}
عروض

جديد عباس بيضون.. الشعر بدون غناء وبدون ادّعاءات

حسين بن حمزة

25 يوليه 2021
واحدة من خصوصيات شعر عباس بيضون أن قصائده تبدأ من فكرة أكثر من كونها تبدأ من دندنة، أو من إيقاع مجاني. هذه الفكرة، ينبغي أن نضيف، غالبًا ما تكون شديدة النثرية، ملموسة، واضحة، حيادية أيضًا، مجردة تقريبًا من الدسامة العاطفية، ومن الغنائية المفرطة. الغنائية، إن وجدت، توجد بمقدار لا يسمح للقصيدة أن تفقد ملموسيتها ونثريتها. هي خصوصية اهتدى إليها عباس بيضون منذ مجموعته الشعرية الأولى "الوقت بجرعات كبيرة". عنوان المجموعة وحده حمل وقتها إشارات مبكرة وقوية إلى انحياز الشاعر إلى لغة لا تكتسب فيها الكلمات معناها وشعريتها بفعل الغناء والايقاع والدراما والعاطفة، بل يحدث ذلك بفعل النثر والدقة والجفاف والحياد.
صفاتٌ وإشارات مثل هذه واظبت على الحضور، بجرعات قليلة أو كبيرة، واضحة أو مواربة، في مجموعات بيضون اللاحقة. لعلّ قصيدته المطوّلة "صور"، باكورته الحقيقية التي تأخر نشرها، هي الوحيدة التي تبدو مكتوبة بمزاج آخر يختلط فيه النثر مع الغناء والتنامي الدّرامي، ولكنها، رغم ذلك، لا تفقد صلتها بالروح النثرية لشعر عباس بيضون، أو بجملته المتوالدة من فكرة تنأى بنفسها عن الغناء والعاطفة الزائدة.




نستعيد على عجل هذه الملاحظة الأساسية في تجربة صاحب "نقد الألم"، ونحن نقرأ مجموعته الجديدة "الحياة تحت الصّفر" (دار نوفل ـ هاشيت انطوان/ بيروت 2021)، ولا نتأخر في الانتباه إلى أنّ ما يبدأ من فكرة في شعره يتسيّد مساحة أوسع وأعمق بكثير، وهذا ما يجعل القصائد تنتمي أكثر فأكثر إلى النثر، بل إلى نثر النثر أيضًا.
ما يزيد من نثرية المجموعة هو أنّ أغلب قصائدها مشغولة أيضًا بفكرة واقعية هي وباء الكورونا، وزمن الكورونا، وما غيّره في تفاصيل الحياة اليومية، وما جلبه معه من أفكار الرعب والموت وتضاؤل التواصل والعزلة الاجبارية، وغيرها. وفي هذا السياق، نجد أحيانًا إيحاءات قِياميّة، حيث "النسيم الأصفر"، ككناية لغوية قديمة عن الوباء، وحيث الناس موجودون في "قارب المجذومين"، وحيث الحياة كاملة خلف "الكمامات"، وحيث الشاعر، مثل غيره، معزول و"منفيٌ إلى غرفتي"، وحيث الحياة نفسها تُعاش "تحت الصّفر"، بحسب عنوان المجموعة.
كتب عباس بيضون مجموعته هذه تحت وطأة فكرة الوباء. ما نقرأه يدلّ على أن المجموعة هي ابنة فكرة واحدة، أو موضوع واحد تقريبًا. هذا على كل حال كان دأب صاحب "أشقاء ندمنا"، وصفةً جوهرية في كتابته، إذْ أن أغلب مجموعاته الشعرية كانت حصيلة فكرة واحدة، أو حصيلة مزاجٍ شعري واحد. لقد قال، في أكثر من حوار، إنه يكتب دفعةً واحدة نصًا يطول ويقصر بحسب الدفقة التي هو تحت تأثيرها، ثم يجد طريقة لتقسيم النص على مقاطع وقصائد مكتفية بنفسها، ومتجاورة مزاجيًا ولغويًا وشعريًا مع بعضها بعضًا.
بموازاة فكرة الوباء، أو في داخلها، يجد عباس بيضون طريقة لوصف ما يمكن أن يكون مناسبةً للكتابة عن جسده، تقدّمه في السن، أمراضه، ماضيه، أدويته.. حيث "الجسد يتابع الثرثرة المستمرة داخله"، وحيث "آخذُ أدويتي الكثيرة/ لأنتصر على قلبي"، وحيث "البارحة تُرابطُ في الخلف/ إنها عددٌ يكبر ببطء"، وحيث "عقودُ سنين/ عجزت عن أن تكون ماضيًا".
من وساوس وأفكار قريبة من الشاعر، تتغذى القصائد. لعلّ قراء عباس بيضون اعتادوا على شيء كهذا، أن يتوالد الشعر من أمكنة قريبة، ومن حفريات عميقة في المواضع نفسها غالبًا. هنا نجد "الفنّ الشخصي" لعباس بيضون، و"المزاج الشخصي" لجملته ولغته وأسلوبيته. لا نجد في مجموعته الجديدة الكثير، أو ما يكفي من الصور التي تنشأ من تلك الجملة. لعل انشغال المجموعة ككل بفكرة الوباء جعلت قلة الصور ممكنة ومنطقية. لا ننسى في المقابل أن الأفكار نفسها تصلح لأن تكون صورًا ومنشآت استعارية من نوع آخر، كأن نقرأ: "أمامنا/ ليس سوى الخلاء/ الذي ربما صنعناهُ بعيوننا"، أو "إذن ماذا نفعل/ غير أن نرمي موتانا إلى البحر/ الذي لأمرٍ ما/ سيكون رائقًا وسعيدًا/ لأمرٍ ما/ سوف يُعيدهم/ أكثر وسامةً".
بين الفيروس والكتابة، نجد صورًا أشمل تصل إلى ملامسة شيء من شعر ريلكه: "لقد أخرجوا شاعرًا من المصحّ/ وسلّموه أن يبتكر فيروس الجنون/ أن يقلّب بلدانًا على بلدان/ وأن يوزع الحياة في أنابيب/ وأن يجد الاسم الأول المنصوص عليه في السماوات للفيروس/ الذي يمكن أن يكون الجناح الأيسر للملاك المخيف في مراثي دوينو".




