}
عروض

"أشجار غير آمنة".. ثنائية الأنوثة والتمرّد

ليندا نصار

8 ديسمبر 2021



"أشجار غير آمنة" للشاعرة دارين حوماني مجموعة شعرية صدرت حديثًا عن دار النهضة العربية 2021 حيث يشكل العنوان مفتاحًا يلج فيه القارئ النصوص. أمّا عناوين الدواوين التي كتبتها حوماني فليست سوى استمرار للحياة التي وثّقتها في هذا الديوان، ولا شكّ في أنّ من يطّلع على تجربة هذه الشاعرة يقرأ الحاجة إلى الحب والحياة والأحاسيس الآمنة.

فماذا تمثل هذه الأشجار الخضراء الثابتة المتجذرة في الأرض؟ وماذا يهزّها وما هي حالة اللاأمان؟ أتراها تتحدّث عن أشجار عريقة مهدّدة بالقطع والموت أو عن حالات اللاأمان والقلق واللااستقرار؟ أو عن القسوة التي تسكن الشعراء؟ وماذا عن تأثير الفصول في مزاجيتها بين صيف وخريف في الأشجار والإنسان؟

إذًا تعالج الشاعرة قضايا تحمل أبعادًا اجتماعية ونفسية وسياسية ودينية أحيانًا، بوساطة صور مألوفة قريبة من القارئ، فتفكّك الواقع ثمّ تعمل على ترميمه في إطار زمانيّ تعاقبي، ينطلق منذ الطفولة/ البراءة/ الضيعة، وصولًا إلى مرحلة النضج/ المدينة/ التشوّهات. فهذه اللحظات العارمة بالمشقّات، كان لا بدّ لها من جرأة بوح امرأة تغيّر مسار حياتها لتضعنا أمام سيرة شعريّة توثّق لحياة بل لحيوات نساء عبّرت عنهنّ الشاعرة، حيث تتابعت اللحظات، وإذا بنا أمام قصائد تحمل أبعادًا اختارتها الأنا لترسم تجربة الحب وتترك الحكي لجسد أراد أن يتقيّأ الأرض بعد الجنس، كما تقول، هنا وفي أمكنة أخرى من الديوان، تتبدّى قوّة وقع المفردات، والجرأة في الطرح... إنها الحرية التي استنطقت الأثر مرتكزة على ذاكرة حصرت حياة كاملة في نصوص شعرية.

في مكان ما تكتب دارين: "الأرض الداخلية التي بناها طفل خشن اليدين/ وحده يقف على الماء/ وحوله الرؤوس العميقة الظلمة/ يريد التفكير أوّلًا قبل التفكير/ وقبل الدواء".

"أنا تلك المرأة/ التي كان طفل في داخلها/ يحلم بأكثر من هذه الحياة بكثير".

"الصخرة التي قفزنا عليها صغارًا/ التراب الذي كنا نلعب عليه حفاة/ الأشياء التي علينا نسيانها/ لا تنتهي تلك الطريق في ذاكرتي/ ترفض الموت/ ربّما لأني محاطة بغبار كثيف/ أسميه خراب حياتي المتجدّد".

تهدي الشاعرة ديوانها إلى بيروت، التي عانت نقص الحب فدمرها الطغاة عبر الزمان، وقد تكون هذه الهدية أغلى ما تملكه: قصائد جديدة بزيّ جديد وملامح جديدة أرادت لها الانضمام إلى مكتبة هجرتها قسرًا، أو إلى ضيعة عاجزة خدعها من أحبته أكثر من نفسها فبترت أطرافها. كذلك يمكننا الحديث هنا عن حالة من التشابه بين بيروت والمكتبة والأشجار. فلعلّنا نشير قليلًا هنا إلى القرار المفقود والخضوع التام الذي تعانيه هذه المدينة، ولعل الشاعرة أبت إلا أن تتشبّه بمدينتها، رافضة العجز بالرحيل عنها.

الشعر بوصفه جزءًا من المرأة

لا شك في أن الشعر هو جزء من الذات الشاعرة وهو تعبير صادق عن الرؤى، إذ يتيح للشاعر أن يرسم مسيرة عايشها وكان شاهدًا عليها في مكان وزمان محدّدين. وبالشعر يصمد الشعراء، يقسو القلم لتلين الكلمات في قلب الشاعر. إذًا تتفاعل المرأة مع الكون بوصفها جزءًا منه وهي تكتب الشعر بوصفه جزءًا منها.

