}
قراءات

محمد روحي الخالدي و"المسألة الصهيونية".. مطمورات فلسطينية

صقر أبو فخر

16 مايو 2021



في عام 1985، وبينما كنتُ في مكتبة مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت أتصفح، كعادتي الصباحية، الصحف اليومية، وأترصد الجديد من المنشورات الوافدة، رأيتُ فوق إحدى طاولات المكتبة صندوقًا كرتونيًا يحتوي صورًا وأوراقًا وإحدى المخطوطات. وعلمتُ من أمينة المكتبة، آنذاك، أن محتويات ذلك الصندوق تعود إلى الأستاذ وليد الخالدي، وقد حُمل الصندوق من منزله في بلدة شملان الجبلية إلى المكتبة في بيروت خوفًا من الفقدان، أو التلف، خصوصًا أن المنطقة القريبة من شملان كانت تعرضت في عام 1983 لمعارك أهلية مسلحة في ما سُمّي "حرب الجبل". وحين أنعمتُ النظر في المخطوطة لفتني عنوانها "السيونيزم"، وأن مؤلفها هو محمد روحي الخالدي، وأن تاريخ تأليفها يعود إلى عام 1913. وقد كُلفت السيدة ميلي زيادة تنضيد حروف تلك المخطوطة على الآلة الكاتبة تمهيدًا لتحقيقها بحسب الأصول. وميلي زيادة هي زوجة ألفرد زيادة، شقيق المؤرخ نقولا زيادة، الذي كان ينادي شقيقه بعبارة "ألف قرد" لشقاوته في الصغر. وحين فرغتْ ميلي زيادة من تلك المهمة قمتُ بمراجعة النسخة المطبوعة، ومطابقتها على الأصل المخطوط، فوجدت أن الزميلة الطابعة تصرفتْ ببعض عبارات المخطوطة وألفاظها، وهذا غير جائز البتة، كما هو معروف في قواعد نسخ المخطوطات. ويمكنني القول الآن إن ما ظل عالقًا في ذهني منها، بعد 35 سنة على قراءتها أول مرة، هو استخدام محمد روحي الخالدي عبارة "الولايات المتفقة"، بدلًا من الولايات المتحدة، التي تردُ في الكتاب المطبوع بصيغة "الممالك المتحدة الأميركية"؛ ولعل ذلك من آفات الذاكرة، أو من هفوات التحقيق. وكم تندرتُ مع بعض الأصدقاء على كلمة "أفف"، التي وردت في بعض سطور المخطوطة. وهذه الكلمة، بهذه الصيغة، بلا معنى، وإنما هي "أفندي"؛ ففي الحقبة العثمانية كانت كلمة "أفندي" تطلق على الموظف الحكومي، وتُكتب هكذا: "أفف". ثم إن تلك المخطوطة نامت في أدراج الأستاذ وليد الخالدي طوال تلك الفترة، إلى أن قُيّض لها أن ترى النور في عام 2020 بمقدمة وافية بقلم محققها وليد الخالدي. وكان محقق هذه المخطوطة كتب مقالة تعريفية بها في الكتاب التكريمي لقسطنطين زريق الموسوم بعنوان دراسات فلسطينية (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1988).



وفي نهاية تلك المقالة وَعَدَ وليد الخالدي بأن تنشرَ مؤسسة الدراسات الفلسطينية قريبًا النص الكامل للمخطوطة في كتاب مستقل. لكن كلمة "قريبًا" طالت حتى بلغت 32 سنة، وها هو النص الكامل يصدر حقًا بعدما أمضى في الأدراج نحو ثلث قرن، وهو يحمل عنوان "السيونيزم"، أي المسألة الصهيونية ـ أول دراسة علمية بالعربية عن الصهيونية، بيروت ـ القدس: مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية، 2020، تحرير وتقديم وليد الخالدي، 198 صفحة.


