}
قراءات

"السارد وتوأم الروح".. السؤال الخاص بالسيرة الذاتية

إدريس الخضراوي

22 أبريل 2021

 


لا يَنفصلُ الأدب، في مسعى لأن يظلّ حيًا وراهنًا، عن الفكر الإنساني في محطّات تطوره وارتياده لآفاق خلاقة على صعيد النظرة إلى الوجود، والقدرة على اكتناه الأسئلة والمصائر، وخلخلة المسلمات والأفكار الجاهزة. ويَكشفُ تاريخ الأدب كيف يتردّد رَنينُ التحوّل الذي يطرأ على مستوى الفكر في الأعمال الأدبية الكبرى، دون أن يلغي ذلك خصوصية الأدب باعتباره نشاطًا مستقلًا عن النشاط الفكري، مُكتنزًا معرفة نوعية يُمكنُ إدراكها من خلال اللغات والقيم والمواقف المتعددة التي يتخذها الإنسان. وهذا ما أبرزه الباحث الفرنسي بيير ماشري في كتابه "بم يفكّر الأدب؟" حيث كتب قائلًا: "ما نهدفُ إليه هنا، في شكل من الأشكال، هو الدفاعُ عن النزعة الفكرية للأدب، مُؤكدينَ أنه يملكُ قيمة تجربة فكرية أصيلة: فبهذا المعنى سنتكلّم عن فلسفة أدبية... لأن الأدب كأدب، كما أشرنا منذ قليل، لا يوجد إلا كمفهوم فلسفي، وهذا المفهوم لا يستنفدُ الواقع المعقّد للنصوص الأدبية" (1). وكم هي الأعمال الأدبية العظيمة في الثقافات الإنسانية، التي تؤكد علاقة الترابط الوثيق بين الأدب والفكر بِشكلٍ يتعذّر معه على أيّ منهما أن ينأى بنفسه عن الآخر. وكما لا يُمكنُ للفكر أن يَشتغلَ بمعزل عن الأدب، فإن الأدب لا يَضطلعُ بوظيفته التمثيلية على النحو المؤثر بعيدًا عن الفكر. وهذا ما يتجلّى ليس فقط من انطواء الأدب، وهو شكل تخييلي، على معرفة خاصّة يتمّ التعبير عنها من خلال اللغة وفكرها، علما أنّ نظرة الكاتب للغة، بحسب فيليب دوفور، تولّد أشكالا حوارية جديدة، وأن هذه الأشكال تَحملُ في طياتها فكرًا روائيًا (2)، وإنما يتجلى أيضًا من تأثر الأدب بما يبنيه الفكر من أنساق ومنظورات جديدة للعالم، وبما يُبدعهُ من مفاهيم جديدة للتفكّر تُوقظُ لدى الكاتب الرّغبة في الخوض في التجريب، والبحث عن أساليب غير مسبوقة في مسعى للقبض على معنى عميق خاصّ للأسئلة الحارقة والقضايا الشائكة.

انطلاقًا من هذه العلاقة الوطيدة بين الفكر والأدب، يُعيدُ الباحث المغربي محمد الداهي في كتابه: "السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع" الصادر حديثًا عن المركز الثقافي للكتاب (2021)، بمقدّمة رصينة للباحث سعيد بنكراد، تَركيزَ ملاحظاته حول السّيرة الذاتية وسؤال دراستها. وإذا كان لقارئ كتاب "السارد وتوأم الرّوح" أن يتلمّس الأهمية المنهجية والنقدية للمقاربة التي أنجزها الدّاهي، فإنّه سيلفيها ليس فقط في المنظور النّقدي الذي يقطع مع كلّ رؤية سكونية ترى إلى النّص على أنه مكتمل ومستقرّ، وإنما سيعثر عليها، أيضًا، في ما راكمه هذا الباحث من أبحاث ودراسات حول السيرة الذاتية مثل: شعرية السيرة الذهنية (محاولة تأصيل) (2008) والحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات (2007)، وهي أبحاث حملت في ثناياها مشروعًا تكوينيًا لم يكفّ، منذ تلك المرحلة، عن التأمّل في المشاريع السيرذاتية ومساءلة أشكالها وأبعاد علاقتها بالفرد والمجتمع الذي تظهر فيه. لهذا لم يكن من المستغرب أن يصدر الباحث عن تصوّر نقدي مختلف يتوغل عميقًا في السيرة الذاتية بشكل يتأكد معه أنّ التحول الذي طرأ على الفكر الإنساني في هذا العصر، الذي هو عصر الشكّ والأسئلة الحارقة وتعدّد الأقنعة التي تتلبّس بها الحقيقة، قد أعطى هذا الجنس الأدبي قوة دفع مهمة ما عَادَ معها في الإمكان التعامل معه باستخفاف واعتباره مفتقرًا للقيمة الجمالية، أو تلقّيه بالاقتصار على التوجّهات الجمالية للسيرة الذاتية كما تم وضعها بشكل نهائي في القرن التاسع عشر، والتي استندت إلى الرغبة الشديدة في تقديم تمثيل حقيقي للذات، (وذلك عن طريق الإعلاء من شأن الحقائق اليومية والأسرية على سبيل المثال)، وبإعادة موضعة الفرد في الزمن التاريخي، بإعطاء الأهمية لفرادة الشخصية غير القابلة لأي اختزال (3). لقد أضحت السيرة الذاتية باعتبارها خطابًا سرديًا استعاديًا يحكي قصة شخصية واقعية بوصفها قصة حقيقية يُرادُ لها أن تُعرفَ وتُستهلكَ بشكل واسع، أحد أكثر الأنواع الأدبية شعبية، لقدرتها على ملء بياضات الذاكرة، وبالتالي تمكين الأفراد والجماعات من إعادة تشكيل "الهوية السردية" الخاصّة بهم.