أكتبي الشعر أولًا/ قبل أن تأخذي مقاس ضغطك/ قبل تعليم أطفالك الدروس اليومية/ وقبل أن تبدئي التفكير/ بالرؤوس الملفوفة بالسواد.

الشاعرة على ثقة بأنّ الشعر حياة، وهو من أولويّات الشاعر، ففي البدء كانت الكلمة وهذه الكلمة إلهيّة، تناسلت لتجتمع في مجموعة قصائد، فصارت الأولوية هنا للشعر الذي يرمم الروح المتلاشية بفعل حرائق الأمس، الممتدّة والمتجددة في خرابها. الشعر تعويض عن حياة بأكملها واستعادة عمر بأكمله. يبدو القارئ إذًا أمام مشهد من يغتال الروح يوشّحها بالسواد وكأنّ الشاعرة تعيش سقوطًا ثائرًا غير مستسلم وهي في منتصف العمر.

تحمل معاني الديوان اختراق البراءة الأولى للمرأة وهيمنة الذكورة التي تحكي وسط هذا العالم المليء بالشوائب فتتمرّد عليه وتكتب لتتنفس وتفجّر قسوته من خلال الشعر.





هذه المرأة الشاعرة المنفتحة على العالم تجتمع فيها نساء الأرض، إنها حواء وأفروديت وكل اللاتي مررن في عالم الأدب والأدب حياة، بل كل اللاتي عبّرن عن تجربة صادقة وهي تقف في مواجهة مواقف من الخذلان والخيبة منه، تحاول أن تقول الممكن عنه وغير الممكن أيضًا، وعليها يعتمد في إنتاج النص. ثمة جنس بلا حب لذّته موقّتة يفتح أبواب الشعر أيضًا، يمكننا القول إنّ هذه الذات الشاعرة التي صارت محور النص، تنظر إلى العالم وترويه بجرأة الشعراء. هي المرأة في أناها وعلاقتها المرتبكة والمتشابهة مع هذا العالم، تحتاج لأن تكتب شعرًا متمرّدًا وثائرًا على القوالب الجاهزة والإسقاطات والأحكام.

لا جدال في أنّ ثنائية الأنوثة والتمرّد تمثّل وجهًا من وجوه الإبداع في الشعر الذي جعل الشاعرة تكتسب خصوصية معيّنة. فليس من الضروري أن تكون الأنوثة عكس التمرّد ومن هنا نلاحظ أنّ معظم كتاباتها تدلّ على تجارب ومواقف تصف من خلالها عوالمها ومحيطها وحيواتها البسيطة والمعقّدة في آن والهيمنة الذكورية في الوقت نفسه إذ تبوح بكل جرأة وترفض مطلب الرجل. هذه المرأة التي عانت عدم المساواة في الأدوار الحياتية أثّرت في كتابتها وقد عانت الفوقيّة والتعصّب في مجتمعها. استطاعت الشاعرة أن تهدم الهيمنة الذكورية بالشعر، بمجرد امتلاك القدرة والقوة على الاعتراف بها.

وكأنّنا هنا أمام امرأة تسكنها عدة نساء بل تختزل نساء الكون، تتصارع في داخلها المرأة الطفلة والمرأة الشبقية. إنه صراع الذات في حركة عكسية من الداخل إلى الخارج والعكس، فأحيانًا تترك لقدرها ولحالات الإقصاء العمد وتمكث في دوامة المحيط الداخلي تعيش القسوة، ثمّ تسعى في البحث عن الكنز المفقود والجنة بوصفها حياة جديدة، تجعلها تقيم في المسافة الفاصلة بين فيض الحب ونقص الحب، بين الحياة والموت.


