}
قراءات

"نظام التفاهة".. عن عالَم السطحية والابتذال

وارد بدر السالم

18 فبراير 2021

لفتنا كتاب " نظام التفاهة" للكندي د. آلان دونو (دار سؤال، بيروت – 2020) من زاويتين: الأولى، البحث المستحدَث والمستفِز عما يسميه بـ"سيادة التافهين في الدولة المعاصرة" الذي وثقه المؤلف بمصادر تنظيرية وبحثية متعددة، منها الاقتصادي والعلمي والسياسي والأدبي والإعلامي والثقافي والحضاري، بما جعله متشعبًا وشاملًا، معالجًا مشكلة رواج السطحية والابتذال في المفاصل الحيوية للدول. ويكاد هذا الكتاب أن يكون فريدًا من نوعه في ميدانه التحليلي الشامل الذي انطوى على سخرية غير خافية. وهذا ما يتضح من عنوانه. الثانية، الجهد الكبير والاستثنائي لمترجمة هذا الكتاب د. مشاعل عبد العزيز الهاجري، الذي أشعرنا بأن للترجمة قيمة لا تقل عن قيمة التأليف، وأن دور المترجم ليس النقل الآلي وحسب، إنما المداخلة والتوضيح والإيضاح والتعليق ووضع الهوامش الضرورية للتعريف أو الشرح. لهذا فإن المقدمة التي كتبتها الهاجري بأكثر من 60 صفحة، هي مدخل ناجح للتعريف بهذا الكتاب بشروحاتها المستفيضة. فكانت على قدر المسؤولية التربوية والأدبية وهي تقدم هذه الملحمة المتداخلة والساخرة عن نظام التفاهة في العالم الحديث. كما برزت ثقافتها الشاملة في أغلب ميادين المعرفة الجمالية.
ومن هاتين الزاويتين يستطيع القارئ أن يغامر في قراءة هذا الكتاب المهم لمؤلفه الذي استوعب معطيات العصر ومكتسباته التكنولوجية والإلكترونية، ليقف على أشواط الحياة في جديدها السياسي والمعرفي في تناقضات السلطة وتفاهاتها والتافهين فيها على حد سواء، بتعبير المؤلف الذي أوغل في هذه المفردة ومشتقاتها ونسْبها إلى الظواهر الاقتصادية والسياسية والحضارية والعمرانية والثقافية.
يشير التعريف الأولي لمؤلف الكتاب على أنه أكاديمي كندي ناشط ومعروف بالتصدي للرأسمالية المتوحشة ومحاربتها على عدة جبهات. ولم يُعرف عالميًا وعلى نطاقٍ واسع إلا بكتابه (نظام التفاهة - 2015) الذي تمحور حول فكرة كوننا "نعيش في مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجيًا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة". ومن هذه النتيجة المحورية النافذة في تضاعيف التنظيرات المستندة على تحليلات علمية وبحثية ومصدرية ، في محاولة فهم العالم عبر اقتصاداته وسياساته وثقافاته واجتماعياته وحضاراته وسلوكياته اليومية في هذا العصر الإلكتروني المتميز، يتقدم هذا الكاتب الجريء في وصف العالم المعاصر الذي يشهد "صعودًا غريبًا لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين" والذي بدوره يؤسس لنظام التفاهة حيث ( غُيب الأداء الرفيع) و(برزت الأذواق المنحطة) و( أُبعد الأكفّاء) فـ (تسيدت .. شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية.. ودائمًا تحت شعارات الديموقراطية والشعبوية والحرية الفردية) ومن هذه المنطلقات المسلم بها من وجهة نظر المؤلف تأسس (نظام التفاهة) كمفهوم جديد لم تتطرق النظريات الفلسفية إليه ولا الأطروحات السياسية قديمها وحديثها، بوصفه الدارج على أنه مفهوم اجتماعي غير معمم على الواجهات السياسية واقتصاد السوق وحضارة الميديا الجديدة، لكن دونو وعلى مدار هذا البحث الشائك، يضعه (معيارًا) نهائيًا في مقاربته الجديدة التي تحاكم (ظهور السلطة التافهة) حتى الفرد الذي نجحت مواقع التواصل الإلكترونية والميديا بأنواعها في جعله رمزًا للتافهين، على أساس أن مثل هذا سيؤدي إلى مصير كارثي للبشرية. وبالتالي فإن شيوع التافهين في أنساغ الحياة الاقتصادية والإعلامية والسياسية مكّنهم من أن (يقبضوا على السلطة تدريجيًا) وإن النماذج (الاعتباطية) هي التي تتحكم بمصائر الآخرين.


