}
عروض

"دروس حياة قرن".. الفكْر المُركّب في مقابل الجزم المُجزّأ

بوعلام رمضاني

30 يوليه 2021



لمْ يحدث في حياتي المِهنية أنْ تمتَّعتُ بقراءةِ كتابٍ وتعبتُ في المَسْكِ بِجَوْهَرِهِ وأنا أعرِضَهُ، كما حدثَ لي وأنا أقرأُ كتابَ "دروسَ حياةِ قرنٍ" لإدغار موران، الذِّي صنَعَ الحدثَ الثَّقَافي الأسبوعَ الماضي مُحاضِرًا ومُكرَّمًا في اليونِسكو بِمُناسبَةِ عيدِ ميلادِه المائة.

في تَغطِيَتِنا للحدثِ، الأسبوعَ الماضي، أَشَرْنا إلى المنهجية التي طَبعت الحَدث على النَّحو الذي يُؤكِّدُ روحَ التركيب لِدى المُفَكِّر المسنِّ، حتَّى حينما يَتعلَّقُ الأمرُ بِتنظيمِ احتفاليةِ تَكريمِه بطريقةٍ وظيفيَّةٍ تُثير انتباهَ من يَربِطُ بينَ شَكْلِ ومضمونِ الأمورِ البسيطةِ العابرةِ والقضايا والأحداثِ الكبيرة والمصيرية المؤسسة.

تكريم موران في اليونسكو بيته الثاني - من مُنطلقِ علاقَتِه التاريخية بالمنظمة الثقافية الدولية كما أشارت إلى ذلك مُديرتها أودري أزولاي-، لم يَكُن إلاَّ تَتويجًا لمسارِ "الرَّجُلِ القرن"، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند استقباله في قصر الإليزيه. موران استبق موته عبر كتابٍ أرادَهُ صاحبُهُ وصيَّةً في قالبِ دروسٍ تعلَّمَهَا عبرَ عُقُودٍ حُبْلى بالمآسي والأتراح والأفراح وبالدم والدموعِ والدمارِ، والهدم والبِناء واليأسِ والرجاءِ والأملِ والمصادفات والمفاجآت المُرَّة والحلوة، وبالتطوُّرِ والتَّقدُّم وبالوَفاءِ والخديعة، وبالتراجُعِ والانكساراتِ والهزائمِ والانتصاراتِ والتحدياتِ المُشْرَعَةِ على آفاقٍ لا يُمكنُ التنبُّؤ بها مهمَا أوتِيَ المفكِّرُ من بصيرةٍ وبُعْدَ نَظر.

فِي كِتابِه الوصيَّة الذِّي نُطلُّ عليهِ اليوم، يؤكد موران أنه ابنُ حياةٍ قامتْ على معارفٍ فكريةٍ ووضعية شتَّى، وفي الوقتِ نفسهِ على أسرارٍ وألغازٍ وإشكالاتٍ ومُصادفاتٍ وحاجاتٍ تتجاوزُ العقلَ البشري والمعرفي، كما جاء على لِسانه في محاضرته وفي أحدِ فصولِ كتابهِ وفي كلِّ أحاديثِهِ التي أَبهَرَ خلالهَا كلَّ الصحافيين بتواضعِ المفكِّرِ العقلاني المؤمن بمصادرِ الـتأثيرِ غيرَ العقلاني تجسيدًا لنظريةِ الفكْرِ المركب المُنافي لكل جَزم مجزَّأ. 


مع فلسطين العربية المستعمرة

في ديباجةِ كتابِهِ الصادِرِ عن دار دونوال، والذي تحدَّثَ عنْهُ مُرتجلًا دونَ أنْ يَذكُرَهُ في محاضرَةٍ تاريخيةٍ تَعكِسُ مَنهجيَّةً دقيقةً ومسار وأفكار وتجاربِ رجلٍ مرجعي على كافة الأصعدة تقريبًا، كَتَبَ موران مُنبِّهًا القُرَّاءَ إلَى عَدَمِ اعتبارِ كتَابِهِ دُروسًا بِمَفهُومِ التلقينِ الذِّي يُمكِنُ أنْ يَتبادَرَ للذهنِ قائلًا: "لِيَكُن واضحًا مِنَ البدايةِ أنَّني لا أُقدِّم دروسًا لأحد، وأحَاولُ فقط الخروجَ بدروسٍ ناتجةٍ عن تجربةِ علمانيٍّ عاشَ قَرنًا، وأتمنَّى أنْ تكونَ هذه الدروس نافعةً ليس فقط لمساءَلَةِ الحياةِ الخاصَّةِ لكلِّ واحدٍ منكم فحسب، بل لإيجادِ الطريق الخاص لكل واحد منكم أيضًا".