يَتكوّن الكتاب من ثلاثة أقسام، تكرّس الأول منها لـ المعرفة بالأثر، أما الثاني فكان مداره جدارية ستاندال، بينما تركز القسم الثالث لدرس المنطقة البينية. وعبر تسعة فصول، يَدرسُ الباحث متنًا رحبًا من المحكيات الذاتية التي لا تغطي فقط محطات مختلفة من تطورها في الأدب العربي، بل تنطوي، أيضًا، على إمكانات وصيغ متعدّدة لتمثيل الحقيقة والتعبير عن العلاقة المعقّدة بين الكتابة والوجود. وهذا ما أتاح للمؤلّف أن يقدّم صورة واضحة لأهم ملامح تطور السيرة الذاتية في الأدبين المغربي والعربي من الناحية الفنية، وأيضًا من حيث علاقتها بالعالم. ومن بين النّصوص التي يهتم بها المؤلف: كتاب "التعريف" لابن خلدون، والأعمال السردية التي عبّرت عن الصدمة الجماعية التي عاشها المغاربة خلال المرحلة التي تُعرفُ بسنوات الجمر والرصاص مثل "أوراق" لعبد الله العروي و"الضريح" لعبد الغني أبو العزم و"ثمن الحرية" لعبد الهادي الشرايبي، بالإضافة إلى نصوص أخرى مثل "ثورة المريدين" لسعيد بنسعيد العلوي، و"أنشودة الصحراء الدامية" لماء العينين ماء العينين، و"في الطفولة" لعبد المجيد بنجلون، و"البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا، و"دليل العنفوان" و"دليل المدى" و"من قال أنا" لعبد القادر الشاوي، و"الرّحلة الأصعب" لفدوي طوقان، و"ممر الصفصاف" و"رجال ظهر المهراز" لأحمد المديني.


وبالإضافة إلى المتن الرّئيس، يَنفتحُ الباحث على متن واسع يتضمن أعمالًا تندرج ضمن الكتابة عن الذات، منها ما ينتمي إلى الأدب العربي، ومنها ما ينتمي إلى الآداب الأجنبية، خاصّة الأدب الفرنسي، إذ يأتي بها المؤلف إمّا لتوضيح القضايا النظرية والنقدية التي يثيرها أو لتعزيز استنتاجاته وتأكيدها. وانطلاقًا من هذا المتن المتنوع الذي تَتفاوتُ نصوصه من حيث مستويات القرب من ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل أو البعد عنها، وأيضًا من حيث ملازمتها لخطاب المؤلّف أو قرينه، وهو ما يعطي لهذه النّصوص موقعًا خاصًا ضمن حقل الكتابة عن الذات، يتقصّى الباحثُ مجموعة من المكوّنات والقضايا المتشابكة مثل التاريخي والسيرذاتي، وشعرية الذاكرة، وتماثل السرد السيرذاتي مع السرد التاريخي في الخصيصة المرجعية، والمنطقة الفاصلة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل والتي تمثّل الحالة المثلى التي يتحقق فيها التوازن بين النقيضين. وتَتمثلُ إحدى أهمّ تبصرات الدّاهي في الأعمال المدروسة في الاستفادة من الاتجاهين البويطيقي (الشعري) المعني بالكشف عن دعامات الأدبية، وأيضًا السيميائية الذاتية المهتمّة بالتفكير في البعد المعرفي للخطاب، والبحث عن الحقيقة الداخلية للنص، وتعرية لعبة الأقنعة، وذلك سعيًا إلى الكشفِ عن الموقع الذي يشغله قرين المؤلّف أو قرناؤه في السرد، وحرصًا على التعرّف على المغايرات المختلفة التي هي ثمرة تطور الكتابة السير ذاتية، سواء سارت هذه المغايرات باتجاه ترجيح كفة الواقعي كما هو الحال بالنسبة للسيرة الذاتية الكلاسيكية أو غامرت باتجاه التخييل مثل نصوص السيرة الروائية والتخييل الذاتي. وبالرغم من هذا المنظور المنهجي الصّارم، فإنّ الباحث لا يرمي إلى تقديم نتائج نهائية أو مكتملة، وهو ما يعزّزه مفهوم الأدب كما تَبلورَ في الأزمنة الحديثة، إذ بالرغمِ من أشكالِ التماثلِ والتوازي بين النصوص، فإنها تظلّ قابلة للتأويل والقراءة المتعدّدة.



