}
قراءات

ترسيخ التخييل في السياسي والتاريخي.. "رجال الدار البيضاء" أنموذجًا

إدريس الخضراوي

1 يوليه 2021

 


إذا جاز لنا أن نتحدث عما يُمكِنُ وصفه بأنه حالة جمالية تميّز الرواية المغربية المعاصرة مع مطلع الألفية الثالثة من خلال تجارب مجموعة من الرّوائيين، لوجدنا أنّ الوعي بالتاريخ الرّاهن والذاكرة الجمعية يتعيّنان بوصفهما من أكثر الموضوعات التي استأثرت باهتمام الكتاب المغاربة في محاولة لتمثيل الشرط التاريخي والثقافي الحافّ بالمجتمع، وتشخيص التحول الذي يُطاولُ العادات والذهنيات، والتلاشي السّريع للقيم التقليدية المكتسبة تاريخيًا في عصر ما بعد الحداثة الذي ما عاد معه في الإمكان لتلك المكتسبات أن تظلّ كما كانت في الماضي، مما يفسّر ليس فقط الاهتمام بقضايا "البحث عن هوية شخصية وجماعية، والبحث عن مرساة آمنة وسط عالم متغير"[1]، وإنما أيضًا المطالب المتزايدة بأهمية التغيير- من أجل الحرية والكرامة- الذي تهبّ أمواجه على العالم العربي بحكم الإخفاق في ترسيخ الدولة الحديثة والقيم الديمقراطية، وسطوة المظاهر الاجتماعية لما هو سطحي ومؤقت وزائل التي تبشّر بها العولمة. وإذا كان الشعر قد نهض بوظيفة التعبير عن هذه الرؤيا في السياق المغربي منذ زمن الحماية، فإن في الإمكان أن نلاحظ أن الرواية في شكلها الفني المعاصر باتت، منذ العقود الثلاثة الأخيرة، من أكثر الخطابات اهتمامًا بتمثيل القضايا الوطنية الكبرى من منظور حواري يرتكز على ترسيخ المتخيل في السياسي والاجتماعي والثقافي، في مسعى لتشييد سرديات مضادّة تستمدّ عناصرها وموادها الخام من تعدّد الرؤى والتصورات واللغات التي تَخترقُ المجتمع.

من هذا المنظور، يعدّ أحمد المديني من بين الروائيين المغاربة الذين نلمس في أعمالهم ذلك الشكل من التفاعل بين التخييل والرؤيا الوطنية، بشكل يحيلنا على الافتراضات النقدية المعاصرة التي تشدّد على مركزية الرواية في الإبداع المعاصر، وقدرتها اللامحدودة على التأثير والإقناع والإفصاح معتمدة في ذلك على ترسيخ التخييل في الزمنية الجديدة التي يتزايد فيها الإحساس بفقدان المستقبل، إلى الحدّ الذي بات من المستحيل معه "الحفاظ على شيء من الصلابة والديمومة وسط هذا العالم الآني، المتشظي"[2]. وعليه، نعتقد أنّ ما يسترعي الانتباه في تجربة هذا الروائي في هذه المرحلة، قياسا إلى أعماله الأولى التي راهنت على خوض المغامرة التجريبية، وحفر مسالك روائية تتوخى تأسيس وعي فني يَمحضُ الشكل الروائي واللغة أهمية استثنائية، هو الاهتمام بالمتخيّل الاجتماعي، واستثمار ما يختزنه من أحداث وصور وشخصيات ورموز لإسناد ودعم قدرة الرواية على حماية الذاكرة من النسيان، والكشف عن التمزّق الذي يعتري الذات بين الماضي والحاضر.

جماليات مختلفة وأبعاد جديدة لمفهوم الالتزام

في هذا السياق، إذن، علينا أن نسجل للمديني أنه بعد مجموعة من الرّوايات والمجاميع القصصية والكتب النقدية العديدة التي كرّسته بوصفه واحدًا من أبرز الكتاب إسهامًا في تجديد الأدب المغربي المعاصر، سيتجه في أعماله اللاحقة إلى البحث عن جماليات مختلفة لاستيعاب الموضوعات الحديثة المتعددة التي تفتح منافذ إلى مسارات جديدة لتمثيل إشكاليات الذات والتاريخ والمجتمع. وتمثّل روايته "رجال الدار البيضاء"[3] التي تصور المناخ السياسي والاجتماعي الذي طبع المغرب إبّان السبعينيات ومطلع الثمانينيات على مستوى الدلالة، نموذجًا للرواية الملتزمة التي تكرّس اهتمامًا واضحًا للخيال الوطني، كما تبلور نقدًا شديدًا للسّلطوية، ورفضًا للسياسات المتصلبة التي تختزل الفرد، وتشلّ إرادته في التطلّع إلى واقع أفضل. ومن المؤكد أن أصالة الرواية عند المديني تَكمنُ في هذا المستوى الذي يَتعينُ فيه التفاعل بين الانشغالات الجمالية والمعضلات الإشكالية؛ الاجتماعية والسياسية من بين نقط الارتكاز الصّلبة التي يَنهضُ عليها فعل الكتابة. لنقل إن هذا المسلك الفني الذي تبدو فيه الرواية أشدّ مراهنة على أن تكون نقدًا للواقع السياسي والاجتماعي دون أن تتنكر لقيمتها الاستطيقية، ليس فيه أي تناقض، لأن "الشكل الروائي والسياسة يُمكنُ أن يتعايشا معًا فيما لو استطاعت التطورات الروائية- على صعيد الشكل- أن تجعل الرواية ذاتها شكلًا من أشكال الانشغالات الواقعية الأكثر حساسية واستجابة وقدرة تعبيرية"[4].

