}
قراءات

في راهنية المُنجز النقدي لمحمد برادة

محمد الداهي

27 يونيو 2021
حافظ النقد المغربي على حضوره وإشعاعه في العالم العربي منذ 1970 إلى الآن بفضل جهد النقاد المغاربة الذين تعاقبوا على أداء دورهم النقدي باقتناع ومسؤولية واقتدار. ومن بين المرتكزات التي استند إليها النقد المغربي (وخاصة الروائي منه) لتعزيز مكانته في العالم العربي أذكر ما يلي:

1 ـ المثاقفة: أسعفت عوامل المثاقفة النقد المغربي على الانفتاح على المستحدثات المعرفية والمنهجية الكونية، والاستفادة منها، وتوطينها مع مراعاة خصوصيات الثقافة المغربية وانتظاراتها. وهذا ما حفز النقاد المغاربة على تجديد نُسغ النقد المغربي باعتماد مناهج جديدة (السرديات، والسيميائيات، والهرمنطيقا، والتداوليات)، وإحداث القطيعة مع المناهج التي كانت تسقط معطيات خارجية، أو تصدر أحكامًا انطباعية عليه.
2 ـ الوعي النقدي: احترس النقاد المغاربة، بحكم تكوينهم الثقافي والسياسي، من الإرث الشكلاني والبنيوي، رغم استفادتهم من عدته المفاهيمية في استجلاء فنيَّة العمل وأدبيَّته. ولم ينجرفوا مع تيار "المقاربة التقنوية" التي كانت تعد وقتئذ تقليعة عالمية. وجدوا ضالتهم في البنيوية التكوينية وسوسيولوجيا النص الأدبي والباختينية (Bakhtinisme) لقدرة هذه المناهج على استيعاب البنيات الاجتماعية والمصالح الجماعية بواسطة اللغة، والتحرر من النزعة المحايثة (Immanentisme)، وإبراز الشروط المادية المتحكمة في إنتاج النص وتلقيه. ومن إيجابيات تحلي النقاد المغاربة بالوعي النقدي أنهم ـ وفي مقدمتهم محمد برادة ـ يتعاملون مع النص بصفته كينونة حية تسعفنا على تجديد الأسئلة لفهم الوضع الإنساني، وتعيننا على التحاور مع ذواتنا والآخرين، وتجعلنا نحيا ونتوقع بدائل ممكنة للعيش الكريم.
3 ـ الحداثة: يراهن محمد برادة، في إطار دفاعه عن الحداثة الثقافية، على دور الرواية بوصفها أداة لدمقْرطة المجتمع وتحديثه، وتجاوز وظيفتيْ الدعاية والتبرير الأيديولوجيين، ونقد التصورات المغلوطة، وتمثيل رموز المتخيل الشعبي وعناصره، واستيحاء كل ما يمت إلى الصراع والتجابه وتعدد الرؤى بصلة. إن الرواية، عمومًا، تضطلع بدور مزدوج "لانتقاد القديم والسائد وابتداع الأشكال والصيغ والأسئلة التي تحفز المخيلة والإرادة لتشييد الجديد"(1). وفي هذا الصدد، أعاد برادة الاعتبار إلى الرواية التي كانت إلى حد قريب تعتبر رديفًا للتسلية والمتعة، وأعطاها المنزلة المستحقة لمساءلة الأيديولوجيا المهيمنة، واستيعاب الأصوات المتصارعة في المجتمع، واستحداث أشكال وصيغ جديدة، والتغلغل في نفسية الشخصيات، ورصد آلامها وآمالها. إن اضطلاع الرواية، في نظر برادة، بتشكيل معالم الحداثة رهين بإزاحة كل أشكال الرقابة والمنع والمصادرة التي تكبح الخيال، وتعيد إنتاج البنيات الاجتماعية والثقافية السائدة. ولهذا تكتسي الديمقراطية، في تصوره، مكانة خاصة لأنها تضمن حرية التعبير والتنوع الثقافي، وتحفز على استكشاف الأصقاع المجهولة في المجتمع العربي، وتنمي لدى الفرد الوعي بكرامته ومواطنته.