بين الواقعي والتخييلي

يَجعلُ محمد الداهي من مفهوم التصنّع لدى الفيلسوف جون بودريار، والذي بمقتضاه يتعيّن الدليل اللغوي باعتباره ردّة أو طمسًا لأي مرجع، مرتكزًا لتجديد التفكير في الكتابة عن الذات من منظور يهتم - بخلاف الجهود النقدية المعاصرة التي ظلّت في دراستها للسرد الأدبي حبيسة "الأدبية الأرسطية التي تهتمّ بالبعد الفني والجمالي للنصوص أيًا كان نمط تمثيلها، وتقيم تمييزًا بين الواقعي والتخييلي، وبين اللغتين المتداولة والشعرية" (4)- بالتفكير في تلك المنطقة أو القارة الشاسعة المجهولة حيث يشتد لعب الهجنة بين الملفوظ الواقعي والملفوظ التخييلي، ويغدو رهان اللغة ليس هو تمثيل الواقع، وإنما طمسه وإنتاج بديل له. وعليه، فهو يتأمل التحوّل الذي طاول السيرة الذاتية ومفهومها لدى العديد من كتابها ودارسيها بالاستفادة من الطفرة الكبيرة التي عرفها الفكر الإنساني، خاصّة في عصر الشكّ هذا، الذي بلغت فيه العلاقة بين الإنسان والواقع من الالتباس والتعقيد ذلك الحدّ الذي ما عاد معه في الإمكان الرّكون إلى المقولات السابقة التي تقول "بتكافؤ الدليل مع الواقع" (الكتاب، ص13)، وتطابق اللغة والأشياء. وعلى هذا الأساس، يُسجلُ الدّاهي بطريقة تنمّ عن فهم عميق للنصوص التي يحلّلها، وعن قدرة كبيرة على الاستفادة من المادة المرجعية الجديدة التي يستدعيها، أنّ دراسات السيرة الذاتية وهي تواجه أعمالًا أدبية يصعب فيها رسم حدود بين الواقعي والتخييلي، الحقيقي والمصطنع، لم تعد "اليوم منشغلة بقضايا المماثلة والمطابقة بل أضحت تخوض في ألاعيب التصنّع وأقنعة الاصطناع التي تستعملها الذات للتنكّر في صورة مختلفة، وإعادة تشكيل هويتها السردية، والصدع بحقيقتها الداخلية، وإحداث قطيعة مع التصور التقليدي للتمثيل (يدعي تمثيل ما لا يرقى إلى تمثيله)" (الكتاب، ص13).

