}
عروض

"المثل الجائر".. مخلص الصغير ينتصر للنساء

صدر حديثًا للباحث المغربي، مخلص الصغير، كتاب جديد بعنوان "المثل الجائر"، وهو دراسة حول الصور النمطية الجنسوية في الأمثال الشعبية المغربية. وبذا يواصل هذا الكاتب الخوض في مشروع نقدي تنويري لا يفصل الجمالي عن النضالي، ولا الاجتماعي عن الثقافي، يقينًا منه أن الرقي في مجتمعاتنا إنما يبدأ من تغيير العقليات والذهنيات، والسمو بالقيم الإنسانية، وليس مجرد القول بتغيير الأوضاع الاجتماعية.
ينطلق كتاب "المثل الجائر" من سلسلة مفاهيمَ فلسفية وأدبية ونقدية يتقدمها مفهوم "الميسوجينية"، أو الكراهية للنساء، حين يرى المؤلف أن المثل إنما يضمر كراهية صريحة للمرأة في أغلب نماذجه وتمثلاته. كما يؤكد المثل أن هذه الكراهية للنساء إنما هي متأصلة في الذهنية البشرية عبر التاريخ. وبقدر ما يختزل المثل هذا الازدراء "النوعي" ويكثفه، بقدر ما يصدر عن نزعة جنسوية صريحة، حيث يظل المثل "أقدم تحيز في العالم".
استنادًا إلى متن موسع، عبر مدونة مَثَلية سخية، وإلى دراسات أنثروبولوجية وسوسيولوجية وتاريخية، ومقاربات منهجية اشتغلت على الأمثال الشعبية، ينتهي الصغير إلى أن هذه الأمثال غالبًا ما تقوم بصوغ خلاصات تكرس النظرة الدونية إلى المرأة، وتكثف الصور النمطية حولها، في عبارات مسكوكة وجاهزة، جرت صياغتها بإحكام وانتظام، عبر تشكيل إيقاعي يجعلها تجري على كل لسان. هذا من دون أن ينفي الباحث وجود أمثال تنتصر للنساء وتعترف لهن، على حد توصيفه، "وهي تقدمهن في صورة منصفة، حتى لتكاد تساوي بينهن وبين الرجال، على ندرة هذه الأمثال وقلتها".




لكن الأمثال غالبًا ما ترد على لسان الرجال، إذ الرجل هو الذي يقول، وعلى المرأة أن تسمع فقط، أن تصغي إليه، وأن تلتزم بما يأمر به. "الرجل صانع المثل، ومهمة المرأة أن تمتثل له، لِمَثَلِه ومُثُله التي اختلقها، للصور النمطية التي كرسها حول النساء. أما المرأة فلا تقول، لا تتكلم، الرجل هو الذي يفعل ذلك، بينما هي موضوع فقط. في المتخيل العربي الإسلامي، الرسمي والشعبي، يظل صوتها عورة، كما هي صورتها أيضًا، إذ ينبغي أن لا تُرى، أن "تُحْجَبَ"، و"تُحَجَّب"، أن تظل في البيت، بيت أسرتها، ثم إلى بيت زوجها، ثم إلى قبرها، كما يردد المثل: المرا من دارها لقبرها". يتعلق الأمر بوأد رمزي، كما جاء في هذه الدراسة، حيث تولد المرأة ميتة، محرومة من الحياة، بكل أنفاسها تقريبًا. ممنوعة من الكلام المباح، ومن الفضاء المباح، أي ذلك الفضاء العمومي بما هو سماء للحرية.
وثمة مقولة شعبية مغربية تكرس ما تقدم، وهي تعلن أن للنساء ثلاث خرجات، الأولى هي خروج المرأة إلى الحياة، والثانية خروجها من بيت الأسرة إلى بيت الزوجية، والثالثة خروجها من بيت الزوجية إلى القبر. وهو ما سيعبر عنه مثل قادم/ قاتل: "المرا من دارها لقبرها"، أي: المرأة من دارها إلى قبرها.
نعم، "ومن المَثَلْ ما قتلْ"! والمثل هو كلام الأولين وأقاويلهم، أي أنه "كلام الموتى"، بناء على لازمة "قالوا زمان"، التي تسبق التلفظ بالمثل عادة، استنادًا إلى قاعدة "الأولين ما خلاو للآخرين ما يقولوا" (ما ترك الأول للآخِر شيئًا). وحين يتحدث الميت عن المرأة فهو يستدرجها إلى عالمه، عالم الموتى، ويصادر حقها في الحياة.
ويتساءل المؤلف مع الباحثة النسوية، شيري أورتنر، عن السبب الذي يقف وراء إنتاج هذه الصور النمطية حول المرأة، والسر الذي يجعل كل الثقافات تتفق على ازدراء النساء، رغم اختلاف تلك الثقافات، واختلاف مرجعياتها الدينية وتمثلاتها التاريخية، وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية... ليتبين أن السبب الأساس هو "الطبيعة". فحسب التفرقة الأنثروبولوجية الذائعة، ثمة جدل ما بين مجالين اثنين لا ثالث لهما: الطبيعة والثقافة. وهنا، يصبح الرجل ممثلًا للثقافة، وتغدو المرأة، في نظره، ممثلة للطبيعة. إذ هي عنده رمز لهذه الطبيعة، لخصبها وإنتاجيتها، لصمتها وخرسها. بينما الرجل هو الذي يستغل هذه الطبيعة ويشتغل عليها ويسخرها لصالحه، وهو الذي يدرسها، ويتحدث عنها ويحكم عليها، وهو من يتحكم في مصيرها، على هذا الأساس.
هكذا، تحمل المرأة الأمثال على جسدها، مثل ندوب لا تمحى. إذ المثل جنس أدبي شعبي وشفاهي، في الأصل، قول غير مكتوب، لكنه محفور في جسد المرأة، مثل وشم خفي. وقد سبق لعبد الكبير الخطيبي أن أقام مشابهة بين المثل بما هو متن، والوشم بما هو رسم، وهو يذكرنا بالعلاقة الاشتقاقية المتينة بين كلمة جسد Corps، وكلمة متن Corpus. وحين يضلع المثل الشعبي في ازدراء المرأة، ويضطهدها اضطهادًا، ويطاردها، فهو ينتزع منها حريتها، وينزع عنها كرامتها، في أحايينَ كثيرة ونماذجَ قاسية وفظة.