التواضُعُ الأخلاقي المُعلن في الديباجة، يُلقِي القارئَ في أَسْرٍ نَفْساني يُوقِعُه حتمًا في مَخالبِ فَارِس فِكْرٍ عَرَفَ كيْفَ يُخاطِب الملايينَ مِنْ مُعجَبِيه عَبْرَ منهجية خارقَةٍ مَكَّنَتْهُ من السيطرةِ على طرَفِي مُعادلَة زَاوَجَ صَاحِبُها بين مساري السَّيرة الشخصية والحميمية من ناحية، وبين مَثيليهما على الصعيدين السياسي والفكري من ناحية أُخرى، من مُنطلَقِ إيمانِه بنظرية المعرفة الشاملة والفكر المركب. اللافتِ للانتباهِ في كتابِ موران الذي تضمَّنَ سَبْعَةَ فُصُولٍ، تَجَاوزه في السُّطور الأولى الأسلوب البيُوغرافي التقليدي الفجّ والجاف والغارق في شخصانية نرجسية، وتوفِيقه المُبْهِرِ في الربط بشفافيَّةٍ وجدلية بين توجهه الفكري، وبين تحدُّثِه عن هويته الشخصية بشكلٍ يَعْكِسُ كُفْرَهُ بها في الوقت نفسه من منظور كتاب أمين معلوف "الهويَّات القاتلة". وبدا ذلك واضحًا في الفصل الأول (الهوية واحدة ومتعددة) الذي عرَّف فيه نفسه قائلًا: "أنا إنسانٌ قبلَ كل شيء رغم أنَّني صاحبُ عدَّةِ صِفات تكتَسِبُ أهميةً مُتَغيِّرة ونسبية استنادًا للظروف. أنا فرنسي من أصل يهودي سفرادي، وإيطالي إسباني جزئيًا، ومتوسطي كاملًا، وأوروبي ثقافيًا، ومواطن عالمي، وابن الأرض الوطن. هل يُمكنُ أنْ نَكونَ ذلك مرَّةً واحدة في نفس الوقت؟ لا.. لأنَّ الأمرَ يَتوقَّفُ على إمكانية سيطرةِ واحدةٍ على أُخرى في مرحلةٍ ما نتيجة تغيُّرِ الظروف والأوقات".

تكريم موران في اليونسكو لم يَكُن إلاَّ تَتويجًا لمسارِ "الرَّجُلِ القرن"، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند استقباله في قصر الإليزيه


منهجيًّا، برْهَنَ موران على تعريفِه لهويَّتِه المتعددة المنابع والأوصاف رابطًا بين كل ما عاشه شخصيًّا وعائليًا وسياسيًا وفكريًا وبين جوانب هويته المتعددة التي تَبقى إنسانيةَ الجوهرِ والمرجعية، وما يهم القارئ كنموذجٍ حيٍّ على صحَّة كلامه قوله: "ضميري اليهُودي ذابَ في سنِّ السابعةِ عشرة أثناءَ بحثِي عنْ ضميرٍ سياسي إنسانِيٍّ في عزِّ أزمةِ الديمقراطية ومناهضة النازية والستالينية. زيارتي لإسرائيل عام 1965، كشفتْ لي الحقدَ القائِمَ بين اليهود والعرب، وتوقَّفَت رحلةَ بحثي عن جذوري اليهودية إثر اتخاذي موقفًا مُعاديًا لسيطرةِ إسرائيلَ على الشعب العربي في فلسطين كواحد أخيرٍ من المفكرين اليهود إنسانيي النزعة والمناهِضين للاستعمار، وبالتالي المعادِينَ للاحتلالِ الإسرائيلي لفلسطين العربية. المقالات التي نشرتها في صحيفة (لوموند) والتي لم أُنكرَ فيها وجودَ إسرائيل، تسبَّبَت في اعتباري خائنًا ومُعادِيًا للسَّامية".