نحسب أنّ ما يعطي هذا العمل الفني موقعًا باعتباره وثيقة سردية مهمة، يرتدّ إلى مجموعة من المقومات والخصائص التي هي أوسع من أن يتّم حصرها فقط في الفضاء النصي، إذ تُشكلُ هذه الرواية الواقعة في (583) صفحة من القطع الكبير، إلى جانب قلة قليلة من الأعمال الروائية المغربية الصادرة منذ الألفية الثالثة، أوفى دليل على الأفق الفني المختلف الذي ترتاده الرواية المغربية المعاصرة، وهي تستوعب في شكل سردي ملحمي أزمنة ولحظات مفصلية من تاريخ المغرب الحديث، كما تتلمّس أيضًا الأسئلة التي ما انفكّ الإنسان المغربي يطرحها معبّرًا عن توقه العارم إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، بل إن هذه المقومات تتعدّى ذلك لتشمل السّردية المضادة والإيحاءات الغنية التي تثيرها من خلال عمل اللغة والشخصيات والفضاء والزمن، فضلًا عن الحضور المهيمن للذات باعتبارها البؤرة الأساس التي يرى البطل من خلالها إلى العالم، مما يُشكلُ ضربًا من القطيعة مع الرّواية الواقعية التي جعلت من مغامرة الفرد في العالم الواسع الركيزة الأساس التي ينهض عليها السعي الروائي بحثًا عن الحقيقة. وعلى النقيض من الخط الجمالي الواقعي الذي ميز الرواية المغربية خلال فترة الثمانينيات، يُمكنُ أن نُسجّلَ بخصوص رواية "رجال الدار البيضاء" أنه بينما يزدادُ العالمُ الذي تتحركُ فيه الشخصيات تعقيدًا وغرابة ونفورًا، يتسعُ مجالُ التذويت والنزوع نحو الحميمية والشفافية الداخلية ما يكسبُ الذات ليس فقط حضورًا مهيمنًا، وإنما أيضًا دورًا مؤثرًا من حيث الانتقاد الذي توجهه لمجتمع يشهدُ تحولات متسارعة. ومن المعروف أنّ النقاد الذين اهتموا بالرواية المغربية، وفكّروا في تجاربها الجيّدة، كثيرًا ما شدّدوا على اعتبار التذويت من أقوى الخيارات الجمالية دلالة على الأفق المختلف الذي ما فتئت الرواية ترتادهُ مع مطلع الألفية الثالثة بشكل يُبوئُ الذات مكانة مركزية بوصفها المجال الحيوي الذي يَدورُ فيه صراع الفرد سواء مع نفسه أو مع المجتمع الذي يعيش فيه.  

فرقة ناس الغيروان التي ارتبط ظهورها بالعقد السبعيني الذي شكل حدًا فاصلًا بين مرحلتين في التاريخ المغربي الحديث


نعتقدُ أن ما يلفتُ الانتباه بقوة إلى هذه الرواية المعنية بما هو سياسي واجتماعي في المغرب الحديث، هو المدى الذي تصله الكتابة الروائية عند المديني في السياق المغربي ما بعد الكولونيالي، في إعطاء مفهوم الالتزام أبعادًا جديدة، سواء في الحرص على "حماية الكتابة من الابتذال مفردًا لها في الكون المنتشر عزلتها العالية" (الرواية، ص581) كما يقول الكاتب على لسان السارد، أو من خلال تجذير المتخيل الروائي في السياسي والاجتماعي بشكل يَكشفُ عن رؤية مثقف لعصره من مسافة معينة. وإذا كنا نَعتبرُ أن العلاقة بين الأدب والسياسة كما تبتكرها رواية "رجال الدار البيضاء" من حيث هي تجسيد لنزوع إبداعي يرنو إلى تحديث الرواية وتطويرها كي تكون أقدر على التعبير عن رؤية العالم، تُمثلُ حالة جمالية تميز الرواية المغربية المعاصرة، فإننا ننظر إلى العلاقة بين الأدب والسياسة من مفهوم أوسع يَجدُ سنده في كون الأدب "لا يتعالى على مرجعيات التجربة الإنسانية ولا على أصدائها المعرفية والاجتماعية والفكرية"[5]. وهذا بالتحديد ما يلمح إليه الروائي التركي أورهان باموك عندما يقول: "الرواية السياسية هي رواية محدودة لأن السياسة تنطوي على إرادة عدم فهم الذين يختلفون عنا، بينما الفن الروائي يفترض الرغبة الشديدة في فهم من هم مختلفون عنا. لكن تخلل السياسة للرواية قد يكون لانهائيًا، لأن الروائي يصبح سياسيًا من خلال الجهد الذي يبذله لفهم أولئك الذين ليسوا مثله، ينتمون إلى مجتمعات وأعراق وثقافات وطبقات وأمم أخرى. الرواية الأكثر ارتباطا بالسياسة هي الرواية التي ليس لها موضوع أو دوافع سياسية، ولكنها تحاول رؤية كل الأشياء، وأن تفهم كلّ الكائنات، لبناء الكل الأعظم"[6].