ماذا في المخطوطة



تتألف المخطوطة من ثلاثة أثلاث: الثلث الأول عن الصهيونية وعلائق اليهود بالأمم الوثنية والمسيحية، وبالعرب قبل الاسلام وبعده. والثلث الثاني مقتبس في معظمه من رسالة نجيب نصار عن الصهيونية المنشورة في عام 1911. أما الثلث الثالث فهو خاص بأسماء المستعمرات اليهودية في فلسطين. ويتوزع الكتاب على موضوعات تفصيلية شتى، مثل التوراة والوعود الصهيونية، والتلمود والوعود الصهيونية، وتاريخ اليهود من موت الملك سليمان إلى خراب الهيكل الثاني، ثم تشتت اليهود، صعودًا إلى بدايات الصهيونية الحديثة، وظهور تيودور هيرتسل، وعقد المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897، والمؤسسات المالية اليهودية، والفرق والأحزاب الصهيونية، وأخيرًا المستعمرات اليهودية في فلسطين.



وفي الكتاب ثلاثة ملاحق: الأول هو الفرمان السلطاني في شأن المكتب الزراعي للجمعية العمومية الإسرائيلية، والثاني عن متصرف القدس مهدي بك، والثالث عن التصرفات المشينة للمتصرف رشيد بك.
بدأ محمد روحي الخالدي يكتب "السيونيزم" في مدينة بوردو الفرنسية، وظل يضيف إليه وينقحه حتى وفاته في الأستانة في 6/8/1913 وهو في التاسعة والأربعين (مواليد 1864). وكان نجيب نصار المولود في عين عنوب من أعمال جبل لبنان في عام 1867، ونزيل مدينة حيفا، قد نشر رسالة عنوانها "الصهيونية: ملخص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى عام 1905"، (حيفا: مطبعة الكرمل، 1911). وهذه الرسالة إنما هي ترجمة لمقالة طويلة في "الموسوعة اليهودية"، كتبها ريتشارد غوتهيل. وقد وضع نجيب نصار عليها تعليقات وشروحًا، ورفض قبول كثير مما ورد فيها. وهذه المقالة التي ترجمها نجيب نصار ونشرها في عام 1911 هي نفسها التي استند إليها محمد روحي الخالدي في مخطوطة السيونيزم، لكنه لم يلتفت إلى شروحات ونقائض نجيب نصار. ومع أن نجيب نصار أشار إلى المرجع، أي إلى الموسوعة اليهودية، إلا أن الخالدي نقل النص من دون الإشارة إلى المصدر البتة. وكان الدافع لدى نجيب نصار إلى إصدار تلك الرسالة هو النقاش الذي دار في مجلس المبعوثان في اسطنبول في عام 1911، بين محمد روحي الخالدي، وسعيد الحسيني، اللذين أثارا قضية الخطر الصهيوني على القدس وفلسطين، وبين الصدر الأعظم حقي باشا الذي استهان بالصهيونية. وكانت جريدة "طنين" تناصر رأي حقي باشا، الأمر الذي دفع نجيب نصار إلى إصدار رسالته تلك لإقناع الصدر الأعظم، وجريدة "طنين"، بالخطر الداهم على فلسطين، استنادًا إلى ما يورده اليهود أنفسهم في موسوعتهم.
يقول وليد الخالدي إن محمد روحي الخالدي اعتمد نص رسالة نجيب نصار اعتمادًا حرفيًا في الفصل الخامس من المخطوطة، وفي غيره من الفصول، ثم أضاف إليها بعض الفصول التاريخية عن أحوال اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام، وعن معاملة الممالك الاسلامية لليهود، ومقارنة ذلك بمعاملة الممالك المسيحية (وليد الخالدي، المقدمة، ص XXV). ولعل قارئ المخطوطة سيعتقد، للوهلة الأولى، أن ما أورده محمد روحي الخالدي عن اليهود واليهودية ونشوء الصهيونية هو من بنات أفكار الخالدي. غير أن ما جاء في كتاب الخالدي عن اليهود إنما هو الرواية الصهيونية، كما وردت في الموسوعة اليهودية، وهي مقتبسة من رسالة نجيب نصار المذكورة. وهذا الاختلاط يجعل روحي الخالدي كأنه يتبنى الرواية الصهيونية عن التاريخ اليهودي، وعن مركزية مدينة القدس في الدين اليهودي، خصوصًا أنها تحتوي قبور الأنبياء اليهود، بحسب الرواية اليهودية نفسها، وهو أمر غير صحيح من وجهة نظر التاريخ العلمي والمكتشفات الآثارية والنبشيات الحديثة.