إن شيوع التافهين في أنساغ الحياة الاقتصادية والإعلامية والسياسية مكّنهم
من أن (يقبضوا على السلطة تدريجيًا) وإن النماذج (الاعتباطية)
هي التي تتحكم بمصائر الآخرين.



وهناك مرجعيات نصية فلسفية وفكرية وأدبية وفنية كثيرة تكاد تملأ الكتاب، تأييدًا لأفكار دونو وهو يحاكي التفاهة عبر التاريخ من خلال رصد دقيق لأقوال ومواقف وتعبيرات تندد بمثل هذا النظام الفاشل الذي يستولي على العالم الآن وبصورة واضحة، عبر محاور الاقتصاد والتربية والإعلام والعنف والفساد وفضائح الأخبار الفضائية والمعرفيات المعكوسة التي تشبع نهم المشاهد والقارئ والرائي لحركة الحياة عبر هذا النظام السائد، لتوطين الخديعة التاريخية في اقتصاد المال وحضارة السلطة الجديدة ونظام الثقافة في وجوهه الإكسسوارية التي جاء بها المؤلف، وهو يوغل في التواريخ المدينية لدول متعددة، وليس أقلها كندا التي ينتمي دونو إليها. ويرى، فيما يرى، أن للسوق من وجهة نظر اقتصادية دورًا في تكريس الثقافة والفن لوجهة نظر واحدة (وفقًا لأهداف السوق أكثر من الأهداف المرتبطة بعملياتها الإبداعية..)


التفاهة.. التافهون
إن إشباع الكتاب بمفردات (التفاهة) و(التافه) و(نظام التفاهة) و(إسباغ التفاهة) و(الإنسان التافه) و(الفكر التافه) و(سمات التفاهة) و(رعاية التفاهة) و(الأشكال التافهة) و(التافهون).. إلخ هو ما يلفت النظر أثناء قراءة هذا الأثر المعرفي المتداخل الساخط والساخر بموضوعته الجدية كإحدى الوسائل الأسلوبية التي اتبعها المؤلف بتكرار مُلِح. فيه تهكم وسخرية وانفلات لغوي أحيانًا يشتق من التفاهة مسميات أخرى كالسذاجة والابتذال وسواهما، وذلك لعرضها وتقييمها وانتقادها في مواضعها، بلغة هي مزيج من الفلسفة والفكر والفكاهة والمعلومة التاريخية والأدبية والفنية والسخرية اللاذعة؛ بعيدًا عن عقدة الأسلوب الفلسفي الصعب عادةً، وقريبًا من روح العصر وأمثلته الوفيرة المَعيشة التي يمكن لكل قارئ أن يصل إلى فحوى الكتاب، ويقف على أسلوبية فلسفية مصاغة بطريقة تكاد تكون مباشرة. بل هي مباشرة في كثير من الأحيان لكشف شبكات التافهين الذين توزعوا في منافذ الحياة عبر ظروف سياسية واقتصادية وإعلامية، وفرتها شبكات الاتصال الحديثة. ومثل ذلك الكشف ليس نظريًا وحسب، إنما هو ميداني ووثائقي في الحالات كلها، تلك التي يتناولها دونو ويراها شواهد مبررة لطروحاته، مع السؤال الواقعي: "ما جوهر الشخص التافه؟" ويبدو بأنه "القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضًا، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار..". 


