}
عروض

"تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر".. رصد دقيق

فيصل خرتش

13 يوليه 2021
تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر 


يعدُّ كتاب "تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر"، للأخوين الطبيبين ألكسندر وباتريك راسل، من أهم المؤلفات عن مدينة حلب، لما فيه من وصف حيَ، ورصد دقيق، لجوانب مختلفة من حياة مدينة حلب في عقدين من الزمن.
الكتاب يأخذ بيدنا إلى شوارع حلب وأزقتها، وحاراتها، وخاناتها، وبساتينها، ومساجدها، وكنائسها. ولا يكتفي بذلك حتى يجعلنا نرى أثاث البيوت، وأزياء أهلها، لنشم روائح العطور والمآكل، ثم يعود بنا لنسمع أصوات الباعة والأطفال في الشارع.
اعتمد الكتاب على المصادر الإسلامية، كالقرآن الكريم، والسنة النبوية، وبعض المؤلفات العربية. كذلك ردَ على الأوروبيين الذين يزوِّرون تاريخ المدينة، بأنهم لا يعرفون اللغة العربية، لذا يجد هؤلاء سهولة كبيرة في تصوير الأمور وفق أهوائهم، وينظرون إلى المسلمين على أنهم أدنى مقامًا، ومآلهم الهلاك والعذاب، حيث ادعى بعض التجار الفرنسيين بأن المرأة الحلبية تحب الأجانب، وتسعى إلى إغوائهم من وراء النوافذ والأبواب. أجابهم باتريك على ذلك، بقوله: "أما بالنسبة إلى قصَة التجار الفرنسيين، فإني أميل إلى الاعتقاد بأنها من نسج الخيال، لأنها لا تتماشى مع مفاهيم اللباقة والاحتشام في هذا البلد".

وحينما ادَعى بعضهم أن المسلمين يصلون في الأماكن العامة مراعاة ونفاقًا، أو لإعطاء انطباع لجيرانهم بأنهم ورعون، رد عليهم، بقوله: "هذا غير صحيح على الإطلاق".
يقول المترجم، خالد الجبيلي، عن الكتاب: "عندما اطلعت على الكتاب لأول مرة، شعرت بأنني أمام وثيقة هامة كتبها طبيبان إنكليزيان أقاما عشرين عامًا في هذه المدينة، وسجلا عن أهلها وطبيعتها ما لم يسجله أحد قبلهما، وربما بعدهما، بهذه الدقة والموضوعية. هذا الكتاب ليس تاريخًا، بل دراسة أنثروبولوجية عن المجتمع في حلب. الكتاب ينبض بالحيوية والحركة، ونحن نرى السكان وهم يتناولون طعامهم، ويحتسون قهوتهم، ونقرأ وصفًا دقيقًا وشاملًا عن حمَّاماتهم التي كانت ترتادها النساء بألعابهن وثيابهن، عن بيوتهم وأسواقهم وخاناتهم وأعراسهم وجنائزهم، وما إلى ذلك من أمور حياتية يدفعنا الفضول لمعرفتها".

الاخوان الطبيبان ألكسندر وباتريك راسل، مؤلفا كتاب "تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر"


ولد الطبيب ألكسندر راسل في أدنبرة عام 1715، وهو ابن لمحام بارز. وبعد أن أنهى دراسة الطب، قدم إلى حلب واستقر فيها عام 1742، مشرفًا طبيًا على الجالية البريطانية حتى عام 1753. أتقن اللغة العربية، ثم راح يشرف طبيًا على أهالي حلب من مختلف الجنسيات، وغادر المدينة في عام 1754 إلى إنكلترا، ثم انتخب طبيبًا في مستشفى سانت توماس، وخدم فيه حتى وفاته عام 1768.
أما باتريك، الذي ولد في عام 1727 في أدنبرة، أيضًا، فقد كان طبيبًا وعالمًا في التاريخ الطبيعي، انضم إلى أخيه من أبيه ألكسندر في حلب عام 1750، وحل محله، وبقي حتى عام 1768، وتابع دراسة أخيه عن الطاعون فيها، الذي كان قد تفشى فيها أعوام 1760 ـ 1761 ـ 1762.
صدر الكتاب في لندن، ووُجدت فيه ثغرات كثيرة، فأرسل إلى أخيه باتريك الذي كان لا يزال يقيم في حلب، وطلب إليه مراجعة الكتاب وتصويبه، وإدخال التعديلات عليه، فقام بتبويبه وتنسيقه والإضافة إليه، حتى أصبح بالشكل الذي بين أيدينا، عندما صدر عام 1794.
توفي باتريك عام 1805. وكان انتُخب عضوًا في الجمعية الملكية لدى شركة الهند الشرقية، وهناك أجرى دراسات حول بعض النباتات والأسماك والزواحف، كما قدم دراسة عن الأفاعي السامة، ثم قفل راجعًا من الهند، وظل باتريك أعزب كل حياته.

