}
عروض

"مثل أخطاءٍ طفيفةٍ".. تأمُّلات في اليوميّ وشعريّة التفاصيل

رشيد الخديري

14 أغسطس 2021



من خصوصيّات شعر محمد اللغافي، أنّه ينحاز إلى اليوميّ وشعريّة التفاصيل. فمنذ تجربة الحواس الخمس أواخر الثمانينيات وإصدار أوّل عمل شعريّ "امتدادات"، وصولًا إلى آخر إصدار موسوم بـ"مثل أخطاءٍ طفيفة" (منشورات جامعة المبدعين المغاربة، ط 1، 2021)، لا ينفك الشاعر، ولا يجد في ذلك غضاضة، عن ترهين أفقه الشعريّ ببلاغة الهامش وتأويليّة اليوميّ. وإن كان هناك من اختلاف في التّجربة ككلّ، فهو يمسُّ بناء الجملة الشعريّة وحمولاتها الدلاليّة والتأويليّة، حيث إن هذه التّجربة الشعريّة الجديدة تُعلن انحيازها للقصيدة- الشذرة، القصيدة الكريستالية المنقّعة بالإدهاش والتعبير الشعري الجمليّ القصير والتكثيف مبنى ومعنى، وفي ذلك، ما يؤشر على وصول هذه التّجربة إلى مدارج النضج والأقاصيّ، قياسًا مع النصوص الشعريّة الأولى التي تَتَعيّن بوصفها نصوصًا مُنحازة نحو النَّفس الطويل والإغراق في التفاصيل ومُحاورة اليوميّ وعنف الواقع. لكن، ومع ذلك، يبقى للشاعر صوته الخاص، لغته الخاصة، بعيدًا عن الأصداء التّناصيّة التي تكتنفُ الكثير من الأصوات الشعريّة.

تستغرق هذه المجموعة الشعريّة الجديدة 148 صفحة، موزّعةً على ثمانية وعشرين عنوانًا شعريًّا. كلُّ عنوانٍ يشي بقلقٍ في الكتابة ممزوجٍ برؤيةٍ دافقةٍ في رحابات الوجود ومضايقه. وهي رؤية بروميثيوسيّة، تُحاول رسم مداراتها الكتابيّة داخل فضاءٍ لاهبٍ ورهيبٍ في الآن نفسه، بدون أن تتخلّى هذه التّجربة الكتابيّة عن هوسها وشغفها ببلاغة الهامش، وكذا، شرطها الوجوديّ المغرق في شعريّة التّفاصيل والانهمام باليوميّ، إذ تحتفي الكتابة لديه بالمصائر الإنسانيّة والبحث عن الأفق المنذور للشعر ولا شيء غير الشعر، ذاك الضوء المخاتل المحايث لتجربة الألم والتّعب والتفاصيل اليوميّة، فهو ليس كأيّ كائنٍ آخر، يعيش أربعة فصول ويستنشق الهواء نفسه، وإنّما، هو كائنٌ خريفيّ، لا جديد تحت شمسه، إلا تجاعيد يرسمها العمر وهو يمضي سريعًا نحو العدم والانمحاء والزّوال، حيث "تمرُ الرياح بشتائها/ وشمسها ولا ربيع يخضرُّ من جديد/ يتشقّق الطين/ يتبلّل الطين/ تتدرحرج الغيوم/ تصقل ما تبقى من حصى/ ولا ربيع ينبت في خرافة العمر/ ولا ربيع ينبت من جديد".

هكذا، تتبدّى هذه النّصوص تأمُّلات في الوجود والقلق الأبديّ، إذ تَتَمَوْضَع ضمن أفقٍ كتابيّ همُه الوحيد هو مُواجهة عزلات العالم ووحشيته، خصوصًا أن زمن الكتابة ولحظة القصيدة وانبثاقها، تَتَحَكُّم فيه رؤية طافحة بمأساويّة الكائن، مما ينمُّ عن انخراط الشاعر منذ البدايات الأولى، في قضايا الإنسان في مسعى لتحقيق آماله وطموحاته والتّحرر من آلامه. إن هذه التّجربة تأتي في سياق الولوج إلى عالمٍ شعريّ مختلف، سمته الأساسيّة التّجديد في الرؤى والتّنويع في الحافزيّة الشعريّة، وقد أشرت آنفًا، إلى أهم التّغيّرات الجذريّة في هذا المنجز الشعريّ، مُقارنة مع التّجارب السابقة، وهو تغيّر لا يعني القطيعة مع الماضي الشعريّ، بل يمتدُّ في راهنية القصيدة ورهانها على تجليّة الدلالات الكامنة في أعماق الشاعر.

