}
عروض

"الأخلاق إلى أمادور".. المعرفة ضمان الحرية

وارد بدر السالم

9 ديسمبر 2021







ليست مهمة الإسباني فرناندو ساباتير أن يكون واعظًا ومُصلحًا اجتماعيًا ومردّدَ أصداءٍ معرفية متناثرة قالها غيره من المفكرين والفلاسفة والمتكلمين والمعرفيين. فقد تكون هذه المهمات ملقاة على عاتق مدرسين ثانويين، ومرشدين مجتمعيين وأولي أمر، يهمهم صلاح الأجيال وتوجيهها نحو حضارة الحياة المتقدمة... لكن ساباتير الروائي يرى أن التوجيه ينبغي أن يكون موجهًا بالأمثلة الأخلاقية الدالّة من الحياة والطبيعة معًا؛ وهو يوجه رسالة إلى ابنه أمادور من تسعة فصول وخاتمة- في كتابه "الأخلاق إلى أمادور" (ترجمة مها عطفة - دار خطوط - الأردن- (2021 الذي احتفلت به الأوساط الفلسفية الإسبانية، وتُرجم إلى عديد من اللغات العالمية، وعُدّ قراءة معاصرة للفلسفة الغربية، غير أنه أعاد إنتاجها في فهمٍ هاضمٍ آخر، له صلة بالتجييل الجديد وحداثته المعرفية، عبر مخاطبة ابنه أمادور، الذي يمثل مخاطَبا متواريًا غير ظاهر كصوت أو حضور معرفي، لكنه ماثل في الرسائل الفلسفية والفكرية والأخلاقية التي يكتبها ساباتير، ويجتهد أن تكون رسائله ذات مضامين، يوازن بها أخلاقيات الكتابة ذات المدلول الإيجابي، وهو يخاطب جيل العولمة الجديد. فابنه خلاصة جيل ناشئ له معطيات مستحدثة في عالم ظهر في القرن الحادي والعشرين. وله تطلعات ثانية مع عصر لا يشبه العصور الماضية. له نوافذ فكرية وأيديولوجية كثيرة، متعددة المناشئ والثقافات.

الأب الذي يتعاطى الحكمة والفلسفة بدراية ووعي، يصارع الكثير من الأفكار الإنسانية التي مضت، محاولًا أن يسند وثائقه الأخلاقية والأدبية بالسلف الفلسفي الذي يرى في الكثير منه ذا رؤى إيجابية، يمكن لها أن تكون نوافذ جارية لأجيال تالية وجدت أنها في مصطرعات فكرية ودينية وأخلاقية مشتبكة.

ومع أن ساباتير يقول بأن كتابه (مجرد كتاب شخصي وذاتي كالعلاقة التي تربط الأب بابنه) إلا أنه أوسع من ذلك بكثير، كخطاب عام في عالميته، نظير أفكاره الإيجابية التي يقدمها لأمادور الابن - الجيل الجديد، الذي استحوذ على مشتقات الحياة بإضافاتها الحضارية والعلمية الراقية. وقد درج ساباتير أن يثبّت في نهاية كل فصل فعلَ أمرٍ (إقرأ) لابنه - جيل الإلكترونيات، وهو مختارات فلسفية وفكرية لأساطين الفلسفة والمعرفة، كنوع من المُوجّهات الأخلاقية والتربوية والإنسانية لهذا الجيل الجديد، الذي عليه أن يحكم وثاقه بالفلسفة والعلوم والمعارف المتعددة.