يندرج كتاب الباحث الناقد إدريس الخضراوي (2) ضمن سياق العودة إلى منجز محمد برادة تقديرًا لما بذله من جهد لإرساء النقد الأدبي الجديد والثقافة المضادة، وتنويها بسعيه لخلق المصالحة بين النقد والنص، وببصيرته الثقافية التي جعلته خلال مسيرته النقدية محتاطًا من البنيوية التقنية والنزعة الإستيطيقية اللتين تفصلان النص عن شروط الإنتاج والتلقي، وتغضان الطرف عن أداء الكتاب في تمثيل الوجود الإنساني، واقتراح تصورات وبدائل جديدة لفهم الوضع البشري، وتغييره نحو الأفضل "أليس من مصلحتنا نحن تبني وجهة النظر هذه؟ وتحرير الأدب من المشهد الخانق المحتبس فيه، والمصنوع من ألعاب شكلانية، وشكاوى عدمية، وتمركزًا أنانيًا على الذات؟ يمكن لهذا في دوره أن يجذب النقد نحو آفاق أوسع، بإخراجه من الغيتو الشكلاني الذي لا يهم إلا نقادًا آخرين، وفتحه على السجال العريض للأفكار الذي تشترك فيه كل معرفة للإنسان"(3).




استوعب الخضراوي هذا الوعي النقدي بإثارة أسئلة النقد والأدب من خلال تجربة رائدة، ألا وهي تجربة محمد برادة النقدية؛ وذلك سعيًا إلى إضاءتها من الجوانب كلها، وبيان ملاءمتها وجدواها، وإثبات راهنيتها في سياق التحولات المعرفية والنقدية الراهنة. ومن ميزات الكتاب أذكر ما يلي:
1 ـ أنجز الخضراوي كتابًا نقديًا رصينًا عن المنجز النقدي لمحمد برادة، في تساوق مع العمل الجماعي الذي أشرفت عليه (البحث عن الذات بين جيلين، دار الأمان، 2017) والأطاريح الجامعية التي ينجزها الطلبة في وحدة تكوين الدكتوراة "آداب وفنون متوسطية" التي كلفت بتنسيق شؤونها، تطلعًا إلى تشريحه من منظورات مختلفة، والتوقف عند لغته الواصفة، وخلفياتها وأبعاده.
2 - يعطينا الكتاب نظرة مركبة ومجملة عن الأدوار التي اضطلع بها محمد برادة لإرساء دعامات النقد الجديد في العالم العربي بالنظر إلى ما يأتي:
أ‌ ـ ساهم في تعبيد المرحلتين التأسيسية والتأصيلية للنقد إبان العقود المتتالية في النصف الثاني من الألفية الثانية بالاستناد إلى الثقافة المضادة والحداثة باعتبارهما نافذتين للانفتاح على مكاسب الثقافات الأخرى، والتحرر من قيود التقليد والجمود، والدفاع عن القيم الإنسانية الكونية. لم يكن الانحياز إلى الثقافة الغربية ترفًا فكريًا، أو استلابًا، بقدر ما "كان اختيارًا واعيًا بمرجعيات محددة، قومية كانت أم كونية؛ فترتبت عليها جملة من النتائج يمكن تلخيصها في المزاوجة بين النقد الأدبي بوصفه تأملًا وتفكيرًا في الأدب، والدفاع عن حضوره في المجال العام من خلال التأويل الذي ينصب على مكونات النصوص وخطاباتها"(4).
ب ـ أبرز الخضراوي كيف يداري محمد برادة غوارب النقد الغربي، ويجاري وتيرتها واندفاعها بترو ومرونة وكياسة. وهذا ما جعله يجدد عدته النقدية، ويند عن التقوقع في خندق واحد. وهكذا يتبين كيف تدرج من النقد الواقعي، أو الأيديولوجي، إلى النقد الجديد (السرديات، والسيمائيات، ونظرية التلقي، وسوسيولوجيا الأدب)، مستثمرًا ترسانته المفاهيمية، ومنفتحًا على مختلف روافده وتياراته بمواكبة مصادره، وترجمة عينة منها إلى اللغة العربية، وحفْز الطلبة على الاستفادة منها لتطوير مؤهلاتهم النقدية والعلمية في أبحاثهم وأطاريحهم.
ج ـ تخصص محمد برادة في الرواية لما تتيحه من حرية لاستنطاق الوجدان ومساءلة الوجود وتقويض لغة الخشب، ولكونها أيضًا مستودعًا للتجارب الإنسانية الثرة، وبوتقة تنصهر فيها الأجناس المتخللة واللغات والأصوات المتعددة. واستطاع برادة، بفضل تجربته وحنكته ومراسه، أن يبلور لغة واصفة متناسقة، أسعفت النقاد العرب على تجديد تصوراتهم للأدب والنقد، وإعادة الاعتبار إلى الأجناس المهمشة، وفي مقدمتها الرواية.