والمثل الشعبي، كما الفصيح، نتاج الثقافة الذكورية، وتكريس لها. والمثل مذكر، بخلاف الحكاية، فهي أنثى. لذلك، تسكت المرأة عن الكلام المباح في مجتمع الأمثال، وينوب الكلام عنها "المثل"، ليتحكم فيها ويحكم عليها. وكثيرًا ما يرد المثل مسبوقًا بالعبارة الموجهة: "قالوا زمان". إذ الزمان قدر، والزمان مذكر أيضًا. ومن أسماء الرجل "الزمان" في ثقافتنا الشعبية، كما في هذا المثل: "مشى لها زمانها وخلاها فمحانها"، أي ذهب زمانها وتركها في محنها.
لا ينفصل المثل عن الحياة، فهو ليس عملًا أدبيًا مستقلًا، كما في الحكاية الشعبية، أو الخرافة، حيث يلجأ الناس إلى الحكاية، ويخصصون حيزًا من الزمن، في آخر الليل، غالبًا، قصد الاستماع إليها والاستمتاع بها، أو كما يلجأ الناس إلى الألغاز الشعبية من أجل اختبار ذكائهم، أو إلى الشعر من أجل التأسي، أو التغني بالحياة... في مقابل ذلك، يتسلل المثل إلى الحياة، ويتخلل خطاباتنا وحياتنا اليومية، ويقتحمها اقتحامًا من حيث لا نحتسب.
هكذا، يصبح المثل جزءًا من الحياة، وموجهًا لهذه الحياة، متحكمًا ومستحكمًا فيها. تحضر الأمثال في الفضاء العمومي وتهيمن على نقاشاتنا داخل هذا الفضاء الحكر على الرجال. إنها الأمثال التي نحيا بها، وهي الأمثال التي تموت بها النساء. يظهر المثل ويتخلق في سياقات كثيرة، ما يعني أنه يدعونا إلى العمل به في مختلف المقامات التي يتنزل فيها القول المأثور. لأجل ذلك، فإن المثل لا يتوقف عن متابعة النساء، ولا يني يحضر. إنه تحرش لا يهدأ، تحرش متواصل. والحال أن التحرش ممارسة لغوية هي الأخرى. كما يتخذ المثل صورة نص قانوني، أو يكاد، وهو يذكرنا في صيغته المختصرة بمادة من مواد فصل معين في قانون معين. أو هو "فتوى" بالتوصيف الفقهي.
هكذا، من خلال تضافر ما هو تاريخي واجتماعي وديني وأخلاقي وقانوني، يحوز المثل تلك "السلطة السياسية الخارقة التي يمتلكها التقليد الشفوي"، بشكل عام، كما تؤكد ذلك فاطمة المرنيسي. كما يمتلك المثل قوة لغوية وتشكيلية، ويتخذ صيغة ترفعه إلى درجة المقدس. وهنا يتحول المثل عند رولان بارت إلى "شفرة ثقافية"، أو إلى شفرات مرجعية، "لأنها تتيح للنص أن يعتمد على سلطة علمية، أو أخلاقية". إنها شفرة حِكَمية تشمل كل المعرفة والعلم والحكمة والأمثال، ولذلك فهي شفرة عامة، أي ثقافية.
في الفصل الأول، ساءلت الدراسة صورة المثل نفسه، قبل التساؤل عن الصور التي يرسمها للنساء المغربيات. وهنا، جرى استعراض أهم المدونات النقدية والمَثَلِية التي انشغلت بالمثل في ذخائر التراث العربي والإنساني، وكذا الاجتهادات التي قدمتها الباحثات، واقترحها الباحثون المعاصرون، كما الآراء والتأملات الفلسفية التي قاربت المثل واقتربت منه اقترابًا. وفي الفصل الثاني، قصد البحث نحو دراسة الصور النمطية الجنسوية للنساء كما تعرضها الأمثال الشعبية المغربية. ثم فصلت الدراسةُ القولَ في هذه الأمثال، وأفاضت في تحليلها وسبر أغوارها ومفازاتها، حتى انتهت إلى رصد عشر صور نمطية كاملة، مع تأطيرها تأطيرًا نظريًا ومنهجيًا، تسميةً وقراءةً وتأويلًا. فهنالك المرأة الحبيسة أولًا، ثم المرأة المكيدة، ثم الخاضعة، ثم التابعة، فالناقصة، وكذا المرأة المشتهاة، ثم المرأة الشريرة، والمرأة المنبوذة، كذا المعنفة، وأخيرًا "المرأة المنصَفة"، إذ ليس يمكن إنكار وجود أمثال مغربية أنصفت المرأة إلى حد ما، على قلة تلك الأمثال ونُدرتها.
وفي الأخير، استوقفتنا الدراسةُ عند سلسلة من المفارقات التي تحملها تلك الأمثال الشعبية المغرضة في نظرتها إلى النساء، الأمر الذي يكشف عن هشاشتها كلما أمعنا البحث فيها وذهبنا في تحليلها أبعد مذهب.