من هذا الرابط، ينشأ أحيانًا ما يقودنا إلى تفصيلٍ مفضّل وثمين في شعر بيضون الذي، ببراعة لافتة، تفنّن أكثر من مرة في الكتابة عن الكتابة داخل الكتابة, وفي غضونها. يخلط بيضون بين الشعر والجسد، حيث "الشعر الآن هو هذا الجسد/ الذي أربّيه للحظة/ أعرفُ أنه فيها فقط/ ينتصر لنفسه". ويستعيدُ فكرة طرحها من قبل في شعره وفي حواراته، فكرة وصلت إلى حد أن يقول: "لا أعرف إن كان ما أكتبهُ شعرًا"!!
في تصور عباس بيضون، لا توجد لغة مظفّرة، ولا توجد يقينيّة في الشعر، في شعره على الأقل. الشعر هو غالبًا لحظة غير مُمتَلكة. لحظة هاربة باستمرار من حوزة الشاعر ومن مقتنياته. لحظة شك في الشعر أثناء كتابته أيضًا. من هذا الشك، ينشأ جزءٌ كبير من هذا الشعر الذي قلنا إنه يولد من فكرة ملموسة، ومن لغة مُسنّنة ونثرية، وغير فضفاضة، ولكنه ينشأ أيضًا من تشبّثٍ غير مبالغ فيه بالشعر، من لغة بلا ادّعاءات، ومن ارتيابٍ ثمين تجاه صفة "الشاعر". هكذا يمكن أن نقرأ ما يشبه تخليًا عن الشعر، ما يشبه وداعًا لن يتحقق للشعر: "هذه القصيدة التي لا أطمعُ/ في أن تسمّيني شاعرًا/ هي فقط معركتي/ وسأكون وحيدًا معها في الحُجرة/ وربما تكون وداعًا للشعر/ أو مجرد يأسٍ منه".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.