 

انتظار غير المُتوقَّع درسُ تجربَة حياتي

إدغار ناعوم (الاسم المستعار الذي اتخذه أثناء الاحتلال النازي) أو إدغار موران الابن الفكري والإنساني لمونتاني وسبينوزا وهوغو وهيراقليطيس وباسكال، والمنحدر من عائلة إيطالية وإسبانية الأصل، يقول في الفصل الثاني "غير المتوقع وغير المؤكد"، بعد إسهابِه في الحديثِ عن جوانبَ هويَّتِه المُتعددة اللاحقة وحياتِه الزَّوجية والعاطفيةِ خلالَ فترةِ ما قبلَ الحربِ العالميةِ الثانية والحرب نفسها وما تَلاها من تَطوُّراتٍ سياسية خَذلته وبرَّرَت أكثرَ تمسُّكَه بتوجهه الفكري المركب - إن صحَّ التعبير- وعنْ ولادَتِه عام َ1921 في باريس وعن انطلاقته في التأليف ("العام الصفر لألمانيا عام 1946"، ثم "الإنسان والموت عام 1951): "وُلدْتُ قبلَ قَرنٍ ميِّتًا حيًّا عمليًا نتيجة اختناقي بالحبل السري، ولولا صفعة طبيب لما عشت".

انطلاقًا من هذه الحقيقة، بنى موران (اللاديني الذي يؤمن بدور الدين في حياة الأفراد والجماعات كإحدى ركائز البنية العقائدية الفوقية) إيمانَه بجدليةِ الحظِّ وسوء الحظ وتحديدهما لحياة الإنسان. وبَلْوَرَ ذلكَ عبر أمثلةِ موتِ أمِّهِ وهو في سنِّ العاشرةِ بعد أنْ كتبَ له الحظُّ أنْ لا يموتَ عند ولادته، وإصابته بداء تناول مخدرات اسمها القراءة والسينما والموسيقى على حد قوله، ونجاته مرة ثانية من الموتِ بعد أن لفَّ جسمه بالثلج للقضاء على الحمى القلاعية التي أصابته. موران الذي خصَّصَ فصلًا كاملًا لإيمانه بالشيء غير المتوقع أو بالحظ الذي يُرادفُ الصدفة، راح يُعمِّقُ فنَّ السَّردِ الواقعي بسلسلةٍ من الأحداثِ السياسيةِ والفكريَّةِ والشخصية العاطفية التي كانت مصدرَ سعادةٍ ونجاحٍ لم يَكُن يتخيلهما حالمًا ومستيقظًا على السواء، ومن بينها هروبه إلى تولوز إثر تقدم القوات الألمانية في حزيران/ يونيو عام 1940 في عزِّ استعداده لامتحانات السنة الجامعية الأولى بباريس، وتحوله إلى شيوعي لستَّةِ أعوامٍ مـتأثرًا بالعمى الإيديولوجي العابر، وإلى مقاوم إثر غزو الاتحاد السوفييتي، وكُفره بالشيوعية بعد معايشتها من الداخل كشمولية إقصائية لا تختلف في جوهرها عن النازية في تقديره.

موران الذي ألَّف عام 1959 كتاب "النقد الذاتي"، والذي خرج من رحِم حظّ رماه في أحضان فكر اعتقد لفترة أنه طريق الخلاص، نظَّفَ مُخَّهُ بغزو فكر سياسي مركب وغير مجزأ وغير ميكانيكي، والذي أصبح مُقترنًا باسم فلسفي ما زال يُبهِرُ العالم مُثيرًا النُّفورَ والإعجابَ والخلافَ ككلِّ الأسماءِ الكبيرةِ التِّي تُؤثِّرُ في مجرى التاريخ، والصُّدفَة التي واكبت مسيرةَ المُفكِّر المبدِعِ، وحَظيت بتَنظير آسِرٍ تَستَحِقُّ وحدَهَا أكثر من مقال.