من الواضح أن هذا المفهوم عن الرواية لم يعد معه في الإمكان التسليم بالمقولات والتصورات ما بعد البنيوية التي ترى إلى الأعمال الأدبية المتجذرة في السياسي والاجتماعي على أنها باتت من الماضي. لقد راهن النقد الأدبي منذ السبعينيات على ترسيخ فكرة مفادها أن النصّ لا مرجع له، وأن اللغة تعملُ في دائرة مغلقة وفقا لقوانينها البنيوية الخاصّة، بل إنه أنكر حتى فكرة المؤلف. لم يقتصر هذا الفهم على النقد وحده، بل امتدّ أثره إلى المفهوم عن الأدب كما يكتب هنري ميتران Henri Mitterrand: "في الوقت الحاضر يبدو أن الخيال يستعيد حقوقه... وهمّ الروائي هو قبل كل شيء خلق العالم من خلال اللغة. يمكننا أن نتصور أن مدى ارتقاء الرواية يصل إلى مستوى أكبر، فهي تبتعد تدريجيًا عن الوظيفة التي أنيطت بها أول مرة، لقد أضحت الرواية مهمومة بنفسها فقط"[7]. وبخلاف هذا المنظور الاختزالي الذي يجرّد الأدب من أي وظيفة سوى وظيفة الاهتمام بنفسه، ترى شلوي شودي Chloé Chaudet أن القول بأن الأدب المعاصر قد قطع مع مقولة الالتزام، ليس له أي مبرّر أمام النجاح الكبير الذي حققته مجموعة من الأعمال لروائيين من طراز سلمان رشدي، وأورهان باموك، وتوني موريسون أو جان ماري لوكليزيو​​، الذين تبدو الأهمية السياسية لأعمالهم واضحة بشكل كبير[8].  


إذا كانت كلّ رواية تتميز بمادتها السردية وبالشكل الفني الذي تصب فيه تلك المادة، فإن رواية "رجال الدار البيضاء" تكتسب أهميتها من كونها تتيح للقارئ منذ عتبة عنوانها أن يتلمّس تجسّدات العلاقة بين الرواية والمدينة، ذلك العالم الواسع الذي تخترقه ممارسات ورؤى ولغات وجماليات لا حدود لها. في هذا السياق، تحتفي الرواية بساحة مرس السلطان التي يقول عنها زهوان الشاوي بطل الرواية: "هي عندي مركز مدينتي، سكني قريب منها، وهي منطلق للمراكز" (الرواية، ص497)، كما تحتفي من خلالها بمدينة الدار البيضاء التي شكّلت منذ ما قبل الاستقلال وما تزال إلى اليوم مركز المغرب، إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي. وإذا كان المديني يبني سردية للدار البيضاء عاصمة الطبقة العمالية كما كان يسميها "الاتحاديون والنقابة"، من خلال رجالها من عالم السياسة والنضال والأدب والفن، منطلقًا من حدثين مركزيين تمثلا في المؤتمر الاستثنائي سنة 1975 لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهذا هو الاسم الذي حمله الحزب إبّان تأسيسه سنة 1959 في سينما الكواكب، وقد شكل هذا المؤتمر محطّة مفصلية في تاريخ المعارضة السياسية بالمغرب، حيث سيحمل الحزب اسمًا جديدًا هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وسينتقل من العمل الثوري إلى العمل المؤسساتي، أما الحدث الثاني فيتمثل في إعلان الملك الراحل الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية، كإطار زمني للأحداث المسرودة، فإن اختياره زمن السبعينيات لتأطير الأحداث والعلائق والمصائر، يلبّي ليس فقط الحاجة إلى بلورة رؤية جديدة للعالم بشكل يرسّخ الكتابة في الدينامية المميزة للرواية المعاصرة، وإنما أيضًا الحاجة إلى إلقاء ضوء كثيف على مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب الحديث طبعتها آمال وتطلعات استثنائية، كما برزت فيها ثقافة متمرّدة عبّرت عن نفسها من خلال تعبيرات وأشكال مختلفة كالفكر والفن والرسم والشعر والرواية والغناء والمسرح. ولقد جسّدت هذه التعبيرات قوى مختلفة "استثمرت فضاء المدينة، وأضفت بعدًا إستطيقيًا على الإحباط، وأعطت معنى ونفسًا لمشاعر كانت إلى ذلك الحين مختلطة ومشتتة"[9].

