد المجيد، تذكيرًا بدور بازوليني كجسر بين وحشية الواقعيين الجدد، والأسلوب الأكثر خيالية.
يروي الكتاب حياة وموت تومازو، فتى الشارع الذي يركض مع الشيوعيين تارة، ومع الفاشيين تارة، ومع اللصوص تارة أخرى. يروي بازوليني حكايته في سلسلة من الحلقات المتصلة يمكن أن تكون كل واحدة منها قصة قصيرة.
يعيش تومازو في بيئة الأحياء الفقيرة القذرة، ضاحية الأكواخ العشوائية خارج روما. يفعل كل ما يمكنه فعله لكسب القليل من المال الذي يساعده على الحياة. يلاحق تومازو وأصدقاؤه أهدافًا رومانسية، في تضامن غريب وقوي للمحرومين تمامًا من كل أنواع الحياة، حتى أن تومازو يبذل حياته نفسها لإنقاذ سكان الأحياء الفقيرة. يقدم بازوليني حياة صادقة، لكنه صدق قاتم، وحياة لا تنظر إلى العواطف، ولا تهتم بها. حياة عنيفة كاشفة عن مدى العنف الذي يتعرض له الإنسان في العصر الحديث. ويظهر ذلك بقوة في الفصول التي تدور في السجن، وفي مستشفى السل، لذلك قد لا تكون هذه الرواية مناسبة لجميع الأذواق، لكنها تعتبر مدخلًا رئيسًا إلى عوالم بازوليني وأفكاره، حيث استخدم كعادته العنف والفساد كأدوات لتكهناته السياسية، وألقى نظرة دقيقة على العالم السفلي الإيطالي. مع كل الأفعال المخالفة لتومازو وأصدقائه، يجد القارئ نفسه متعاطفًا معهم. ورغم أنهم يعيشون خارج أي نظام اجتماعي، ومن دون رغبة في التكيّف مع المجتمع، لكننا نجد التفاهم والإحسان والمحبة في أفعالهم، ما يجعلنا نفكر أن القيم الأخلاقية ربما تكون نسبية، وليست مطلقة، كما اعتدنا أن نعرفها في مجتمعاتنا وأفكارنا.
يأتي السرد في الرواية حرًا، حيث لا يتشبث بشدة بوجهة نظر بطل الرواية، لكن بدلًا من ذلك يظهر الراوي الحر، ويتنقل بحرية بين الشخصيات، وينغمس بسهولة في أفكارهم وطريقة فهمهم للعالم. قد يكون الراوي صبيًا من عصابة تومازو ينظر بتعاطف إلى رفاقه وأفعالهم الشريرة، ويربط بين أفعالهم ومصائرهم بنظرة رومانسية ساذجة في بعض الأحيان. وفي أوقات أخرى، يتجاوز تعقيد الصوت السردي قدرات عصابة تومازو، حيث يتبنى الراوي وجهة نظر أكثر انفتاحًا، ليقدم التغير السريع الذي يطرأ على المجتمع والمدينة.
بعد قفزة زمنية استمرت بضع سنوات، يتم القبض على تومازو في شجار بالسكاكين، ويحكم عليه بالسجن لمدة عامين. حذفت تلك الفترة تمامًا من الرواية، لأن بازوليني أغفل سرد الأحداث التي وقعت فيها، ليحكي بدلًا من ذلك التغيّرات العميقة التي طرأت على البطل في أثناء فترة سجنه، ليبدأ الفصل الثاني من الرواية بعودته من السجن إلى شقة عائلته الجديدة، وهو مبنى سكني مخصص لمحدودي الدخل سلمته لهم الحكومة.
يقرر تومازو التكيّف مع الأوضاع الجديدة، والتحول بعض الشيء إلى البرجوازية. يتخلى عن رفاقه القدامى، ويقرر الانضمام إلى الحزب الديموقراطي المسيحي. وإمعانًا في التكيّف، واتباع المألوف، يقرر تومازو الزواج من حبيبته القديمة، إيرين، لتكوين أسرة برجوازية حقيقية.
لكن الأمور لا تسير في الطريق المضيء، فيصاب تومازو بالسل، ويضطر إلى الانتقال إلى المستشفى، وكأن رسالة بازوليني تؤكد على أنه لا يوجد خلاص من التعاسة والبؤس. يضيف وجود تومازو في المستشفى تحولًا جديدًا إلى شخصيته، تحوّل أقرب إلى النضج والوعي. في أثناء وجوده في المستشفى يعترض كل من المرضى، وطاقم التمريض، على الأوضاع المتردية في المستشفى، ويضربون عن العمل، ويتعاطف تومازو معهم، ليعود مجددًا إلى وعيه المقاوم، ولكن برؤية مختلفة.