ولا تقتصر أهمية هذا الكتاب على الأبحاث التي خاضها، أو تلك الأفكار التي أثارها، أو الخلاصات التي انتهى إليها. فبعد مطالعة المجهودات الواردة في هذا الكتاب، والإفادة منها ما أمكن ذلك، يمكن للقارئ أن يتقاسم مع المؤلف مجموعة من القناعات التي تعني لنا جميعًا، فور طي هذا الكتاب. وأولى هذه الخلاصات أن تراثنا الشعبي لا يزال ممتدًا في الزمن، ولا يزال فاعلًا أساسًا في تشكيل مخيلاتنا وتمثلاتنا، ومن ذلك تمثلنا للنساء، والصور النمطية التي ننسجها حولهن. ولأجل ذلك، لا بد من الاهتمام بهذا التراث الشعبي، تدوينًا ونقدًا وتفكيرًا وتفكيكًا... والحال أن الأمثال الشعبية هي أهم مشترك أدبي و"لغوي" بين أبناء الجماعة الواحدة، بصرف النظر عن تكوينهم المعرفي وانشغالهم الثقافي... وثانيتها أن الأمثال الشعبية المغربية، وغيرها، ليست نصوصًا مقدسة، ولا مقولات مُنَزَّهَةً. ولذلك لا بد أن نُعَرِّضَها للمساءلة والقراءة النقدية الحرة، لا أن نسلم بمضامينها المسكوكة وتمثلاتها النمطية الجاهزة. والثالثة أن تمثلاتنا للنساء من حولنا ليست من اختيارنا أو قرارنا، وإنما تستحكم فيها جملة من المدلولات والحمولات والخلفيات والأصداء الثقافية، ومنها هذه الأمثال الشعبية، أو بعضها، على الأرجح. إذ لا تخلو أمثال شعبية وفصيحة من حكم مستنيرة، كما ورد ذلك وأدرج في تضاعيف هذه الدراسة. وفي مرحلة رابعة، تتخذ هذه الدراسة من التراث الشعبي نموذجًا يسمح بأن نكف عن تلك النظرة التي تقدس النص التراثي، وهي تدعونا إلى تفكيك هذا النص واختبار شعريته وإنسانيته، بدل الانبهار بفنيته المصطنعة. والحال أن شعرية المثل لا تتحقق ما لم ينتصر هذا الجنس الأدبي الشعبي لشعرية الحياة، تلكم الشعرية التي تجسدها النساء في حياة الإنسانية أعظم تجسيد. ثم خامسًا، وأخيرًا، جرت كتابة هذه الدراسة بضمير الجنسين، وهي تتوجه إلى القارئات والقراء، في محاولة لاستئناف البحث في ذاكرتنا وحاضرنا، وبناء مستقبلنا المشترك، وهو مستقبل يعنينا معًا، رجالًا ونساء، سواء بسواء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.