الكتاب مكتوب بأسلوب علمي رصين، فهو مليء بالإحصاءات والأرقام. يحدثنا عن الطقس في حلب خلال أشهر السنة، فيقول: "وكان مقياس الضغط الجوي (الباروميتر) المستخدم طوال الوقت جهازًا ممتازًا، وكان يجري فحص الأجهزة مرتين كل أربع وعشرين ساعة، مرة في الساعة السابعة صباحًا، وأخرى في الثالثة بعد الظهر في الصيف، وبعد ساعة من هذا الموعد في الشتاء"، وهذا يحمل على الإعجاب بتلك الجهود المضنية.
وعندما يدرس مرض الطاعون، فهو يقدم المرض بأنه يصيب المدينة كل عشر سنوات، فهو غير مستوطن فيها، ولا ينتشر أبدًا في الشتاء، بل مع قدوم الربيع، ويصل ذروته في شهر حزيران/ يونيو، ويتدنى بسرعة في تموز/ يوليو، ويختفي بالتأكيد في شهر آب/ أغسطس. ألحق الطاعون في عام 1719 ضررًا شديدًا بحلب، وانتشر بسرعة كبيرة في الربيع، واعتكف الأوروبيون في منتصف آذار/ مارس، وظلَوا كذلك حتى منتصف تموز/ يوليو". إن هذه الدقة والموضوعية لا نجدها إلا عند العلماء الذين يستحقون التقدير.
وعن علاج مرض الطاعون، يعده السكان لعنة أنزلها الله تعالى لمعاقبة الآثمين الذين لا يؤمنون كثيرًا بفعالية الدواء للشفاء من هذا المرض، لذا يترك المصابون وهم يصارعون المرض من دون أية مساعدة طبية.
من الأمور الجيدة، أيضًا، في الكتاب الرسوم التي تزينه، وتصور سكان حلب، ورجال الدولة في صور نفيسة لا نجد لها مثيلًا في كتاب آخر.
والكتاب يشمل كل نواحي الحياة، من بيئة، وعادات وتقاليد، وانتهاء بالأمور الطبية، فالسكان بشكل عام متوسطو الطول، ويميلون إلى النحافة أكثر من ميلهم إلى السمنة، وهم متوسطو الجمال، إلا أنهم ليسوا أقوياء وغير نشيطين، ومن النادر أن نرى رجلًا أحدب، أو مشوهًا، بشرتهم بيضاء، وشعرهم أسود، أو كستنائي داكن، وعيونهم سود، ويتمتع كلا الجنسين وهم في سن الطفولة بالجمال، لكن عندما يكبرون سرعان ما تشوه اللحى وجوههم، أما النساء فيفقدن بريق شبابهن بسرعة".
إنه يتحدث عن السكان من الناحية الاجتماعية، كما يتحدث عن الوافدين على المدينة، معتمدًا في ذلك على التجربة الشخصية، إذ يقول: "يمكن للأطباء والممرضين، سواء أكانوا أوروبيين، أو من أهالي حلب، الدخول إلى الحرملك في جميع الأوقات، عندما يقتضي حضورهم ذلك، فبعد أن يعلن عن حضور الطبيب يتعين عليه أن ينتظر عند الباب حتى يتم إخلاء الطريق لكي يمر، ثم تقوده إحدى الخادمات إلى غرفة المريضة، وهي تنادي بصوت مرتفع "طريق، طريق، الحكيم جاي". وهذا يتم عن تجربة شخصية، أو قوله: "ولا تتردد المرأة في الكشف عن رقبتها، أو صدرها، وحتى عن بطنها، عندما يتطلب الموضوع فحصها، إلا أنها لا توافق على الكشف عن رأسها إلا بعد ممانعة شديدة، فقد كنت أعرف شابات صغيرات لم يكن يبالين بإخفاء وجوههن عني بسبب معرفتي الطويلة بهنَّ، إلا أنهنَ لم يكن يظهرن أمامي من دون منديل، أو أي غطاء خفيف آخر يلقى على رؤوسهنَّ".