في طريق تومازو للتعافي، يقرر بازوليني مجددًا ألا يمنح القارئ أي أمل، إذ يفيض النهر، ويغرق الفيضان القرية الفقيرة، وتعلق امرأة في طين الفيضان، ولا يتمكن رجال الإنقاذ من إنقاذها، لأنهم لا يعرفون الأرض جيدًا. يقرر تومازو إلقاء نفسه في الوحل والطين من أجل إنقاذها، لكن ذلك الجهد الذي بذله يفاقم مرض السل لديه، ويقتله في نهاية الأمر. في نهاية الرواية، ينوه بازوليني بأن ما قرأه القارئ في هذه الرواية قد حدث، وما زال يحدث في الواقع، ليضعنا أمام حقيقة أن الحياة عنيفة في الواقع، وفي الخيال، وأن الخلاص لا يحدث أبدًا.
الأدب كاحتجاج على قسوة الحياة
ينظر بازوليني إلى الأدب الجيد على أنه احتجاج على الحياة. تشنّ روايته "حياة عنيفة" هذا الاحتجاج على الفكرة المريحة لبراءة الفقر. أنتجت الفنون العديد من الأعمال الأخلاقية التي تظهر الفقراء بطوليين، رومانسيين، مثيرين للشفقة، بينما اعتبر بازوليني روايته إعادة إنتاج للواقع بشكل يصدم القارئ بدلًا من تهدئته، أو التربيت عليه. ليس هذا فقط، لكن استخدام بازوليني التقنيات السينمائية في كتابة الرواية كان عظيمًا جدًا، ولمصلحة الرواية والقارئ الذي قدم له رواية بامتداد بصري ووصفي يناسب مخرجًا سينمائيًا كبيرًا. لذلك كان من الطبيعي أن تتحول الرواية إلى فيلم. التقط الفيلم بسلاسة إيقاعات الحياة اليومية التي اقتحمها بازوليني في روايته، وعمل عليها بشكل متقطع. سمحت الحسية الخاصة بالصورة السينمائية بنقل الأحداث والشخصيات، ونُقلت المشاهد الجنسية بشكل ضمني مفهوم للمتفرج، على عكس ما في الرواية، التي تتطلب التصريح، لأن الوسيط هو اللغة المقروءة.
في واحدة من مقابلاته، تحدث بازوليني عن الفارق بين السينما والأدب قائلًا إن السينما غالبًا ما تكتب وفق الخصائص النموذجية للغة النثر، وعدم تقديم القصة فيلمية بشكل تقليدي هو انتصار للغة الشعر على لغة النثر. أن يختار مخرج اللغة الشعرية للفيلم لا يعني هذا أنه لا توجد قصة، ولكن بدلًا من أن تروى في تكاملها، تروى بشكل مختلف مع اندفاعات من الخيال والإشارات التي تحتمل أكثر من تأويل. ومع ذلك، فإن سينما الشعر ليست بالضرورة شعرية، فقد يتبنى مخرج ما الاتجاه الشعري، ومع ذلك يصنع فيلمًا سيئًا، وقد يختار مخرج آخر مبادئ وشرائع النثر لصنع الفيلم، ومع ذلك يخلق شعرًا. بدأت تلك المقاربات بين السينما والشعر في عام 1956، حين أصدر بازوليني كتابه "سينما الشعر"، وبدأ تركيزه الإبداعي يتحول من الشعر إلى السينما، في محاولة للاقتراب أكثر من هدفه النهائي، والعثور على ما أسماه "لغة الواقع المكتوبة". وسعى بازوليني لتكوين مزيج مثالي من الرؤى والأفكار المأخوذة من الوسائط المكتوبة، والوسائط المرئية، لتحقيق هدفه.
مراجع:
https://www.theguardian.com/film/2016/nov/12/pasolini-lost-boys-translation-ragazzi-di-vita?fbclid=IwAR00Q99VyPrIfmnq3PdeZxyFhN3KsuExdJ0Q2q-8uO0jiMkeB2d9XXs5jFg
https://www.artforum.com/print/198510/a-violent-life-and-art-after-modernism-rethinking-representation-35209?fbclid=IwAR3IfdEl2ixU8PRilHPrZM4X74-MLQgV623ShE5hLiV2ggnyVV8Ca66SvAg
https://www.artforum.com/print/198510/a-violent-life-and-art-after-modernism-rethinking-representation-35209?fbclid=IwAR3IfdEl2ixU8PRilHPrZM4X74-MLQgV623ShE5hLiV2ggnyVV8Ca66SvAg