د ـ أعطى محمد برادة وضعًا اعتباريًا لجملة من المفاهيم الأساسية في الثقافة العربية؛ ومن ضمنها "الحداثة" و"الالتزام" و"الأدب" و"الواقعية" حرصًا على تغيير تصورنا للأدب والنقد، وإحداث قطيعة مع النقدين التأثيري والتقليدي، وتعليل العلاقة بين الأدب والواقع، وإبراز جدوى الأدب في ظل استفحال ظاهرة التخييل الجماهيري من جراء التقدم التكنولوجي، وتعزيز استقلالية الأدب وعدم خضوعه لأي محفل سوى وضعه الخاص. و"هذا ما سيوسع دور الأدب مع التطورات العميقة التي حصلت في مجال النقد الأدبي، في اتجاه علاقة مغايرة ومختلفة، تنهض على تصور الأدب بوصفه حاملًا لمعرفة تضيء متخيل المجتمع، وتشخص تعقيدات الواقع الاجتماعي ومآسيه"(5).
3 ـ رصد إدريس الخضراوي المحطات النقدية التي مر منها محمد برادة، وهو يتفاعل مع النسق الثقافي الكوني، ويواكب الإصدارات الغربية في الآن نفسه. يصعب أن نحشر برادة في نطاق ضيق، لأنه يرفض التصنيف، أو الولاء لتيار نقدي معين. نعيد تأريخ مساره النقدي باقتضاب شديد لبيان الدور الذي اضطلع به لتأسيس الحركة النقدية العربية المعاصرة، وإبراز الاتجاهات النقدية التي أثرت في تكوينه وموقفه من الوجود. لم ينجذب إلى صورة الناقد الأكاديمي الكَلِف بمواكبة المناهج الغربية الرائدة، واستيعابها، وتشغيلها بدءًا بسوسيولوجيا الحقل الأدبي، وانتهاء بالسرديات الثقافية، ومرورًا بالإستطيقا الماركسية والبنيوية التكوينية والباختينية.



استلهم محمد برادة في كتابه (محمد مندور وتنظير النقد الأدبي 2005) المفاهيم السوسيولوجية لبيير بورديو، لاستيعاب الحقل الأدبي المصري الذي عاش في حضنه محمد مندور، ووجه ذائقته النقدية، وأثر في توجهاته السياسية. كان مطلعًا على الثقافة الغربية، ومتشبعًا بالقومية العربية، ومنخرطًا في النضال الجماهيري والمعارك السياسية المؤثرة. وتمثل نقطة الأوج في المسار النقدي والثقافي لمحمد مندور بتبنيه النقد الأيديولوجي بصفته انعكاسًا للميكانيزم المتحكم في الحقل الأدبي الجديد بعد قيام النظام الجديد (الناصرية) عام 1952. لم يكن كدّ محمد برادة في هذا الكتاب، الذي كان في الأصل أطروحة جامعية لنيل دكتوراة السلك الثالث في جامعة السوربون عام 1973 تحت إشراف أندريه ميكيل، تصيد ثغرات التصور الأيديولوجي لمندور وقصوره، أو تحجيمه أو اختزاله في قالب معين، بل سعى أساسًا إلى إبراز التفاعل المحدد للعلاقة بين المجتمع والثقافة، وبين المبدع والعوامل المتحكمة في إنتاجه.