الأخلاق والحرية

يخلص ساباتير في مجمل رسائله، ابتداء من الرسالة الأولى، إلى أن فن العيش يسمى (الأخلاق) وهي الثيمة الأساسية في مجمل طروحاته الرسائلية؛ ومع أمثلة مستخلصة من الطبيعة والحياة الأسطورية والواقعية، يوقد الأب - المثقف أكثر من إضاءة وشعلة أمام أمادور المتواري خلف السطور والصفحات، ليبلغه بأمثلة مناسبة ومفهومة؛ تبدو مدرسية في إطارها العام؛ بأن الحرية الفردية ثمينة والمعرفة ضمان لتلك الحرية، مع أنه (لا يوجد أحد قادرًا على معرفة كل شيء) باعتبار أن المعرفة لا نهائية، وأن الخيارات الفردية متاحة في المجتمعات، بعضها مناسب وبعضها الآخر غير مناسب؛ ومن أمثلة الطبيعة الأطعمة والأدوية، بعضها جيد وبعضها سيء في الإكثار منه، ومثلما الماء يروي فإنه يُغرق أيضًا. ومن الحياة فإن الكذب سيء، إلا أنه مشروع أحيانًا (إخبار مريض السرطان بأن حالته جيدة ولا تستدعي القلق) لكنه ليس دستورًا في الحياة. ومع أن العيش العام (ليس بهذه السهولة) بسبب (معايير متعارضة مختلفة فيما يتعلق بما يجب أن نفعله..) فالمجتمعات فيها علماء وجهلة وأميون ومعرفيون وجماليون ومجرمون وأبرياء وأنقياء، ولا يمكن أن يكون ثمة اتفاق على كل شيء، الا بما هو جوهري وحاسم، وهذا من شأن العلماء والمعرفيين الكبار. فكما يرى البعض (أن المهم هو كسب المال) لكن غيرهم يرون (أن المال بدون الصحة.. لا يساوي شيئًا) بما يعني أننا نتفق على أننا لا نتفق مع الجميع. وهذه فقرة أخرى تمهد لأمادور- الابن أن يرى ما في الحياة من تعارضات يومية ومتعاكسات لا بد منها؛ ففي الاختلاف يمكن أن تتبلور الكثير من المفاهيم، ويمكن استخلاص أن العيش فن وإمكانيات كبيرة لأن نتلاءم مع الجموع المختلطة بألوانها، وأفكارها، وبما نراه سويًا وصحيحًا؛ حتى لو لم نتلاءم بنسبة كبيرة أو صغيرة مع واقع الحال الذي يشير اليه المؤلف. ومن هذه التبسيطات والمفهومات الدارجة في الحياة، تقترب الأمثلة إلى الطبيعة في أعشاش النمل الأبيض، وكيف يدافع عنها لحد الموت، والقنادس التي تضع سدودًا على الجداول كهندسة مائية، والنحل المعني بصناعة خلايا العسل، إذ (لا توجد حيوانات جيدة أو سيئة في الطبيعة) فهي مبرمجة على أفعال لا بد منها لتعيش في بيئتها، بافتقارها إلى العقل الذي يوجهها، وبالتالي لا يمكن لها أن تبدع في غير تلك البرمجة الإلهية الممنوحة لها.





ومن الطبيعة إلى الأسطورة اليونانية التي تتمثل في القصة المعروفة للمحارب البطل هكتور الذي جسّد (الحرية) من بابها الواسع، فلا يوجد إطار حياتي للبطولة المفتوحة. بل إنها الإرادة المستخلصة من الحرية الشخصية ومسؤوليتها العامة بأن تقدّم الأنموذج الصحيح في لحظات معينة. فقد قامت الطبيعة إلى حد ما (ببرمجتنا نحن البشر) وأن تفكيرنا (مشروط باللغة..) ومن المهد (تُغرس فينا ولاءات معينة من دون غيرها) لكن اختيار الحرية بشكل أساسي هو الذي يجب أن يتحقق في الاختيار، من دون ضغط مدرسي وإكراه تعليمي، ولو أننا (لسنا أحرارًا في اختيار ما يحدث لنا اليوم.. لكن لنا حرية الرد على ما يحدث بطريقة أو بأخرى..) وهذه الحرية التي يكررها ساباتير ويأتي بالأمثلة لها، هي الموجّه الأول لأمادور الابن والجيل الناشئ معه. وما البطل هكتور إلا أنموذج الإنسان الذي اختار دوره من دون قصد مسبق، بإرادته الحرة، التي اختارها في اللحظة التي يراها مناسبة، وهي حرية رفعت من شأن المجموع القبلي الذي ينتمي إليه.