يَنطلقُ المؤلّف من الرغبة الإنسانية العارمة في القبض على الواقع الحي منذ أسطورة نرجس، ليستكشف الأسئلة المعقدة التي تطرحها إشكالية التمثيلِ في السيرة الذاتية، وامتداداتها في الدراسات والأبحاث التي عنيت بدراستها وتحليلها. وفي هذا السياق يُميزُ بين قرّاء مولعين بالتماثل والمحاكاة، ومولين أهمية للتطابق والصدق وقابلية التحقق، وكأنّ هذه الشروط ثوابت متعالية ومطلقة. هؤلاء القرّاء "يعتبرون السيرة الذاتية قوام النرجسية، وبذلك يبعثون الأسطورة من مرقدها إعلاء من قيمة الأنا وشأنه... يمتثل كاتب السيرة الذاتية- أحيانًا- لأسطورة نرجس، فينهض بتركيب الشخصية المثالية الأثيرة لنفسه لبواعث متعددة، نذكر منها ما يلي: الدفاع عن النفس، الاعتداد بالذات والتباهي والاحتفاء بها، أداء دور الضحية" (الكتاب، ص15). إن ما يدعو، من منظور الكاتب، إلى مقارنة هؤلاء القراء بنرجس هو "اكتفاؤهم بسطح الأمور دون النفاذ إلى عمقها وكنهها". أما الفئة الأخرى من القرّاء فهم الذين يتمحور تفكيرهم في السيرة الذاتية حول السؤال المتعلّق بالطرائق التي يعتمدها الكاتب لإعادة تمثيل حياته الشخصية، خاصّة إذا عرفنا أن كاتب السيرة الذاتية في تفاعله مع تجاربه وتجارب الآخرين، يعزّز محكياته بكثير من العناصر بهدف دعم أثر الواقع. وعليه، فهؤلاء القرّاء يفهمون السيرة الذاتية بشكل مغاير، يتأسس على وعي عميق باستحالة القبض على الحياة الداخلية من قبل الكاتب، وأن التطابق مع ذاته أمر متعذّر، فكلّ ما تسعى إليه السيرة الذاتية هو أن تعطي صورة خاصّة عن نفسها. وضمن هذه الدائرة يتحرّك التفكير الذي يبلوره المؤلّف، مستفيدًا من السيميائية الذاتية، حول السيرة الذاتية التي أصبحت في العقود الأخيرة تَستثمرُ مساحات التخييل لأغراض عديدة، وبفعل التحوّلات التي عرفتها "استطاعت أن تستقطب الاهتمام بها، وترتقي من خطاب الحقيقة إلى خطاب الجمال الذي كان - من قبل- حكرًا على الرواية ومتوقفًا عليها" (الكتاب، ص37). وهذا ما "يستدعي تناولها بالمفاهيم الما بعد حداثية لمراجعة كثير من المفاهيم التقليدية التي كانت تراهن أساسًا على توطيد المشابهة والمطابقة بين الكتابة والوجود" (الكتاب، ص38).


إذا كان الدّاهي يَنطلقُ من الأفكار المختلفة لمنظّري السيرة الذاتية أمثال فيليب لوجون، كريستين مونتالبيتي، أرنو شميت، فيليب كاصباريني، أرنو غينو، سوزان روبان سليمان وآخرين، فهو لا يرمي، من ذلك، إلى تفكيكها وهدمها، رغم أنه يبدي مجموعة من الملاحظات حول كثير من الافتراضات مستندًا إلى ما توفره النصوص المعاصرة من إمكانات فنية تَفرضُ مراجعة أشكال الفهم السائدة عن السيرة الذاتية، وإنما يأتي بها في مسعى للبناء عليها بشكل يَفتحُ مسارًا مختلفًا لقراءة الانزياحات الفنية التي تنطوي عليها التجارب الجديدة في حقل السيرة الذاتية، والمغامرة التخييلية التي يجري الخوض فيها سعيًا للقبض على الحقيقة الملتبسة، بِشكلٍ يبدو معه أن "الأدب لا يتيح إمكانية العثور على الذات إلا في شكل صورة ناقصة أي في شكل شبح أو ظل" (الكتاب، ص17). ولعلّ ما نلاحظه، أيضًا، هو أن الباحث في سياق تناوله للأسئلة التي أثارها منظرو السيرة الذاتية، يُركز على النوع الأدبي نفسه وتحولاته الجمالية بصرف النّظر عن العناصر التي يشترك فيها مع أجناس أدبية أخرى. بالطّبع لا يُنكرُ المؤلّف أنّ السيرة الذاتية تُمثلُ ملفوظًا واقعيًا، وأنها تستثمر التخييل بجرعات مختلفة حرصًا من الكاتب على الاقتراب من القارة المجهولة التي هي ذاته، وسعيًا إلى تقديم صورة مثلى عنها (الكتاب، ص41)، لكنّه يرى في هذا النّوع الأدبي الذي تزايد الاهتمام بمختلف ألوانه في العقود الأخيرة، مزيجًا بين الواقعي والتخييلي، الحقيقي والمزيف، الذاتي والجماعي، الجوهري والعرضي. من هنا فقد أدّى تطور السيرة الذاتية وتعدّد محكياتها وتداخلها إلى الحدّ الذي ما عاد معه في الإمكان رسم حدود بينها، إلى وجود منطقة عازلة تَتفاعلُ فيها ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، وهي "لا تفصل بينهما كما قد نتوهم بل تسعف على تلاقحهما وتقاطعهما وتشابكهما، مما يفضي إلى توالد أنواع سردية جديدة تعيد تمثيل الواقع بطريقة غير مألوفة" (الكتاب، ص32). ويُمكنُ القول إن هذه المنطقة الوسطى التي تَفصلُ بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، تشكّل السّؤال الأساس الذي يهتمّ به الداهي في هذا العمل النقدي المثير للاهتمام، محتكمًا إلى "المواقع التي يشغلها الكاتب أو قرينه في المحكيات الذاتية على وجه الخصوص، والمقاصد التي يتوخى إيصالها إلى مخاطبه، والقدرات التأويلية التي يستخدمها في تحريك المؤشر واضعًا النصوص في المناطق التي تناسبها" (الكتاب، ص42).