أضحى محمد برادة، بعد هذه الفترة، يستلهم محتويات مقالاته الصحافية من وحي الإستطيقا الماركسية (جورج لوكاش، جون بول سارتر، وبليخانوف) إلى أن وجد ضالته في البنيوية التكوينية التي أسعفت الكتاب المغاربة ذوي الميول اليسارية على قطع صلتهم بالأممية البنيوية، والتحرر من نزعتها المحايثة. وبدأ تدريجيًا يتخذ المسافة النقدية تجاه البنيوية التكوينية، ويسائل جدواها وملاءمتها لتفادي إسقاط مفاهيمها على النص خشية خنق أنفاسه، وإخراس صوته، وفصله عن السياق الذي يؤطره، واحتراسًا من اختزال الرواية في صيغ ومقولات فلسفية لإثبات التماثل بين مجتمعي العمل الفني والحياة "إن مثل هذا المنهج الاختزالي كثيرًا ما يؤدي إلى إطفاء الشعلة المضيئة داخل العمل الأدبي، أو إلى إذابة الفكر النقدي الذي يشع من خلال البنيات التكوينية للرواية، ومن علائق عناصرها التركيبية والمعمارية، ومن خلال الرؤية للعالم التي تكتسب داخل الرواية بالذات، معناها النسبي كتساؤل صادر عن بنية متقطعة من بنية سوسيولوجية عامة"(6).
وهو ما حفزه على المزاوجة بمرونة بين الإطار النظري للبنيوية التكوينية والمصطلحات الإجرائية المستخلصة من الباختينية وسوسيولوجيا النص الأدبي، ومن ثم أضحت الرؤية للعالم بنية خطابية (اللغة الجماعية Sociolecte) مرتبطة أشد الارتباط بالشكل الذي يُنسِّبُ المضمون، وغدت المشاكل والمصالح الاجتماعية ملازمة للنص ومُتفْمصلةً ومُتشاكلةً في نسيجه اللغوي (التوسط اللغوي). كان للباختينية تأثير كبير على مساره النقدي خلال العقود الأخيرة من الألفية الثانية؛ مما جعله يستخدم مفاهيمها الجوهرية (الحوارية، والتعدد اللغوي، والأصوات المتعددة، والتشخيص الأدبي للغة، وصورة اللغة، والتهجين القصدي، والأسلبة) لإبراز مدى قدرة الرواية العربية على إعادة تمثيل المصالح الاجتماعية على المستوى اللغوي، ومقاومة اللغة الأحادية والثقافة المهيمنة (لغة السلطة)، وإثارة النقاش العمومي لدمقْرطة التعدد اللغوي وتدبير شؤونه (العدالة اللغوية). وفي هذا السياق ظهرت سلسلة من مؤلفاته التي استثمر فيها عُدَّته النقدية السوسيولوجية والشعرية، من دون أن يتحصَّن بخندق منهجي محدد لمُحاجَّة مناهج منافسة. كان، على جري عادته، يؤثر أن يترك لنفسه متسعًا من الحرية ليتعامل مع النص، من دون قيود، أو إرغامات مسبقة، ويتفاعل معه إيجابًا لسبر أغواره ومجاهله وجوانبه الداجية، ويبين طريقته في تخييل المجتمع والتاريخ، ويستخلص منه المعارف التي تفيد القارئ بالقدر الذي تمتعه وتطربه "ولهذا نلاحظ أن الباحثين يتجهون في السنوات الأخيرة إلى قراءة الرواية، والاشتغال عليها بأدوات مستمدة من حقلي التاريخ وعلم الاجتماع"(7).
يند محمد برادة عن التصنيف لأنه من طينة النقاد الذي لا ينضبطون لقواعد النقد الصارمة، ولا يكثرون الإحالات والاستشهادات والمراجع، ولا يثقلون تحليلاتهم بالمفاهيم. وهم على عكس ذلك يستثمرون خلفياتهم المعرفية، ويسعون إلى فهم ما يقوله النص، وليس ما يقال عنه، وينزعون أكثر إلى استنطاقه والتحاور معه، وإبداع بصمتهم الخاصة بإعادة تركيب عوالمه وتمثيلها بلغة واصفة مناسبة "وبهذا المعنى، يصعب وضع حدود صارمة تؤطر منجز برادة ضمن مرجعية محددة، فهو يستقي كثيرًا من مصطلحاته من النظريات النقدية المختلفة التي يحاورها، ليدرجها في منظومة مفاهيمه وتصوراته التي يكشف بها المنطق الداخلي للنصوص التي يحللها، والدلالات والمعاني التي تقيم فيها"(8). وهذا ما حدا بإدريس الخضراوي لأن يسمي برادة ناقدًا حواريًا يستفيد من المنجز النقدي الغربي مبرزًا فضله على تكوينه الشخصي، ومستفيدًا من أعلامه الذين أضحوا، بمرور الوقت، جزءًا من كيانه وموقفه من الوجود، ومستثمرًا أدواته في تفكيك الحواريات الخطابية والثقافية والأيديولوجية التي تحفل بها النصوص، واستيعاب ما تتضمنه من التجارب الإنسانية، وأنماط العيش، والبدائل الممكنة.