بعد 108 سنوات على كتابتها، فإن هذه المخطوطة لا تضيف أي جديد إلى معارفنا عن الصهيونية، وعن تاريخ الصهيونية، وعن بدايات هجرة اليهود إلى فلسطين، وهو أمر طبيعي في ميدان التاريخ؛ فالمتقدم أقل تفصيلًا من المتأخر. وهذه المخطوطة لم تساهم في إيقاد وعي الفلسطينيين بمخاطر الصهيونية، كما فعلت رسالة نجيب نصار، لسبب بسيط هو أنها لم تنشر قط، وظلت قابعة بين الأوراق القديمة للعائلة الخالدية، وفي عتمة خزائن المحفوظات. وإن نشرها الآن هو عمل محمود، ولا بد منه بالتأكيد، لأنها تنتمي إلى النصوص الفلسطينية المخطوطة، والتي يجب عدم إبقائها في الكتمان مهما كان مضمونها ومستواها العلمي، أو الفكري.



ملاحظات لا بد منها
صدرت المخطوطة، إذًا، بمقدمة وافية وضافية من المؤرخ وليد الخالدي. وحبذا لو جرى الاهتمام، بصورة أفضل، بهذه المخطوطة في أثناء تحقيقها، أو في أثناء تحريرها، لربما كان في الإمكان تجنب الملاحظات التالية:
1 ـ ورد في الصفحة LIX وLXI أن عنوان كتاب هيرتسل هو "الدولة اليهودية"، لكن المتفق عليه علميًا هو دولة اليهود Der Judenstaat، لا "الدولة اليهودية".
2 ـ جاء في الصفحة V (الهامش 3) أن مؤلف كتاب "إظهار الحق" هو رحمة الله الكيرواني. والصحيح: الكيرانَوِي، مع أن كنية "الكيرواني" ترد في مصادر عدة، وهي غلط.
3 ـ في الصفحة 8، وردت "حادثة أنثيوكس". وكان يجب تعريف هذه الحادثة التي تُنسب إلى صانعها أنطيوخوس الرابع، أو أنطيوخوس أبيفانوس. وتقول الرواية اليهودية إن أنطيوخوس حين احتل القدس في عام 168 ق. م. أحرق جميع نسخ العهد القديم، وأمر بقتل كل مَن توجد لديه نسخة من هذا الكتاب. وراح يكرر فعلته هذه في كل شهر، لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة، ثم توقف.
4 ـ ورد في الصفحة 10 "سفر ويزدم"، و"سفر الإكليزياستيك". وكان من الملائم إيضاح ذلك، ولو بهامش بسيط، بوضع عبارة "سفر حكمة سليمان" بين معقوفين أمام "سفر وزدم"، و"سفر يشوع بن سيراخ" أمام سفر الإكليزياستيك، لأن هاتين التسميتين غير شائعتين حتى في الدراسات اليهودية.
5 ـ وردت العبارة التالية في الصفحة 15: "بعد انحطاط ثبت عاصمة المصريين...". ما هي "ثبت" هذه؟ إنها ثيبة، أو طيبة القديمة، وهي اليوم مدينة الأُقصر المشهورة. وكان من الأفضل لو تم إيضاحها على هذا النحو.
.6 ترد كلمة "هتكوه" مرات كثيرة (ص 26 و114 و115). وكي لا تُقرأ هَتَكُوهُ، كان من المفضّل رسمها هكذا: هاتكفا، أي الأمل، على أن توضع هاتكفا إما بين معقوفين، أو في الهامش.