الكتابة بوصفها حياة

يعتبر رولان بارت أنّ الكتابة هي بقايا الأشياء الرائعة والجميلة في دواخلنا، فهي، بوصفها متنفسًّا للشعراء، تعيد الحياة الى امرأة تجذر فيها العنف المجتمعي والقتل الرمزي للروح خصوصًا في مواجهتها أشكال الرفض وانهيار الأحلام وخيبات الأمل. فإذا بنا أمام ذاكرة تتحوّل إلى أعطاب حيّة توثّق الجسد بعوالمه في المتخيل الشعري، حيث يطلق لها العنان لتتسع مساحاتها وتشققاتها على مصير النساء عامة. إنها حرية الكتابة ومحاكاة المشاهد وسرد العلاقات في سير شعرية واستنطاق الأثر بوصفه شاهدًا على الأحداث لحظة الكتابة، تجسيد لعمر بأكمله وبوح منظّم بلغة مليئة بالحياة وكأنّها تمثّل كل امرأة التقتها في المتخيل الشعري، يمكن الاعتبار هنا أنّ الشاعرة تعرّي الواقع وتكشف حيوات وتكشف عن نظرة المجتمع وانغلاق رجال الدين لتفتح نوافذ أسئلة الكتابة على مصراعيها.

الله الجميل والانغلاق المجتمعيّ

هذه الذات الثائرة على الظلم والاملاءات والتنظير، أبت إلّا أن تجلس تحت سطوة المعتقدات المقرّرة من المؤسسات الدينية وذوي اللحى كما تسميهم كرجال دين ينبغي عليهم أن يتمتعوا بسمات الوقار، وإذا بهم يتمادون في الحكم على امرأة لتطبيق أعرافهم كما أنهم يعاندون الطبيعة البشرية، حيث الجنس الذي ينظر إليه العالم على أنه أحجية منطقية، بالنسبة إليهم من المحرّمات المطبّقة على النساء كحالة استثنائيّة.

"الحياة التي لم تستطع تبديلها/ تتشعّب فيها/ مثل لحى رجال الدين/ حيث الظلام يقبع/ دون الحاجة إلى كتب إضافية".

فالله الصوت الذي يسكن الإنسان يقرأ أحلامه وعمق قلبه، الله الجميل، هؤلاء جعلوا صورته مقترنة بالرقابة وعقدة الذنب، وصارت الطبيعة البشرية محرّمة بأكملها لتخلص وتكتشف في نهاية المطاف "ألا أحد هنا يشبه الله" ما داموا جميعًا يعصون قراره بهندسة العالم على صورة سماء مصغّرة على الأرض، ويحوّلونها إلى جحيم للنساء.

في مكان ما من الديوان تكتب حوماني: "حلمت ذات ليلة/ أني رأيت يديّ في لوحة/ عمرها ألفا عام/ كحقل من القمح غير مقيد/ مفتوح على سماء/ لها إله واحد لكل الجهات/ لا يخيفنا ولا يراقبنا بحقد كما يدّعون/ على أخطائنا الصغيرة".

من هنا تحاول الشاعرة في ممارساتها الإبداعية أن تعيد تشكيل الواقع ليتحول القبح الى جمال، بل تنحو نحو هدم الخراب وبناء الجميل الذي ينبغي له أن يكون في قلب كل إنسان. كل ذلك يحدث لحظة سقوط القصيدة من حبر شعري لذيذ على أوراق بذلتها الأشجار.

استطاعت هذه الذات بوصفها محورًا للقصائد أن تبدع في التعبير عمّا يعتريها وأن تقول كلّ شيء ولا شيء في آن، إذ أنها تصبّ هذا الكمّ الهائل من التوقّد الشعري عبر لغة توليها عناية كبيرة لتأتي بها في قالب قريب من قارئ يجد متعته في قراءة النصوص والاستمتاع بها.

"المدينة تتمدّد على ظهري/ قاسية وحشية/ من يديرها عني نحو القبلة/ كي أردّد ما لا أزال أحفظه من الشهادتين/ وأنا أشكّك بهما/ وبجدوى هذه الحياة/ وبالله/ ثمّ أعدم/ تحت الشجرة الأخيرة في مدينتي".

ترسم الشاعرة مصير كل من يتمرّد ويثور ويشكّك بالمبادئ الخالصة، هؤلاء الذين لفّت رؤوسهم بالسواد هم قتلة الشعراء، فمن يقتل الأشجار الأخيرة لا بدّ له من أن يقتل آخر شاعر.

يمكننا الاستنتاج ممّا تقدم أنّ الشاعرة استطاعت بذل ما في ذاتها في ديوان مبنيّ من ثقافة واشتغال على جمالية القصيدة من دون الوقوع في التصنّع، فقد جاء هذا الديوان صورة صادقة عن مقاربتها الخاصة بتمرّدها وثورتها.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.