جنس أدبي غير محدّد تحديدًا دقيقًا

من بين النتائج التي يُمكنُ أن تستخلص من كتاب "السارد وتوأم الروح" أن السّيرة الذاتية تتطور أساليبها وجمالياتها، والاستراتيجيات السّردية المعتمدة من قبل كتّابها لتمثيل ماضيهم، بشكل يصعب معه الجزم بأن هذا الجنس الأدبي، وقد غدا ممارسة اجتماعية أساسية، محدّد تحديدًا دقيقًا، رغم الجهود النّقدية المهمة التي بذلت في مسعى لتعريفها ورسم حدودها، مثل جهود المنظّر الفرنسي فيليب لوجون، كما أنها تَسمحُ للقارئ من خلال تجاربها الحديثة التي تُراهنُ على التمويه والتخفّي والمخاتلة، أكثر مما تُراهنُ على الصّدق والمشابهة، أن يتعرّف، انطلاقًا من تعدد أشكالها وانطواء كلّ واحد منها على خاصيات شعرية مميزة، على عدم استقرار وضعها النظري، فضلًا عن المفارقات التي تبرزها إعادة قراءة الفكر الذي تنطوي عليه نصوصها. وعليه، يُمكنُ القول إنه من خلال تحويل التركيز من التمثيل إلى الاصطناع، والاهتمام بالكشف عما تنطوي عليه السير الذاتية من معطيات قد تفيد في إعادة بناء الحقيقة، وملء ثقوب الذاكرة، استطاع محمد الداهي أن يعيد التفكير في العلاقة بين الكتابة والوجود من منفذ مجموعة من القضايا؛ ومن ضمنها قضية الزمن، وقضية الحقيقة، وقضية صورة الكاتب. ولا شك أن قارئ هذا الكتاب المهم سوف يتبيّن بشكل واضح أن السيرة الذاتية وهي تستثمر الآفاق الرّحبة التي يرتادها الكتاب لسرد حيواتهم من وراء حجاب أو ستار، مدفوعة بالتفكّك الذي طاول أطروحة التطابق بين الكلمات والأشياء، لم يعد يُنظرُ إليها على أنها ملفوظ واقعي يضطلع بإنجاز تمثيل صادق أو حقيقي لماضي المترجم لذاته، وإنما ينظر إلى علاقتها بالمؤلف على أنها علاقة يؤدّي فيها التخييل دورًا مؤثرًا، حرصًا على النقد الذاتي ومساءلة الأوهام وتفكيك أشكال التمركز حول الذات. ومن هذه الزاوية، يَتضحُ أن السؤال الخاصّ بهذا الجنس الأدبي لم يعد هو السؤال المتعلّق بما إذا كان مشروع السيرة الذاتية يمثّل الصورة الحقيقية للكاتب، ولكن سؤالها صار- في هذه المرحلة التي تنفتح فيها على كثير من السجلات والأدوات والأفعال من قبيل إعادة التشكيل والتنسيق والانتقاء- هو معرفة كيف يتحرّك كاتب السيرة الذاتية في مساحات التخييل الطليق لبناء الهوية السردية بشكل أكثر تحرّرا، وأكثر قدرة على البوح والمساءلة النقدية.

*باحث من المغرب.

هوامش:

1.    بيير ماشري، بم يفكّر الأدب؟، ترجمة جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009، ص25.
2.    فيليب دوفور، فكر اللغة الروائي، ترجمة هدى مقنّص، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2011، ص39.
3.    Christine Plasse, Les écritures du moi : conscience de soi et représentations sociales, revue Sociologie de l’art, 2004/1, 2004, p109.
4.    محمد الداهي، السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2021، ص21.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.