 كتابه الجديد كان موضوع محاضرته في اليونسكو


في فقرات فرعية "كلَّ الحياة مِلاحة في مُحيطٍ من عدَمِ اليقين"، و"خيراتُ الشدائد ونعمةُ المحن"، و"كل الحياة غير مؤكدة"، كتبَ يقولُ مُؤكِّدًا على إدخال عدم اليقين في التاريخ الإنساني، مشيدًا بماركس الذي كفرَ به لاحقًا لأنَّهُ كان ميكانيكيًا فكريًا: "غير المتوقع ليس صُدفة فقط"، وهو كالثورة عند ماركس الذي قال: "الخُلد العجوز يَعرِفُ كيفَ يحفر جيدًا تحت الأرض ليخرج فجأة"، واستمر يقول مؤمنًا بدور الصدفة: "لا يجب ترك الصُدفة تُخدِّرنا، وعلينَا بتوظيفهَا لتَحفيزنا على الفَهْمِ والتفكير فيها وانتظارها إذا كنا غير قادرين على توقعها. استحالة القضاء على كل تداعيات كل ما هو إنساني، وعدم التيقن من مصائرنا، وضرورة انتظار غير المتوقع، كلها جزء من الدروس الكثيرة التي تعلمتها من تجربة حياتي".

من منطلق مقولة "لا يُمكِنُ أبدًا التنبؤ بالإبداع"، أمضى موران يُمتعنا، ويفيدنا بسلسلة من الفتوحات العلمية والفكرية والدينية والروحية المعروفة وغير المعروفة، وحتى بمسلسلِ حياتِهِ الزوجية والعاطفية بوجه عام (تزوَّج وأحب أربعَ مرَّاتٍ لكن ليس كمسلم)، وموتُ زوجته إدوييج غير المتوقع هو الذي أدى إلى لقائه بصباح المغربية التي أعطته الحياة مُجدَّدًا على حد تعبيره، وسهرت وما زالت تسهر على كل تفاصيل رُزنامة حياته الفكرية والإعلامية، كما أكد على ذلك تَكريمَه الأخير الذي تناولناه في تغطيتنا الأخيرة.

الحياة الحقيقية شعر

في الفصل الثالث البديع أيضًا، يشرحُ موران مفهومه لمعرفة العيش مُفكِّكًا معانيه وتجلياته، ومُقدِّمًا أمثلةً حيَّة من صُلب حياته، وواضعًا مقارباتِهِ المختلفة تحت عناوين فقرات: "أنا، أنت، نحن"، "أوقات حياتي السعيدة"، "الحالة الشعرية والسعادة"، "تجاربي الشعرية"، "السعادات الصغيرة"، "نشوات التاريخ"، "حاجة الاعتراف"، ويُنبِّهُنا في كلمات مقدمة الفصل الثاني - موافقين أو غير موافقين على مقارباته بأصالة واستثنائية- إلى الفرق المبدئي بين مفهومي الحياة كمتعة وإنجازات ومحن وإخفاقات ونجاحاتٍ سعيدةٍ وحظوظٍ ومجازفات (Vivre)، وكوجودٍ شكليٍّ مُرادِفٍ للنجاة ولحفظ النوع البشري فقط بواسطةِ التنفس والتغذية Survire)). العيش الحقيقي مركب، ويُؤسَّسُ على دعائم مرتبطة ببعضها البعض ماديًا وعضويًا وروحيًا واجتماعيًا وسيكولوجيًّا، والحياة بهذا المعنى تتجاوزُ مستوى الوجود الإنساني الظاهري المجرد من مُتَعٍ مُتنوعة تُفسِّر المعنى الشامل والحقيقي للحياة، و(لا وجودَ فعلي لهذا العيش دون ثلاثية "أنا وأنت ونحن" الضامنة لعلاقة حميمية ولاعتراف متبادل ولامتلاء الإنسان من الآخر). مُكرِّسًا مبدأَ عرضِ تجربةِ حياتهِ كما عاشها، ومُتَّبِعًا منهجًا مركَّبًا، عادَ إلى بدايةِ علاقةِ حياتهِ بالاكتشاف المعرفي منطلقًا من اكتشاف بؤس المشردين في أوبرا القروش الأربعة، مرورًا باستقباله كمسؤول الطلبة اللاجئين في تولوز، ومُقاومته النازية في سن الثانية والعشرين ومن حبه لفيولات رفيقة حياته الأولى، ومُنتهيا بسلسلة لقاءات مع البَشَرِ من مُختَلَفِ الفِئات الاجتماعية البسيطة والنُّخبوية الفكرية والأدبية والفنية، وبروائعَ الطبيعةِ والأدبِ والحياة بشقَّيْها المادي والمعنوي على أكثر من صعيد.