استطاع محمد برادة بصفته ناقدًا حواريًا ومثقفًا عموميًا أن يخرج النقد من حلبة الجامعة، وينزله من برجها العاجي ليجعل منه مادة ثقافية لإثارة النقاش حول القضايا الأساسية والسمات الفنية البارزة، وحفز القراء على قراءة النصوص للاستفادة من معارفها ومقترحاتها، والاستمتاع بعوالمها التخييلية، والارتقاء بالذوق العام لتحسين التفاعل مع الصنائع الثقافية والأدبية. وبهذا الصنيع، زاوج محمد برادة بين النقديْن الجامعي والثقافي، ووطد الصلة بينهما لمسايرة وتيرة النزعات الجمالية الجديدة وتطلعاتها سعيًا إلى فهم القضايا التي يثيرها النص، واستيعاب سماته الفنية، وتقويمه باعتماد الأحكام النقدية المناسبة، والاهتداء إلى الصوت النقدي الخاص (النقد بصفته صناعة إبداعية). وفي هذا الصدد لم يمت الناقد الجامعي، بل خلد إلى الراحة أو النوم (استراحة المحارب)، قبل إيقاظه لمواصلة المعارك النقدية مرة أخرى، واستعادة جدارته الفنية لاستثمارها في النقد الأكاديمي، وإصدار الأحكام السديدة لمناهضة السلطة التي تقاوم حوْكمةَ التعدديْن اللغوي والثقافي، وتحول دون دمقْرطة المعايير النقدية الموضوعية، وتعزز علائق القوى السائدة في المجتمع لإعادة إنتاج ضوابطها وقواعدها وبنياتها الذهنية من جديد "لربما لا يكون الناقد قد مات، بل جرت ببساطة تنحيته جانبًا، أو أنه يأخذ سنة من النوم، وتتثمل الخطوة الأولى الضرورية لإيقاظه، أو إيقاظها، في استعادة فكرة الجدارة الفنية وزرعها في قلب النقد الأكاديمي. إن "الحكم" هو المعنى الأول من معاني الكلمة اليونانية كريتوس Kritos، وإذا كان النقد راغبًا أن يكون مقدرًا ذا قيمة، ومهتمًا كذلك بالوصول إلى جمهرة القراء، فعليه أن يكون تقويميًا"(9).
إجمالًا، يندرج كتاب إدريس الخضراوي في إطار فتح آفاق جديدة للنقد والتفكير سعيًا إلى تقويم الممارسة النقدية في العالم العربي بالنظر إلى ملاءمتها ومردوديتها وإشعاعها وجِدَّتها، وإلى إثارة نقاش ثقافي حول أزمة النقد وعدم قدرته على تجديد نفسه، وعلى مواكبة الإصدارات الإبداعية الكثيرة التي تنشر سنويًا. تحول النقد في مجمله إلى تطبيقات، أو تمارين مدرسية، أو مقاربات تقنية لإثبات جدوى اتجاه نقدي ما، وتقديم الولاء لرواده. انتفت ذاتية الناقد، أو بالأحرى بصمته (إبداعيته) لسن طريقته الخاصة في قراءة النص وتأويله من دون الانسلاخ عن النسق الكوني. لا يمكن للناقد الأصيل أن يزعم أنه صاغ مفاهيم جديدة، وحتى وإن تحقق ذلك، فعليه أن يتداولها بين الناس في الوطن العربي وخارجه، كعلة معترف بها، لقيمتها وجدواها في المعاملات النقدية. يغرد برادة وغيره من النقاد خارج السرب، لوعيه بأن النقد "صناعة إبداعية" تقتضي من صاحبها أن يكون، علاوة على الدربة والمراس، متمتعًا بالقدرة على تمثل النص بلغة رائقة وشاعرية. وما يميز تجربة محمد برادة عن غيرها أنه ظل وفيًا للمسؤولية الملقاة على كاهله بصفته مثقفًا ملتزمًا، ومواظبًا على مواصلة منجزه النقدي الذي "تلتقي فيه هموم الذات بمواجع الإنسان والوطن وأحلامهما"(10).
كان هم إدريس الخضراوي مؤطرًا وفق نقد النقد لمحاورة التجربة النقدية لسلفه محمد برادة، واستخلاص العبر المناسبة منها، وإبراز ثوابتها ومعاملهما وتوجهاتها وخلفياتها. ينغمر الخضراوي أيضًا في النقد الحواري (الإنسان داخل الإنسان) لبيان ما يجمع بين تجربتيْ أو جيليْ السلف والخلف، ويكتب رواية التعلم بطريقة غير مباشرة لإبراز من تأثر بهم في مسيرته النقدية، وفي طليعتهم الناقد محمد برادة، ويكرس الاستمرارية النقدية لرد العجُز على الصدر، وتوقع التجديد والتغيير المنشودين.