في الأوامر والعادات والجسد

سيكون سؤال: هل نحن نفعل بالنتيجة ما نريد؟ هو الذي يضع الإنسان بين خيارات متعددة، من تلك الأسئلة التي رصدها أرسطو في مجموع فلسفياته، تحت ظروف الخيارات المتاحة وغير المتاحة للإنسان. فما بين (الدوافع) و(الأهواء) أفعال أمر في كثير من الأحيان، كالعاصفة التي تحاصر سفينة محملة بالبضائع، والمطلوب إنقاذ طاقمها من الغرق. والخيارات الكثيرة تفعّل شخصية المرء من خلال جملته العصبية في العقل الواعي، عبر موشور أخلاقي، جسدته أقوال مأثورة من ليشتنبرغ فيما هو فلسفي كفعل الخير للخير، وديني، لأنه إرادة الله حبًا به، وإنساني حبًا للذات، وسياسي بدافع الحب تجاه المجتمع. لذلك فمبدأ الخيارات يرتبط بالحرية الفردية التي يفعّل ساباتير علاماتها القوية في (أن تكون قادرًا على قول نعم أو لا. أفْعَل ذلك أو لا أفعله.. الحرية هي أن تقرر) مرتهنة بالأخلاق الشخصية، وهذه مرتبطة بالعادات والسلوكيات الاجتماعية التي ليست كلها جيدة بالنتيجة، لذلك فالأخلاق مراس وثقافة اجتماعية، ويستعين ساباتير بالفيلسوف فيتغنشتاين الذي قال إنه من المستحيل تأليف كتاب حقيقي في الأخلاق. فالأخلاق عامة تتحكم بها ظروف مجتمعية وسياسات مختلفة، فالقاعدة أن لا تكون ثمة قاعدة تحدد المزايا السلوكية الفردية والجماعية، والقاعدة في كل هذا هي أنه ليست هناك قاعدة (لتكون انسانًا جيدًا) والمسألة تعتمد (على السياق الذي يتحرك فيه كل فرد) فالإنسان يضع قواعده الشخصية في السياقات العامة ويتجرأ أن يكون حرًا (لا تسأل أحدًا عما يجب عليك أن تفعله) و(اسأل الحرية نفسها عن كيفية استخدام حريتك) ومثل هذه الأوامر تمثل النهج الاستقلالي الفردي مع وجود الجميع في مظاهر الحياة، وهو تفعيل آخر لمقولة سارتر (نحن محكومون بالحرية).

وفي خلاصات مثل هذه الرسائل الأولية العيش في حياة طيبة متماسكة فـ(الأخلاق ليست أكثر من محاولة عقلانية لمعرفة كيف نعيش بشكل أفضل) أي العيش كبشر منطلقين من فكرة الحياة السوية في حرص أفضل، للتكاتف والتعايش بسلام، بوصف الإنسان (حقيقة ثقافية) وليست حقيقة بيولوجية حسب. وهذه الإنسانية المتطورة عبر أجيال وثقافات وحضارات كثيرة وكبيرة هي وريثة بعضها البعض، وبالتالي علينا أن نعيش كبشر وفي إنسانية ذكية وفي حاضنة أخلاقية معينة، لأن الأخلاق تحاول (الاكتشاف) وهي تفعل ذلك لبيان خطوط السير اليومية العامة التي لا تتقاطع مع حريات الآخرين، لذلك يجب أن لا نكون (حمقى) لئلا نعتمد على أشياء (خارجية) لا علاقة لها بالحرية. وعليه فإن الأخلاق من زاويتها الاجتماعية والنفسية هي معيار الشخص في معالجة أزماته والتماهي معها، تحت وطأة الامتلاء الثقافي الواعي لحتمية الوجود البشري في الزمان والمكان المعينين.

أما الأشياء المتعلقة بالفساد الأخلاقي، فهي ليست بالضرورة جرائم القتل والسرقات، إنما المواعظ التي تبحث في موضوعة (الجنس) إلى الحد الذي يعتقد البعض بأن الأخلاق تتعلق بما (يفعله الناس بأعضائهم التناسلية)، وهنا يفتح ساباتير طاقة الكلام بشكل واضح، ما دام يخاطب جيلًا ناشئًا، وهو الجيل الأوروبي على وجه التحديد؛ فالإنجاب (هو أحد وظائف الجنس.. آلية تكاثر عند الإنسان وكذلك عند الغزلان وسمك الفرّيدي) لكن المتع الجنسية المحاطة بالتحذيرات والمخاوف الاجتماعية هي ما يجب أن يرددها ساباتير على ولده- الجيل التالي (لأننا نحبها كثيرًا) و(دائما محفوفة بالمحرمات والقيود..) ويعكف على تاريخية الجسد ومتعه الكثيرة في الجنس، منذ إنسان النار الأول وقبيلته المتعاضدة التي يجب أن تنبه للخاطر المحيطة بها، بدلًا من الانشغال بالجسد والجنس، فالأخلاق بجملتها تهدف إلى (تحسين الذات).

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.