تمحورت سعادة المفكر موران حوْلَ أوقاتٍ سعيدة، تمثَّلت في صداقته التي دامت عامين مع الروائية الكبيرة مارغريت دوراس ومع زوجها روبير أنتلمان (1945 - 1947)، وفي حُضوره حفلات بوريس فيان وجولييت غريكو وتحدُّثِه في مقهى لو فلور الشهير مع شلة شارع "سان بونوا" عن الأدب والفكر والفنون والشعر. عرفَ العيشَ السعيد أيضًا في كاليفورنيا (1969 - 1970) مُقيمًا كباحثٍ في فيلا لاجولا، ومُتسليًّا في أجواءَ فنية واحتفالية مُغلقة وأخرى في الهواء الطلق (انظر كتاب يوميات كاليفورنيا، 1970)، وفي لاركسبوت بالقرب من سان فرنسيسكو مع أخته إيلان التي كانت تستقبلُ الضيوفَ في بيتٍ يمُنَعُ النظر فيه للساعات.

عَرَفَ موران كيف يعيشُ مُزاوجًا بينَ التحصيلِ العلمي والتسلية بتعميقه مَعرفَتِهِ حولَ الفِكر المركب للكتاب أشبي ووينار وباتسون وفون فورستر، وتمتعه في البحر وفي جولات عبر الصحراء. عرف العيش السعيدَ أيضًا في توسكانا الإيطالية الساحرة وسط الكروم وأشجار الزيتون (1979)، وفي شواطئ الحمامات بتونس الشقيقة، وكلَّ فصولِ العيش السعيد المذكورة، ما هي إلا تجليات شعرية في تقديره، "لأنَّ الشعر ليس ذلك الذي يقرضه الشعراء فحسب، بل هو أيضًا شعرَ الحياة كما تحدث عنه السرياليون" (انظر كتابه حب وشعر وحكمة، 1997). الحالةُ الشعرية هي الأحاسيس التي تنتابُنا ونحن نعيشُ تجاربَ حياتِنَا عبرَ العالم وخلال لقاءاتِنَا المتبادلة المليئة بالود والابتسام، والحالة الشعرية هي أيضا تأمُّلُ وجهِ ما وطبيعة ما والانتشاء برقصة وبقطعة موسيقية معَ منْ نُحب، وهي أيضًا ابتساماتُ الرُّضَّعِ وضحكاتِ وألعابِ الأطفال. الحالة الشعرية هي أيضًا المشي تحت شمسٍ شتوية أو تحتَ مطرٍ ربيعي، والوجهُ المشرقُ والمبتَسِم لشابةٍ تقرأُ رسالةً في موقف حافلة، وهي أيضًا عامة الناس الذين يرتادونَ الشوارع والمطاعم ويركبون الميترو، وخاصة الإناث الشابات والمُسنَّاتِ اللاتي يُعبِّرنَ عنْ وجوه تخفي أسرارًا لا يُمكِنُ سبرُ أغوارها (أنظر ديوان موران الشعري "أشعار راكب الميترو" التي كتبها في سن الثامنة والعشرين ونشرها عام 2018). في فقرتي "نشوات التاريخ" و"حاجة الاعتراف"، أوجز النشوات التي عاشها مُنطلقًا من معايشته مراهِقًا الإضرابَ العام عام 1936 وتحرير باريس والاستعراض الكبير الذي تقدمه الجنرال ديغول عام 1944، وثورة القرنفل في البرتغال عام 1974، ومرورًا بحضوره حفل الموسيقار الكبير رستروبوفتش الذي احتفل بسقوط جدار برلين عام 1989 عازفًا باخ، وانتهاء بمباريات كرتي القدم والرجبي التي مكنته من تذوق طعم الانتشاء الجماعي، وخاصة لحظةَ دخول الكرة شباك الحارس المنهزم.