من المهمّ أن نوضّح أن زهوان الشاوي، أستاذ التاريخ في ثانوية شهيرة بالدار البيضاء، هو الشخصية المحورية في الرواية. فهو يختزل من خلال مساره السردي، والمواقف التي اتخذها والعلائق التي تربطه بالشخصيات الأخرى، والموقع المحترم الذي اكتسبه بوصفه كاتب افتتاحيات مزلزلة بجريدة المحرّر، وأيضًا من خلال قربه من المناضل عمر بن جلون، أهمّ ما تريد الرواية قوله. فهو ليس فقط الشخصية التي يرى القارئ من خلال ملفوظاتها إلى جوانب مختلفة من العالم الروائي الذي يشيده الكاتب، وإنما هو أيضًا النقطة المفصلية التي تتجمّع عندها عناصر الدلالة والترميز. إن إصابته بالصرع الحاد، كما يتجلى من نهاية الرواية، يجعل منه ضحية الظروف التي عاشها المغرب منذ السبعينيات، ونزعة السلطوية التي لم تترك للآمال التي كان يحملها أي إمكانية للاستنبات والتحقق، وهو أيضًا رمز للمناضل المتحرّر الذي يقف ضدّ كلّ ما يعوق رغبته العارمة في التعبير بكلّ حرية عن قناعاته وأفكاره. لكأن الرواية، من خلال شخصية زهوان، لا تريد فقط أن تعرّي مترتبات القمع والاستبداد في تاريخ المغرب الحديث، وإنما تسعى أيضًا إلى تفكيك ونقد النزعة التقليدية التي هيمنت على القيادة السياسية للحزب، وأيضًا "المكر والتناور والجوسسة الذي اخترق جو المناضلين" (الرواية، ص436) ما جعل هذه القيادة، بعد المؤتمر الاستثنائي، في علاقتها بمناصريها التواقين إلى الحرية والعدالة، وفي ميلها إلى فرض التخويف والطاعة عليهم، تعيد إنتاج نفس الأنساق المضادّة التي قدّم مناضلو الحزب تضحيات جسامًا من أجل مقاومتها ومغالبة إكراهاتها، وهذا ما جعلها تخفق في وضع المجتمع على سكّة الحداثة. والملاحظ أن الروائي يدعم هذا الدور النقدي الذي يَنهضُ به زهوان بضمير المتكلّم بمجموعة من الشخصيات التي ينتقل السّرد بينها دون أن نشعر أن هناك وجهة نظر أكثر أهمية من سواها، وأيضًا بتدخّل الكاتب الواقعي أحمد المديني بعرض ما لديه من معرفة واسعة بالفضاء المكاني الذي تدور فيه أحداث الرواية، وبالسياسة والأدب والثقافة، وأيضًا بالمرحلة التاريخية المؤطرة، وما طبعها من أحداث كالمظاهرة الحاشدة التي شهدتها الدار البيضاء احتجاجا على زيارة السادات لإسرائيل سنة 1977، وإضراب 1981 وغيرها من الأحداث المفصلية، ما يعني أن هذه الرواية التي نلمس فيها ذلك التجاذب بين التخييلي والواقعي، بين الجماعي والفردي، بين العام والخاص، ليست بعيدة، فيما يخصّ العالم الذي تبنيه، عن التجربة الفردية الخاصّة بالكاتب.




الشخصيات

لا شك في أن "رجال الدار البيضاء" تستوعب عددًا مهمًا من الشخصيات التي تَعكسُ اهتمامات مختلفة، صحافية وفكرية وأدبية وسياسية وفنية، غير أن ما هو منها بمثابة الفاعل الأساس في العالم الذي يشيده الروائي يعدّ قليلًا جدًا، وإن كان هذا الخيار لا ينفي الأهمية التي تكتسيها الشخصيات الأخرى في الإضاءة على جوانب مختلفة من الأسئلة التي تطرحها الرواية، والفترة الزمنية التي تغطيها والتي تشمل أربعة عقود من تاريخ المغرب الحديث. ومن بين الشخصيات المؤثرة في مجرى السرد، المصطفاوي، الذي يعود له فضل إقناع زهوان بالالتحاق بجريدة "المحرّر" الناطقة بلسان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مرحلة ما بعد المؤتمر الاستثنائي، بالإضافة إلى الصحافي حسن العلوي الذي يلقبه زهوان بالمايسترو لشخصيته القوية، ولكونه صحافيًا مخضرمًا ظلّ بمنأى عن التجاذبات بين أجنحة الحزب، كما أنه يمثل ذاكرة الاتحاد المثقلة بالنضالات والأحداث، وبالمناورات والمؤامرات، وأيضًا لدوره المحوري، بحكم أنه تعلّم الصحافة في أم الجرائد (التحرير) التي وصفها بوشعيب بائع الصحف بأن "كل عنوان فيها قنبلة"(الرواية، ص280) قبل أن يلتحق بجريدة (المحرّر)، في الارتقاء بالعمل الصحافي، وجعله أكثر احترافية ومهنية. وأيضًا عبد الهادي صديق زهوان الذي جاء هو الآخر إلى الجريدة من سلك التعليم، بعدما متعته النقابة بالتفرغ. ومن خلال هاتين الشخصيتين، أي زهوان وعبد الهادي، والحوارات التي تدور بينهما سواء داخل مقر الجريدة أو خارجها، يقرب الروائي القارئ ليس فقط من واقع الصحافة المغربية المستقلة في هذه المرحلة، حيث أنها كانت تعتمد أساسًا على الموظفين من رجال التعليم الذين كانت النقابة تتكفّل بإلحاقهم بالجريدة التي لم يكن باستطاعتها أن تتعاقد مع صحافيين محترفين، وإنّما أيضًا من بعض الشخصيات التي طبعت تاريخ المغرب الحديث، وتاريخ الاتحاد بصورة خاصّة مثل عمر بنجلون، عضو المكتب السياسي، الذي تبرز الرواية جوانب إنسانية كثيرة من شخصيته التي تهفو إليها النفس ولا يشبع الصحافيون والعمال في المطبعة من رؤيته، كما أن مواقفه السياسية اتسمت بالصرامة، وكان يريد للحزب أن يظل صوته عاليًا في مناصرة قضايا الجماهير الشعبية. يصفه زهوان: "وجهه مشرق، وعيناه تلمعان، وجسده ينتقل خفيفًا في كلّ مكان، حيثما يمرّ تأخذه إليها الأحضان" (الرواية، ص237). ويضاف إلى هذه الشخصيات الجوهري مدير المطبعة، وقاسم مول الفز المسؤول عن الطبع، وأيضًا بوشعيب بائع الصّحف الذي تبرز ملفوظاته وحواراته مع زبائنه الرمزية التي كانت تتمتع بها جريدة "المحرّر" ذات العناوين القوية، وقدرتها على الاستجابة لانتظارات جمهور واسع من القرّاء، لدرجة أن من بينهم من كان ينتظر إلى وقت متأخر من الليل أملا في الحصول على نسخته، ما يعني أن الصحافة المستقلة كانت بمثابة المقياس الأساس لمعرفة الجو العام المخيّم على البلد.