حصل المؤلف على معلومات في غاية الدقة، ويظهر أن نساء الطوائف الأخرى كن يبلغنه بها، ففي وصفه للحمام النسائي، يقول: "تبقى النساء في الحمام فترة أطول بكثير من الرجال، ويعتبر الغسيل وتضفير الشعر عملًا شاقًا بالنسبة لهن. كما يضطررن للدخول بالدور، وهذا أمر يثير كثيرًا من المشاحنات والمشاجرات".
رجع مؤلفا الكتاب إلى كتابات الرحالة الأوروبيين، فاستخرجا معلومات هامة من أجل الدقة والصواب والأمانة العلمية، ففي حديثهما عن لعب الميسر، يقولان: "انظر حول هذا الموضوع (سيلز، بوكوك) ويلاحظ هذا الأخير أن الميسر يشمل ألعاب النرد، والورق، والشطرنج. أما بالنسبة إلى الصور، فهي تشمل كافة الأشكال البشرية، فثمة خلاف بين العلماء، وأن تحريمها أقل بكثير من تحريم الميسر (انظر هودسون، المجلد الثاني، ص 235)، وهذا كثير لديهما".
عمد المؤلفان إلى نقد الكتب التي ألفها الأوروبيون، والتي لم تنل استحسانًا لديهما، كما انتقدا كثيرًا من المعلومات الخاطئة التي أوردها المؤلفون الأوروبيون، من ذلك قولهما: "يضم المجلد السادس من مذكرات م. دارفيو وصفًا دقيقًا لمدينة حلب، ويسرد فيها بعض الأمور غير الدقيقة، والتي تعزى إلى المحرر، وليس إلى المؤلف، فالصفة "الشهباء" تكتب "شيلا"، وكلمة "بال" عوضًا عن "باب"، وباب المقام مترجم باب السيدات، وكلارت بدلًا من قلة، وسونا كات بدلًا من ساحة". ثم يعقب على ذلك بقوله: "إن شخصًا متضلعًا إلى هذه الدرجة باللغة العربية، مثل دارفيو لا يمكنه أن يقع في مثل هذه الأخطاء الفاحشة، فإما أن تكون أوراقه قد نسخت بإهمال شديد، أو أن محرر كتابه قد ملأ فجوات يمكن أن تكون قد صادفها في المخطوطة عن مؤلفين آخرين يجهلون اللغات الشرقية".

وتحلَّى المؤلف بروح الإنصاف والتسامح عندما عدَّ المسلمين أناسًا نظيفين، ويعود ذلك إلى الوضوء الذي يمارسونه قبل الصلاة. وذكر الزكاة، التي تعد أحد أركان العقيدة الإسلامية، فأمة الإسلام تحب الخير عندما توزعها على المحتاجين والفقراء.
ولفت إلى أن كثيرًا من الكتاب الأوروبيين أساؤوا عند الحديث عن تعدّد الزوجات لدى المسلمين، برغم أن هذا واضح في القرآن الكريم، حيث تقول الآية المتعلقة بالزواج: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم" (النساء 3). 
في النهاية، لا بد من شكر المترجم خالد الجبيلي، الذي أتاح لنا الاطلاع على مثل هذا الكتاب الذي يعالج عدة علوم، منها الهندسة والزراعة والاقتصاد والطب والمجتمع، وهو عمل ممتاز ستذكره الأجيال القادمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.