}
عروض

"بورخس وأنا".. موسوعة أفكار




خورخي لويس بورخس الشاعر والناقد والفيلسوف الأرجنتيني (1899- 1986) عندما كان يقرأ، والقراءة حياته كما يعترف، كان يفعل ذلك بتركيزٍ وعنفوانٍ صوفي، وبإحساس متوهج بالبياض، يقرأ ولكنه يكتب، يشيد عمارته الأدبية ويرفعها نحو الذُرى، فيختلط الواقع بالسحر، وهذا سرُّ عظمته.

في كتاب "بورخس وأنا (حوارات وأسرار تنشر لأول مرة)"، والذي صدر حديثًا عن دار سطور في بغداد (ترجمة: حسين نهابة)، نقرأ ثماني عشرة مقالة لمجموعة من الكتَّاب، ومنهم الشاعر الإسباني لوركا، والكاتب أليخاندرو كاسونا، والروائي والمسرحي الألمانى هرمان هسَّه، والفيلسوف البريطاني برتراند راسل، والشاعر البريطاني تيد هيوز، والفرنسية سيمون دي بوفوار، والفرنسي جان كوكتو، والأرجنتينية سوزانا مارتوريل دي لاكوني.

لوركا وأهميّة الكتاب

فدريكو غارثيا لوركا الشاعر الذي قُتل غيلةً، كان قد ألقى خطبة عام 1931 في افتتاح المكتبة العامة لقريته "فوينته باكيروز" بغرناطة يتحدَّث فيها عن أهمية الكتاب ودوره، فـ"الثورة الفرنسية" هي أوَّل عمل اجتماعي للكتاب، رغم الاضطهادات والظروف السيئة التي تعرَّضت لها. ولقد قُمعت الكتب من قبل كثير من الفئات والأديان.

ويرى الروائي هيرمان هيسَّه أن أفضل القرَّاء هم الذين يقتصرون باحتياجاتهم دائمًا على قليل من الكتب. وهناك الكثير من القرويات اللاتي لا يعرفن سوى "الإنجيل" مصدر الحكمة والسأم الداخلي والفرح، فيما يزهدن في انتزاع أي شيء ثمين من مكتبتهن العامرة.

يكتب بورخس كي لا نُصاب بالتوحش


بورخس الذي يهوى القراءة، ويكتب، كون الكتابة تحمينا من عذاب الضمير إذا لم نكتب، يقول: لستُ متأكدًا من أنني موجود فعلًا، أنا جميع المؤلفين الذين قرأتُ لهم، كل الناس الذين عرفتهم، وكل النساء اللاتي أحببتهن. بورخس يكتب كي لا نُصاب بالتوحش، ونقرأه كي لا تبقى أدمغتنا رخوة، نقرأه لنقرأ رحيق ما قرأ. فيما يدخل الشاعر البريطاني تيد هيوز في نوبة تشنجية، نوبة الموت من مرض السرطان، فيكتب إلى زوجته سيلفيا بلاث التي انتحرت، قصيدته الأخيرة ليمدِّد حياته:  

"ما الذي حدث في تلك الليلة؟

ليلتك الأخيرة تلك التي

برقت فيها السماء مرتين أو ثلاثًا.

في وقت متأخر من مساء الجمعة

رأيتكِ للمرة الأخيرة على قيد الحياة

محتُرقةً في منفضة السجائر ببسمة غريبة

وتلك كانت آخر رسالة لي.

هل أنا مَن أتلف خططكِ؟

أم أنكِ باغتيني قبل أن أتوقع حدوثه؟

وبعد ساعة رحلتِ

لمكان عصيٌّ على العثور.

وأنا، مع رسالتك في يدي،

شعاعٌ لم يستطع أن يطال الأرض

مبتعدًا عن أبوابكِ الحمراء المُغلقة التي

لن يفتحها بعدكِ أحد".


فيلسوف مثقل بالحب

من شاعر يعتصره الحزن إلى فيلسوف مثقل بالحب؛ يقول برتراند رسل في مقالته "لأجل ماذا عشت": هناك ثلاث عواطف بسيطة لكنها كثيفة بقوة، تحكَّمت بحياتي: التوق للحب، البحث عن المعرفة، ورأفة لا تُمل لمعاناة البشرية. هذه العواطف الثلاث كانت تتأرجح، مثل ريح شديدة، بين هنا وهناك عبر درب غير مستقر، فوق محيط من العذاب عميق حتى حافة الخيبة.

برتراند رسل يتحوّل في هذا النص من رجل الأفكار إلى رجل العواطف


برتراند رسل يتحوّل في هذا النص من رجل الأفكار إلى رجل العواطف، لقد بدا متألمًا، لكن ليس كما الكاتب الإسباني ميغيل أونامونو الذي يتساءل في نصِّه سؤالًا يكشف عن لهيب حماسته للعدالة، عن اللهيب الذي يتَّسم بالحركة الدائمة، وقد هزمَ الألم والخوف: "ما الذي تريد أن نفعله نحن الفقراء، سوى أن نُطعم الأغنياء أولادنا؟". أونامونو يرسم صورة الإنسان بدمه.

فيما تكتب الباحثة الأرجنتينية سوزانا مارتوريل دي لاكوني عن "سرفانتس واللغة الإسبانية" بالقول: إن اللغة التي يعكسها سرفانتس في تحفته هي اللغة الإسبانية المُتداولة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

الكاتب رافائيل سانجيث فيرلوسيو في "حجر الهيكل الأخير" وحول اللغة يكتب: ليذهب كل هذا إلى الشيطان. ويُقال إن فيرلوسيو سقط من حصانه حين وجد نفسه أمام كتاب "نظرية اللغة" للكاتب كارل بوهلر الذي كشف له كل ما يحتويه الأدب من مماطلة وزيف مهما كان لامعًا أو سطحيًا، إذا لم يُتعمق به. المحادثة تمكنت من إقصائه كثيرًا، ربما عن ديونيسيو دي تراثيا، مؤسس لبنة القواعد الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد. لكن دون شك كان أساتذته كارل بوهلير، ماكس ويبر وثيودور أدورنو، هم الذين حملوه على الإيمان بأن الجمال الأدبي رهين بنائه أكثر من كلماته، فاقترح فيرلوسيو التعمق فيه حتى امتلاك سره بمساعدة الفيتامين المُنبه.

الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار في نصوصٍ منتقاة تبدو كما لو أنها تكتب تراجيديا عن لا جدوى الحياة طالما أن القاتل هو المتفوق: الإنسان يسمو على الحيوان بالمجازفة في حياته، لا في منحها، وعليه فإن البشرية تذكر بتفوق الجنس الذي يقتل وليس الذي يتناسل.

"بورخس وأنا" يمكن القول إنه كتابُ معرفةٍ وموسوعة أفكارٍ، تنقل للمرة الأولى إلى اللغة العربيّة، ولعلّ اللافت هنا العنوان الملتبس للكتاب، والجاذب للقارئ، كونه يوحي بأن المقالات والقصائد والحوارات هي مع أو عن بورخس؛ فيما بورخس لا يملك سوى مقالة واحدة.

وتأتي أهميّة الكتاب في أنّ معظم مواده تدفعنا للإحساس بالجمال، وبجمال الإنسان. فكل مادةٍ منها تأخذنا إلى الدهشة، طالما تكمن الدهشة في تلك العلاقة الجدلية بين ما هو حسّي وما هو منطقي، فنعيش مع نصوصٍ وإن اختلفت مساراتها وغاياتها، والزمن الذي كُتبت فيه، إلا أنها ممتلئة بقوة الحياة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.