لعلّ ما يثير الاهتمام أيضًا في شخصيات الرواية، هو الحضور الدال للشخصيات المرجعية التي شكلت جزءا لا يتجزأ من آمال وأحلام هذه المرحلة كعمر بن جلون، المحامي والقائد السياسي ومدير الجريدة، والمحجوب بن الصديق، ونوبير الأموي، والفيلسوف محمد عابد الجابري، والشعراء أحمد المجاطي، والنيسابوري وأحمد الجوماري، إضافة للروائي محمد زفزاف، ومجموعة ناس الغيوان، وجيل جيلالة والكاتب أحمد المديني. لنقل إن هذه الشخصيات المرجعية التي تتصل اتصالًا وثيقًا بالمناخ السياسي والفكري والثقافي الذي خيم على المغرب خلال هذه المرحلة، وترتبط بعمق بفضاء الدار البيضاء الذي يشكّل البنية الإطارية التي تحتضن الأحداث والمرويات واللغات والمصائر، تجعل الرواية مثقلة بالمرجعي ومتجذرة في التاريخي والثقافي، إلى الحدّ الذي يتعذّر معه استيعاب الأبعاد والدلالات والرموز التي تنطوي عليها إذا ما اكتفينا بقراءتها في ضوء المفهوم الاستطيقي، أي باعتبارها مجرد أدوار وكائنات من ورق، وإذا لم نهتم بتاريخ المغرب الحديث وثقافته، أي بالمجتمع الحديث الذي كان إلى ذلك الحين قيد التشكّل. فالنّص الروائي بالرغم من كونه نصًا متخيلًا، فإنه موجّه إلى القارئ الذي لا يفترض فحسب أن ثمة علاقة بين العمل الأدبي والعالم الذي ينتج فيه، بل إنّه يرى إلى هذه العلاقة بوصفها المعيار الحاسم في مختلف الأحكام وأشكال التقييم التي ينتجها.


ولعلّ ما يعزز هذا المفهوم عن الشخصية في الرواية هو المقالة التي كتبها جون ماري شايفر في "القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللغة" والتي شدّد فيها على أن حصر "وجاهة مفهوم الشخصية في ميدان التخييل يؤدّي (بتجاوز أحكامها التعيينية والتداولية المتمايزة) إلى تجاهل أن بناء الحقيقة الوقائعية وبناء العالم التخييلي يسيران، باعتبار جانب كبير من السير، في طريقتين متوازيتين، وهذا في مستوى إبداع النصوص كما في مستوى فهمها"[10]. ومعنى هذا أن تلمّس الأبعاد التي تنطوي عليها الشخصيات المرجعية في رواية "رجال الدار البيضاء" يقتضي الصدور عن منظور مزدوج، أي الاهتمام، أولًا، بأدوارها ووظائفها المركزية داخل الرواية، ثم التفكير، ثانيا، في مستويات علاقتها بالعالم. إن الشخصيات في هذه الرواية ليست مجرد رموز وحسب، وإنما هي تكثيف للتاريخ الثقافي للمدينة. ففي هذا المكان نشأت ثقافة حديثة بالغة الثراء والتنوع أسهم فيها مجموعة من المثقفين الذين آمنوا بقوة الكتابة، فمثلوا حالة خاصّة ليس فقط بحكم الدور الطليعي الذي نهضوا به في الحياة الثقافية، وإنما أيضًا بحكم الوسط الاجتماعي الذي انحدروا منه، والمواقف التي كانوا يعبّرون عنها، والإحساس بالإحباط الذي كان يراودهم. تقول الرواية من خلال الحوار بين زهوان والشاعر أحمد الجوماري: "اعذرني، نعم وعدتك بقصيدة، لكن ما جاد الله علي بشيء، الأيام متشابهة ونفسي بئر راكدة، الحزب الذي عولنا عليه، يقصد الاتحاد، غرق في لعبة السياسة وحولنا إلى متفرّجين" (الرواية، ص470). وما يشهد على هذه الفورة الثقافية ليس هو فقط أسماء الشعراء والمبدعين ممن كانوا يتنازعون إمارة الشعر المغربي المعاصر، وإنما أيضًا تلك الحركات الثقافية الطليعية التي كانت تؤسس لمفهوم جديد للأدب المغربي، ولوعي مختلف بالثقافة الشعبية عبر تحميلها أبعادًا سياسية ما يجعلها شديدة الصلة بعصرها، ومعبّرة عن التوق الجماعي للحرية ورفض الظلم والاستبداد. ولعلّ المثال الأهم ها هنا هو مجموعة "ناس الغيوان"- يقول عنها بطل الرواية: "فهمت في هذه الجلسة فقط لماذا لم يبق بيت لم يدخله صوتها ولماذا يجمع عليها الصغار والكبار" (الرواية، ص296) - التي ارتبط ظهورها بالعقد السبعيني الذي شكل حدًا فاصلًا بين مرحلتين في التاريخ المغربي الحديث. وفي السياق عينه، يكتب الباحث عبد الباقي بلفقيه في معرض تناوله لثقافة السبعينيات من خلال مجموعة "ناس الغيوان": "في سياق يتميز بالقهر الاجتماعي، والضغط السياسي، ومراقبة حقل الثقافة ومأسسته، برز مفهوم المجموعة، وأوجد لنفسه مكانًا ضمن هذا السياق، فعبر وساطة المجموعة سيصبح الانتقال من ثقافة المجهولية إلى ثقافة الفردانية رهانًا ممكنًا"[11].