إن عودة إدريس الخضراوي إلى التجربة النقدية لمحمد برادة تمليها، فضلًا عما سبق ذكره، اعتبارات أخرى، ومن جملتها فضلُه في تمتين الصلة بين المؤسستين الجامعية والثقافية، وسعيه إلى خلق مصالحة بين الأدب والنقد، واعتماده مرجعًا لإعادة الاعتبار إلى النقد بصفته ممارسة ثقافية وصناعة إبداعية (النقد الإبداعي)، ولمعاودة النظر فيما أسميه "اللانصونية الجديدة" (New Lansonisme) التي أضحى النص بموجبها تعلَّةً لاستحضار مقاصد صاحبه وظروفه وآرائه توجهاته، ومناقشة القضايا الثقافية والسياسية التي تستأثر باهتمامه.


هوامش:
1 ـ محمد برادة، أسئلة الرواية أسئلة النقد، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، 1996، ص 68.
2 ـ إدريس الخضراوي، الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب، أفريقيا الشرق، ط1، 2020.
3 ـ تزفيتان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، ط1، 2007، ص 52.
4 ـ إدريس الخضراوي، الكتابة النقدية عند محمد برادة، م. سا، ص 49.
5 ـ المصدر نفسه، ص.190.
6 ـ محمد برادة، "الرؤية للعالم في ثلاثة نماذج روائية: ثرثرة قوق النيل/ الزمن الموحش/ نجمة أغسطس"، مجلة الآداب، عدد خاص عن الرواية العربية الجديدة، ع 2-3، السنة الثامنة والعشرون، 1980، ص 45.
7 ـ إدريس الخضراوي، الكتابة النقدية عند محمد برادة، م. سا، ص 167.
8 ـ المصدر نفسه، ص.130.
9 ـ رونان ماكدونالد، موت الناقد، ترجمة فخري صالح، المركز القومي للترجمة بالتعاون مع دار العين للنشر، ط.1، 2014، ص 159.
10 ـ إدريس الخضراوي، الكتابة النقدية عند محمد برادة، م. سا، ص 325.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.