7 ـ في الصفحة 36 جاءت الجملة التالية: "أسسوا المدارس التلمودية في مدن سور sora وبومباديتا ونهرديه". ولا أدري لماذا وردت "سور" من دون حرف الألف الصوتي، كما هو مكتوب في الاسم الأجنبي، أي سورا؟ ثم إننا لم نعرف أين تقع هذه المدن المجهولة التي تبين لنا أنها تدعى سورا (لا سور)، وبومباديتا، ونوهدرا (لا نهرديه). والمعروف أنها مدن قديمة في العراق القديم، أو بلاد ما بين النهرين.
8 ـ ورد اسم اسماعيل بن نغزلة اليهودي، ويوسف بن نغزلة (ص48 و49)، والصحيح إبن النغريلة. وقد انتقل الغلط، بطبيعة الحال، إلى الفهرس.
9 ـ في الصفحتين 68 و70، وغيرها، جاءت عبارة "شوفيفي زيون". والشائع هو "حوفيفي تسيون"، أي "أحباء صهيون". فما ضرّ لو وُضعتْ الصيغة الأخيرة بين معقوفين؟
10 ـ وردت عبارة "فرقة بوالي زيون" (ص111). وحبذا لو جرى شرحها على أنها حزب بوعالي صهيون، أي حزب عمال صهيون.
11 ـ في الصفحة 117 جاءت الجملة التالية: "... ثم أَسست [جمعية الأليانس] تحت إدارة شارلز نيتر والبركون عام 1869 مدرسة مكفيه يسرائيل". مَن هو البركون هذا. وما يكون؟
12 ـ وردت مستعمرة ميشا Mescha في الصفحتين 130 و143. وأعتقد أنها هي مستعمرة مسحة (لا ميشا) في لواء طبرية.
13 ـ لم نفهم قط ما معنى "مستعمرين تاوايل ومستعمرين المرج" في الجملة التالية: "ينقسمون [سكان مستعمرة المطلة] إلى مستعمرين تاوايل Tawael ومستعمرين المرج" (132)؛ لقد استغلق علينا فهمها.
14 ـ وردت كلمة "قوجان"، و"قوجانات"، مرات كثيرة، خصوصًا في الصفحات 133 و134 و160. والجاري على الألسنة، وفي الكتب، هو "الكوشان"، و"الكواشين"، أي أوراق الطابو (سجلات الملكية).
15 ـ قرأنا في الكتاب كلمة "خرجواه" (ص134)، وكلمة "خرجراه" (ص160)، والصحيح في الحالتين خرجراح أي نفقات السفر.
16 ـ  في هامش الصفحة 134، وردت جملة "مثل الشاعر الريماوي"، وكان من الأفضل الإشارة إلى أن المقصود إليه هو علي الريماوي.
17 ـ جاءت عبارة "رجال المابين" في صفحات عدة مثل LXII و87 و88 و133. وكان يجب تعريف هذه العبارة التي تعني موظفي ديوان السلطان العثماني. والمابين هو القسم الذي كان يقع بين جناح الحريم ودوائر القصر السلطاني، حيث كان الخليفة العثماني يُمضي وقته بين هذين القسمين.
18 ـ ورد في الفهرس اسم قرية أُم الجمال، وتعريفٌ بها يقول إنها قرية في الأردن. ثم بعدها مباشرة ورد اسم أُم الجمال، باعتبارها مستعمرة يهودية. وبالرجوع إلى متن الكتاب (ص140 و143)، وجدنا أن أم الجمال هي مستعمرة يهودية، ولا علاقة لها بقرية أم الجمال الواقعة عند الحدود السورية ـ الأردنية، والتي وُجد فيها أحد أهم النقوش العربية القديمة، وعُرف باسم "نقش أم الجمال". فلماذا فُهرست قرية أم الجمال الأردنية فيما الوارد في متن الكتاب هو مستعمرة أم الجمال وحدها من دون غيرها؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.