حاجة الإنسان إلى الاعتراف درس آخر تعلَّمَه موران، وهو ضروري لتوازن الإنسان النفسي والأخلاقي والاجتماعي: "لأنها تُؤكد وجودَه ليسَ كرقمٍ يخضعُ لحسابات الاقتصاديين والتكنوقراطيين، بل كإنسان في حاجةٍ إلى وجود كريم في كل الحالات، وتحية إنسان مجهول في الشارع أو تحية جارٍ يعني أنك تقول لأحدهما: أنت موجود، وأعترف بك كإنسان".


الإنسان تعقيدٌ وتركيبٌ

في منتصف الكتاب، وتحديدًا في الفصل الرابع، أكَّد موران أن دعوته إلى فكرٍ مركَّبٍ وغيرُ مجزأ أملاه عليه كانط دون وعيٍ منهُ من خلال أسئلته الثلاثة: ما الذي يمكن أن أعرف؟ ماذا يجب أن أفعل؟ ما الذي يسمح لي أن أتمنى؟ ثلاثية كانط هي التي قادتهُ إلى ما هو عليه اليوم فكريًّا، وهي الثُلاثية التي ما زال يَضعُها تحت المحك رجلُ القرن كطالب أبديٍّ للمعرفة، على حد قوله في كتابه وفي محاضرته.

كما فعل في الفصول السابقة، ربط بين كلِّ الأحداثِ والتجاربِ التي عاشهَا على كافة الأصعدة عائدا إليها ليس من بابِ التكرار السلبي والإطناب والحشو، ولكن للرَّبْطِ منهجيًا بين الفكرة النظرية والمعايشة العملية، ولم يَكُنْ أمامَه غيرُ خيارِ العودةِ في كل مرّة إلى المراحل التي غطَّت قرنًا من حياته، لكنْ بإطلالاتٍ جديدةٍ تعكِسُ الانسجامَ المُسطَّرِ من البداية، وعمقَ الفيْضِ المعرفي الهائلِ الذي صنعَ مِنْ موران ما هو عليه اليوم فكريًا.

كانط دليله، هو الذي قاده نحوَ معرفةِ الإنسان بكافَّةِ جوانِبِه المعَقَّدَةِ والمُركَّبَة، الأمر الذِّي قادَهُ إلى تكوينٍ شاملٍ في العلومِ الإنسانية، وإلى ماركس الذي أثَّرَ فيه قبل أن يَنقِدَه ويَتَجاوَزَهُ.


في فقرة "قوة الأسطورة" تحدَّثَ عن تأثيرِ الأسطورةِ والدين والأيديولوجيات والمتخيل والمعتقدات المتعلقة بالحياة بعد الموت في الواقع الإنساني والاجتماعي بدرجة لا تقِلُّ عن تأثير الصراع الطبقي والعامل الاقتصادي، ولا أدلَّ على ذلك قوله "تجذر مبدأ التضحية عند الإنسان بالنفس من أجل الأبناء والعائلة والوطن والدين".