إن هذه النصوص "مثل أخطاء طفيفة"، أو قلْ، هي ومضات إشارية تتآزر بطاقة تدميرية وأفق شعريّ يتحجب ويحتجب ضمن رؤية احتمالية للوجود. هذه الرؤية الممتدة في الفضاء المتراحب للمتخيل واللغة والسؤال والمعرفة والكون الدلالي، سمة من سمات بناء المعنى في شعر اللغافي، مما يتوجب الحفر والخفر في هذا المنجز سعيًا لاستكناه آفاقه الجمالية والتّعبيرية والدلالية، وهو منجز قابل للتفكيك بكل محبّة، أليس التفكيك محبّة كما يقول جاك دريدا، ونَتَقَصَّدُ بالتفكيك ها هنا تلك المقاربة النقدية التي تنبع من كشوفات التتبع والتّقصي والاقتراب الذاتيّ من نبض التّجليّات النّصيّة. ويكفي الإشارة ها هنا أنني ومنذ مطلع التسعينيات، وجدتني منجذبًا شغوفًا بهذا الشعر، متسائلًا في الآن ذاته عن أسرار هذا الفيض الإنساني المنتثر بين ثنايا النصوص، كما في حياة الشاعر وعوالمه. وهكذا، فإن الذّاكرة الشعريّة والإبداعيّة، تتذرّى وتتعدّد في مسالكها ودلالاتها، بل تذهب بالمتخيّل الشعريّ إلى أقصى تخوم الذّاكرة، عبر ملامسة السريّ والخبيء في الذات الشاعرة. من هنا يمكننا القول، إن الشاعر لا يستنجد بهذه الذّاكرة في أفق هندسة "كينونة الأنا الشعري"ـ والعمل على تكريس ديمومة اشتغالها فحسب، وإنّما، تكريس حضورها بما تنطوي عليه من غليان وانفعالٍ وقلق، وعليه، فإن ترهين الأفق الشعريّ بشؤون الوجود والذات والإنسان والعالم، هو نوع من التّأمل، أو هو، بالأحرى، لحظة التحامٍ مع الذات سعيًا عن الكشف عن أخاديدها العميقة وكشوفاتها التي تنضح بماء الشَّعر.

تندرج هذه النّصوص إذًا، ضمن تجربة شعرية حيّة ومتجددة، خصوصًا أن محمد اللغافي يُعدُّ من الأسماء التي لها حضور لافت في المشهد الشعريّ العربي، والمغربي على وجه الخصوص، منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن المهم، في هذا السّياق، التّشديد على أهميّة تسييج التّجربة الشعريّة بتجربة الحياة والوجود، لأنّ من شأن ذلك، الإسهام في تخصيب التّجربة وإغنائها، خصوصًا أن الشاعر راكم مسارًا طويلًا، وظلّ سائرًا على حافّات القصيد ردحًا من الزمن، والأكيد، أن ثمة حرصًا على العودة إلى هذه الذاكرة والاحتماء بها نكاية في العزلة والذكريات والأحلام والآلام، فـ"لنكن لطفاء أكثر/ نَحْنُ مُجَرّد وَمْضَة في الْكَونِ/ تَشِعّ وَتَصيرُ رَمادًا/ لنترك أثرًا ناعمًا على السّطح ونمضي/ مَعَ أوّلِ الْبَرْق/ فاغِرينَ أفْواهَنا لِلرّيح/الزّمَنُ هُنا مُتَوَقّفٌ/ على رَمَشات العُيونِ وَأجْراسِ القُلوبِ/ الظّمآنة لِماءٍ الْحَياة".
   
غير أن المغاير والمختلف في هذه النّصوص الشعرية، كونها ليست مجرد "أخطاء طفيفة" اقترفها الشاعر فقط وحَرِصَ على الخوض فيها، وإنّما هي مأدبة شعرية ثريّة، ومكتوبة بطعم الوجع، وكذا بالتّفاصيل الغائمة، إلى حدٍّ تتعيّن بوصفها كتابة تلتحم بشعريّة نابعةٍ من الرّوح، فرغم طابعها المنذور لعنف اللغة ورحابة المتخيّل وبلاغة الهامش وتأويليّة اليوميّ، إلا أنّها تنبني وتنهدم على إيقاع الكونيّ والعبور نحو حافّات التّطريب وتفجير الأبجدية. ودائمًا، وكما هي نصوص محمد اللغافي، ثمة حياة أخرى، أو قلْ، حيوات أخرى متجاورة مُتَخَيّلة مُقيمةً تُخومها بين الحلم والواقع، وبين الحلم والحلم الرؤيوي/ الرؤياويّ، وكأن هناك عمقًا للنّظرة وثقة بمتخيّل الشاعر وحواسّه.

 (المغرب)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.