روبرت إيغلستون  



تعدّد الفضاءات

إذن، لمّا كانت الشخصية في الرواية لا تكتسب رمزيتها بمفردها، وإنما من خلال العلائق التي تربطها بالمكونات السردية الأخرى، وخاصة الفضاء المكاني الذي تتحرّك فيه وتنتج فيه أدوارها، أمكن أيضا أن نتبيّن الأهمية التي يكتسيها الفضاء في رواية "رجال الدار البيضاء"، بوصفه قطب البنية الفنية، وأحد العناصر السردية الأشد إثارة للانتباه من حيث أنه "محور العمل الرّوائي، ففيه تجري الأحداث، وفيه تتشكّل الجوانب السيكولوجية للرواية"[12]، وأيضًا من حيث تعبيره عن "رؤية خاصّة بالمكان يحدها إدراك معين للحالة الإنسانية"[13]. وعلى هذا الأساس، فإن ما يسترعي الانتباه في الرواية هو تعدد الفضاءات؛ ففضلًا عن فضاء الدار البيضاء المدينة الواسعة المهجنة التي تتقاطع فيها شرائح من جنسيات وطبقات اجتماعية مختلفة، وتمثل رمزًا للمغرب الحديث، ثمة فضاءات صغرى عديدة أعاد الكاتب تصميمها بشكل يضيء على جوانب مختلفة من الأسئلة والتحولات الرّاصدة لعلاقة المخزن بالمعارضة بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خلال حقبة السبعينيات ومطلع الثمانينيات. وبينما يطالعنا من بين هذه الفضاءات ما يشكّل أمكنة حميمة بالنسبة لبطل الرواية من قبيل كشك بوشعيب وبراسري مدام فيران ومقهى لاكونكورد ومقهى الخضراء حيث يجلس القاص أحمد المديني، وهي فضاءات تتوسّط ساحة مرس السلطان التي تختزل تاريخ الدار البيضاء بوصفها مدينة حديثة اقترن تشييدها خلال عشرينات القرن الماضي بالاستعمار الفرنسي للمغرب، فعكست بملامحها العمرانية، كالكنيسة الضّخمة التي بناها الفرنسيون لجاليتهم المستعمرة، أبرز سمات الحداثة الأوروبية خلال هذه المرحلة، ثمة فضاءات أخرى تعكس جو الكآبة والقلق الذي كان يخيّم على المغرب، مثل فضاء الجريدة الذي تقدّمه الرواية كفضاء يخيّم عليه جو قاتم، ويخترقه الجواسيس، وتغيب فيه الثقة حتى بين المناضلين. ودرب مولاي علي الشريف الذي كان يعذّب فيه معارضو النظام الحاكم، وفضاء السّجن، سجن غبيلة، الذي تقول الرواية إن أغلب مناضلي الحزب وصحافيي الجريدة اكتووا بناره، وتحملوا سطوة العذاب فيه على اختلاف درجاته. فضاء السجن، كما يتبدى من ملفوظات الشخصيات، هو بمثابة العلامة الفارقة التي كانت تسم علاقة المخزن بالقوى الاجتماعية المعارضة في مرحلة لم يكن فيها أي معنى للحياد كما يقول الكاتب على لسان المصطفاوي وهو يتحدث إلى زهوان في مسعى لإقناعه بأهمية الالتحاق بالجريدة: "من الأفضل أن تحترق في صحيفتنا على أن تبقى بهوية مشوشة" (الرواية، ص432).