باسكال وهيغل وهيراقليطيس أثَّروا بدورهم في موران إلَى درجة تركَتْهُ يقتنع بفكرة التعقيد الإنساني انطلاقًا من التسليم بالتناقضات الضرورية والحتمية لفهم ماهيته المعقدة والمركبة الأمر الذي وجده في مقولة هيراقليطيس Héraclite كأبٍ فكري وروحيٍّ أولَ على حدِّ تعبيره في المحاضرة التي ألقاها في اليونسكو: "الوئام والخلاف هما أبٌ وأمٌّ لكل شيء، وما هو مُعاكس ضروري، ومن التضارب يُولدُ أجملُ انسجام". التعقيد البشري يُعبِّر عن نفسه في ثنائيات عديدة أوجَزَها في قُطبية الإنسان العاقل والإنسان المجنون، والإنسان المصنع والتقني الذي يُبدعُ الأدوات والإنسان الأسطوري والمؤمن الديني والساذج، والإنسان الاقتصادي الساعي إلى الربح الشخصي والإنسان اللاعب والممارس للنشاطات المجانية، ولأنَّ الدُّول والحضارات مثل أفرادِ القُطبية المذكورة، فإن الحضارةِ الغربية تمثل في تقديره "حالة من حالاتِ الجنون والغطرسةِ والعنادِ بتَوهُّمها السيطرة على الأرض".

التعقيد البشري هو في المحصلة نتيجةَ درسٍ تعلَّمَه الفيلسوف والمنظر موران، ويتمثل "في حتمية شمولِ كل عاطفةٍ العقلَ الساكن، وكلَّ عقلٍ العاطفةَ كوقودٍ". اختلال هذه المعادلة أدَّى إلى كوارثَ جماعية وفردية راح يعدِّدُها عبر أمثلة حفل بها التاريخ الذي أكَّد تعقُّدَ الإنسان وتجسيده الخير والشر في الوقت نفسه، ونقتصر على مثال "تبرير جوليان بندا رسول العقلانية للمحاكمات الستالينية المزيفة"..


تجارب سياسية وأخطار جديدة وأخطاء

كما كان منتظرًا، أفرَد موران الفصولَ الثلاثة الأخيرة لتجاربه السياسية ولأخطائِه من منظورٍ منهجيٍ، مُضيفًا سلسلةً أُخرى من الدُّروسِ التي تَعلَّمها انطلاقًا من سن الثالثة عشرة، وأناتول فرانس ودوستويفسكي وتولستوي ككتاب كبار أثْروا مسيرته الفكرية وأثْروا مسار آفاقها. إنها دروسُ ما قبل الحرب العالمية والحرب نفسها والاحتلال النازي والتواطؤ والتخاذل والمقاومة والصمود، والتي تحدَّث عنها في قالب سيمفوني ملؤه التناقضات والصدمات والمفاجآت والتغيرات والأحداث غير المتوقعة والابتهاج والخيبات والمستحيل الذي أصبح ممكنًا ونكرانَ الذَّات الذي تَعايش مع الأنانية والغدر. كل ذلك، توقَّف عنده موران مُبرزًا كلَّ المحطات التاريخية التي نطقت بذلك وعلّمته، ما دفعه إلى بلورةِ فكرٍ بناهُ على أنقاضِ توجُّهاتٍ فكرية أضحت قاصرَةً على فهم ماهية وكينونة الإنسان المركبة، وعبرَ أخطاء لم يتردَّد في الجهرِ بها في شتاءِ عمره الذي يتعايش بدوره مع ربيع عمر زاهر ومُتجذِّرٍ في روحه اليانعة والمتفجرة وداعة ولطفًا وأملًا وابتسامًا رغم هول تداعيات كورونا.

إنّها المحنة الجديدة التي كرَّس من خلالها فكرهَ المركب في كتابه ما قبل الأخير "دروس كورونا"، والتي عاد إليها في كتابه "الوصية والدروس المستخلصة". وقال موران عنها -مُمارِسًا رقابة ذاتية مبطنة- لا تكشف عن الهوية النيوليبرالية لمن اعتبرهم مقاولي الهم البشري، وخاصة أولئِك الذين ما زالوا يعملون على تخريب وإفسادِ الزراعة والبيئة لأهداف ماركنيتلية جعلت من الإنسان رقمًا استثماريًا لا غير.

إن مقالًا واحدًا - حتى وإن أسهَب صاحبه في عرضه- لا يكفي للاطلاعُ على قوة كتاب ليسَ ككل الكتب وعلى دروس مُفكِّرٍ بقيمة موران، وترجمته إلى اللغة العربية مسؤولية كل دار نشر تحترم الفكر الأصيل والمجدّد في وطننا العربي الكبير.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.