تسليع الثقافة والحضارة
بين فصلي المعرفة والخبرة والتجارة والتمويل، يأتي فصل الثقافة والحضارة بوصفه أكثر تماسًا مع الحياة الثقافية والنفسية وحتى الاجتماعية والتاريخية، ويمضي دونو إلى عقد مقارنات واقعية بين الاقتصاد والثقافة. فكلاهما يتحكم رأس المال بهما والسلطة التافهة التي تمارس دورها الذي كرّسته التفاهة لها، من الاقتصاد الروحي والنظم الأخلاقية والقوانين بوصفها مؤسسات سلطوية (ترغم الذات على الكبت) بتدوير العلاقة الثقافية للمرء انتماءً وحساسيةً. وبهذا المحور يرى دونو أن الكبت (هو نفقة مستمرة مكلفة) مشيرًا إلى أمثلة عديدة تخلق مستويات من الجدل في تعريف الكبت وروحانية الاقتصاد في هدفه المالي، بينما الأول يضرب في هدفه النفسي والثقافي، وبالتالي فإن تنميط العلاقة بينهما هو احتمالية خلق شعور بالتفاهة العامة، فنمط الحياة المترفة للأثرياء والمشاهير تعكس (الثقافة الصناعية الجمعية) والفنانون (غير قابلين للإصلاح) والإعلان عن أن جوهر الثقافة فقد الكثير من معنوياته أمام النجوم التافهين الذين أنتجتهم سلطة التفاهة، وبالتالي تغييب الرهان الثقافي للمتدخلين الموصوفين بالتفاهة. ومثل هذا التداخل في تكنيك السوق الرأسمالية ووجود المستثمرين الذين يستثمرون إمكانيات الفنانين للدخول في عالم التجارة يطور إلى حد كبير من فكرة (أن الأدب والفنون غالبًا ما يعيدان الاقتصاد إلى الحقول المعرفية..) بمعنى أن الاستهلاك الاقتصادي في الحقول التجارية الكثيرة، قد لا ينجو من شراك الفنون والآداب التي تتيح إلى كل ما هو جمالي أن يجد إمكانية وصوله إلى الحياة الاجتماعية. فهو ليس سلعة متاحة دائمًا. وإن تسليع الثقافة قد يمر بمرحلة تسيد التافهين على السلطة، من أولئك الذين ينظرون اليها ككماليات وبهرجة حضارية، شأنها شأن العمران. وهذا يعني (أن معنى الاقتصاد ذاته على المحك هنا) في لعبة الربح والخسارة في علم الاقتصاد، لاغتصاب المعنى الثقافي واستعمار العقول المبدعة في خطاب التافهين الذي مسكوا بزمام الأمور من كل جانب؛ "بتسطيح المعارف" كما يحدث في الجامعات.



هناك مرجعيات نصية فلسفية وفكرية وأدبية وفنية كثيرة تكاد تملأ الكتاب، تأييدًا لأفكار دونو وهو يحاكي التفاهة عبر التاريخ من خلال رصد دقيق لأقوال ومواقف وتعبيرات



والتلاعب بالمفاهيم السياسية والاجتماعية هو من ديدن هؤلاء الجماعات التي تحاول تسطيح المفهومات القارّة ببدائل مدروسة بعناية، لا سيما في إعلاء مفهوم (الحوكمة) على حساب المعنى السياسي وتسمية المواطن بـ"الشريك"، لتكون التفاهة هي العنوان الأصح لبائعي القيم الاجتماعية والأخلاقية في عصر التفاهة العالمي، الذي كرّس المؤلف جهده السردي في تقديم المعلومات الحقيقية والتوثيقية لإبراز مثل هذا النظام الذي برأيه يقود العالم إلى الهاوية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.