الارتباط بالحاضر وتحولاته

لعلّ ما ينبغي الإشارة إليه في سياق هذه القراءة لـ "رجال الدار البيضاء" أننا بإزاء رواية تتوغل في التاريخ المغربي الحديث وتسائل أحداثه ومنعطفاته من منظور يرتبط أشدّ ما يكون الارتباط بالحاضر وتحولاته. وليس الاهتمام بالماضي ميزة خاصّة بهذه الرواية، بل هو وعي لطالما اشتغل في الرواية الحديثة منذ أزمنة ازدهارها في القرن التاسع عشر وأيضًا في القرن العشرين الذي طبعته أحداث كبرى، حيث يتبدّى في نصوصها ذلك الحضور الكاسح للتاريخ والذاكرة بشكل اكتسبت معه الرواية، بوصفها نوعًا أدبيا، مكانة رفيعة لا تناظرها سوى المكانة التي احتلتها العلوم الأخرى، الإنسانية والاجتماعية، في بلورة المعرفة بالموضوعات والقضايا التي اهتمت بتناولها والتفكير فيها. لكن الماضي في جوانبه السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو يكتسح رواية المديني، مع أن هذا الوعي بالتاريخ نجده أيضًا عند مجموعة من كتاب الرواية بالمغرب ممن ينتمون إلى جيلي الستينيات والسبعينات، لا يأتي بالمعنى الذي ألفه القارئ في الرواية التاريخية التقليدية حيث يتجلّى ذلك الارتباط العضوي بين السّرد وولادة الأمة الحديثة كما يدافع عن هذه الأطروحة الناقد البريطاني بنديكت أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيلة"، وهو ما نجد التعبير الأعمق عنه في بدايات السردية العربية الحديثة فيما كتبه عبد الرحمن الكواكبي خاصّة في مصنّفه "أم القرى" (1899) وكذلك جرجي زيدان في رواياته التاريخية[14]، بل يأتي الماضي عند المديني شأنه في ذلك شأن الروائيين المعاصرين، مشدودًا إلى "التركيز على استكشاف الذاكرة والصدمات التاريخية والطريقة التي يمكن للماضي أن يؤثر بها على الحاضر فضلًا عن دفعه لمرتقيات أكثر شأنًا".[15]

هايدن وايت

 

يمكن للقارئ أن يتلمّس هذا المعنى ليس فقط من امتداد زمن الرواية إلى العقد الثاني من الألفية الثالثة حيث انطلاق مظاهرات الربيع العربي مع حركة 20 فبراير التي أعادت بشعاراتها إلى صدارة الاهتمام الأسئلة والأحلام الكبرى التي حملها المغاربة بعد الاستقلال والتي تركزت أساسًا على المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإنما أيضًا من الشخصيات التي اختارها الروائي لتصريف المعرفة التاريخية ومنظوره للتاريخ، أي زهوان أستاذ التاريخ وأيضًا المصطفاوي اللذين توجّه الرواية على لسانهما النقد لتعاطي مؤسسات الدولة مع تاريخ البلد: "سأضطر إلى سرد التاريخ، ستملّ مني فهذا اختصاصك، أليس كذلك، رغم أن وزارة التربية الوطنية عندنا حفظها الله لا تثبت في برامجها التاريخ الوطني، مسؤولوها لا يريدون أن يتعرّف المغربي على تاريخه، حكامه، السلالات التي تعاقبت على حكمه، كأنها قضاء وقدر، وهؤلاء الذين يتعاقبون واحدًا تلو الآخر بحكم هذا القدر، يتوارثون الحكم والشعب معه بينما أنت تدرّس تلاميذك تاريخ الفراعنة والغساسنة والمناذرة والإمبراطورية الرومانية والحرب العالمية" (الرواية، ص157). ومعنى هذا أن الأحداث التي تستعيدها الرواية منذ زمن السبعينيات، رغم أنها ولّت وأضحت جزءًا من الماضي، فإن ذلك لا ينفي حياتها واستمرار تأثيرها في راهن المغرب، وهذا ما يبرز الرّهان الذي تحمله الكتابة الروائية المعاصرة عندما تنهض بتمثيل الماضي، وذلك لأن الماضي لم ينته، بل ما يزال حضوره وتأثيره قويا في الحاضر. وعليه، فالتمثيل السردي للماضي يستجيب، ها هنا، لحاجة ملحة تتمثل في ترميم هوية ممزقة ومنشطرة. وفي هذا السياق، بيّن كل من بول ريكور وهايدن وايت في أبحاثهما التي فتحت كوى عميقة في جدار الدراسات التاريخية، كيف أنّ الإنسان يعيد تشكيل هويته من خلال الحكايات التي يرويها عن الماضي، سواء أتعلق الأمر بالذاكرة الجمعية أو بالذاكرة الفردية، وهذا يعني أنّ التغيير الذي يطرأ على عملية تمثيل الإنسان للماضي، سيطرأ بالضرورة على وعيه بهويته الفردية والجماعية. وهذا بالتحديد ما أشار إليه هايدن وايت في سياق تناوله للأبعاد الفلسفية التي تنطوي عليها أبحاث بول ريكور عن الماضي، عندما قال: "لقد كان هدف ريكور إظهار كيف أن التاريخ لم يكن ممكنًا فحسب، بل كان ضروريًا من أجل تصور إنساني صحيح لإنسانية الإنسان، ولهويته كفرد وكعضو في مجتمع، ولدوره كمواطن في الكيان السياسي الذي ينتمي إليه"[16].

من هذه الزاوية، نعتقد أن السّؤال المحوري الذي تثيره قراءة هذه الرواية من زاوية التخييل التاريخي ليس هو السؤال المتعلق بمدى مطابقة المادة السردية للحقيقة التاريخية، بل يتمثل السؤال في الفكر الذي تستثيره عند القارئ من خلال الأحداث والخطابات والمصائر الخاصّة بالشخصيات، خاصة عندما يتعلّق الأمر بهوية جيل من المغاربة الذين تشكّل وعيهم السياسي والثقافي في هذه المرحلة. وما يعطي المشروعية لهذا السؤال هو أنّ العمل الروائي، شأنه في ذلك شأن كل عمل فنّي، لا ترتهن علاقته بالقارئ إلى كونه بناء فنيًا وحسب، وإنما أيضًا إلى كونه عملًا تواصليًا، إذا كان الكشف عن معناه أمرًا يختصّ به القارئ، فإن ذلك لا يتمّ إلا على أساس السنن والمؤشرات النصية[17].

يتبيّن من هذه القراءة لرواية "رجال الدار البيضاء"، أن التعدد اللغوي، والأحداث والشخصيات والفضاء المكاني المعيّن باسمه الحقيقي، فضلًا عن الإطار الزمني الذي اختاره أحمد المديني لتأطير العالم الروائي، كلها مكونات سردية استثمرها الكاتب بفنية عالية لتمثيل عالم يحتشد بالرّموز والعلامات. وإذا كان هذا المسلك يحرّر، من جهة، الرواية من أنساق الكتابة التقليدية التي هيمن عليها الصوت الواحد، فإنه، من جهة أخرى، يجعلنا إزاء رواية يُمكنُ إدراجها، استنادا إلى الناقد البريطاني روبرت إيغلستون، ضمن "رواية المراجعة التاريخية"، أي الرواية التي نشأت من "الرغبة السياسية لإعادة اكتشاف تواريخ المهمشين والذين غضّ النظر عن تسجيل وقائع تاريخهم"[18].

ومن المؤكّد أن الرواية المعاصرة، خارج الحقل الأدبي الأوروبي، وخاصة في سياق ما بعد الكولونيالية، باتت تمحض اهتمامًا لافتًا لعمليات ترسيخ الرواية في التاريخي والسياسي في مسعى ليس فقط لنقد وتفكيك أنظمة السّلطة في مجتمعات ما بعد الاستعمار، وكيفية تعاطيها مع تواريخها، وإنما أيضًا لبلورة سرديات مضادّة تتأسس على الكشف والتعرية، وفسح المجال للأصوات المهمّشة أو المستبعدة، مما يعيّن الرواية بوصفها بيئة ثقافية شديدة الفعالية من حيث القدرة التكلمية والإفصاح عن المشاغل والأسئلة التي يبدي إزاءها الناس اهتمامًا خاصًا. ويعدّ هذا التوجّه الروائي، سواء على مستوى الأسلوب الفني أو الموضوع، من بين السّمات المميزة للرواية المغربية في السنوات الأخيرة، وهنا يمكن للمرء أن يفكّر بالتحديد بالأعمال الروائية المعاصرة التي اتخذت من مرحلة ما بعد الاستقلال إطارًا للتمثيل السّردي بشكل يكشف انجلاء الأوهام، ويعرّي الأحلام والرؤى التي حملها المغاربة في هذه المرحلة والتي ما تزال تلقي بتأثيرها العميق على المجتمع في الوقت الراهن، على النحو الذي يتجلى من الديناميات التي تخترق المجتمع، والمطالب المتزايدة من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.

*كاتب من المغرب.


هوامش:

[1] - ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة بحث في أصول التغيير الثقافي، ترجمة محمد شيا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص351.[2] - المصدر السابق، ص339.
[3] - أحمد المديني، رجال الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، بيروت- الدار البيضاء 2021.
[4] - جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، ترجمة وتقديم لطيفة الدليمي، دار المدى، دمشق 2016، ص187-188.
[5] - فاضل تامر، المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، دار المدى، دمشق 2004، ص6.
[6] - Chloé Chaudet, Ecriture de l’engagement par temps de mondialisation, Editions Classique Garnier, Paris 2016, p31.
[7] - Ibid, p17.
[8] -Ibid, p13.
[9] - عبد الباقي بلفقيه، ثقافة السبعينيات بين الاحتجاج والكرنفلة، نموذج ناس الغيوان، مجلة النهضة، ملف: اليسار الجديد في المغرب، العدد 21-22، خريف 2020- شتاء 2021، ص367.
[10] - جون ماري شايفر، الشخصية، القاموس الموسوعي الجديد في علوم اللغة، ترجمة عبد القادر المهيري وحمادي صمود، المركز الوطني للترجمة، تونس 2010، ص631.
[11] - عبد الباقي بلفقيه، المقال السابق، ص366.
[12] - منجي بن عمر، الفضاء في رواية الثورة، الدار التونسية للكتاب، تونس 2015، ص208.
[13] - بطرس الحلاق، المكان والأدب في الرواية والمسرح العربي، في، شعرية المكان في الأدب العربي الحديث، تحرير بطرس الحلاق، ترجمة نهى أبو سديرة وعماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2014، ص15.
[14] - Yves Gonzalez-Quijano, La création littéraire et la production de l’arabité, Revue Vacarme, Numéro 80, 2017, p51.
[15] - روبرت إيغلستون، الرواية المعاصرة مقدّمة قصيرة جدًا، ترجمة لطيفة الدليمي، دار المدى، بغداد 2017، ص115.
[16] - Hayden White, L’histoire s’écrit, Traduit et présenté par Philipe Carrard, Editions de la Sorbonne, Paris 2017, p287.
[17] - Vincent Jouve, L’effet-personnage dans le roman, Presses Universitaires de France Paris 1998,p15.
[18] - روبرت إيغلستون، المصدر السابق، ص123.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.