}
عروض

"عن الشر".. الوجود الفلسفي لبناء الشخصية الأخلاقية

وارد بدر السالم

19 أغسطس 2021

 



ثنائيات الحياة كثيرة ومتعددة. فالكون كله قائم على ثنائيات معروفة. وربما أبرزها ثنائية الخير والشر، فهي التي شغلت الفلسفة والأديان والأفكار والثقافات الاجتماعية والسرود الإنسانية المختلفة. وبقدر ما للخير من متون وهوامش تطرقت إليها السرديات الإنسانية والأديان بحسب نصوصها المقدسة، فإن للشر متونه وهوامشه الكثيرة التي جاءت بها النصوص ذاتها، لكن أضافت إليها الثقافات الاجتماعية الكثير من الشروح وربما التهويل والمغالاة لأسباب زمنية غير غامضة كثيرًا، لتكشف الجوانب السلوكية السلبية في النفس البشرية المعقدة، وبالتالي فإن التفريق بين السوء والشر أمر لا تقرره النظريات المجردة، بقدر ما تقرره أحوال المجتمعات في مناخاتها الدينية والسياسية. ولهذا فإن السوء ليس هو الشر كما يرى تيري إيغلتون مؤلف كتاب "عن الشر" (دار نينوى- دمشق. ترجمة عزيز جاسم محمد) مستندًا على تنظيرات البنيويين الليبراليين، باعتبار أن سبب الشر نتيجة دوافع بيئية وظروف اجتماعية. في حين يتبنى السلوكيون المعتدلون المؤثرات الشخصية المتحكمة في سلوك الفرد السيء. لذلك نقرأ دائمًا بأن العوامل المسببة للشر والسوء والتدمير هي إنتاج ظروف متعالقة بطبيعة المجتمع والأيديولوجيات الفكرية والدينية المتطرفة التي خرجت عن النصوص المقدسة كثيرًا، والتي يرى بعضها أن الشر أو العنف وسيلة من وسائل "غفران الذنوب" كالانتحاريين المتأسلمين- داعش وسواها؛ وسنجد الشر في التوراة واليهودية مرتبطًا بالخطيئة ومخالفة الوصايا العشر، وفي الغنوصية تقسيمًا بين الإله الخيّر والشرير. ولا يمكن أن نقف على تفسير محدد إزاء هذه الظاهرة الاجتماعية المتحركة بين الفرد والمجموعات البشرية، وصولًا إلى كيانات الدول الكبرى والصغرى التي تمارس شرورها وسوءَها بأيديولوجيات وخطابات مرحلية مقننة. حتى في الفلسفات المعروفة هناك أفكار غير متشابهة عن هذا الموضوع القديم. ولا يمكن الركون إلى تفسير واحد أو تبنيه مصطلحيًا في الأقل. لكن يبقى الشر قائمًا بذاته كمصطلح يعاكس مفهوم الخير في الأحوال كلها.


"أمير الذباب"

وقد حاول إيغلتون أن يمهد لموضوع الشر ابتداءً من مرحلة الطفولة، بالاستناد إلى بعض السرديات الروائية والفيلمية، كرواية "أمير الذُّباب" لويليام غولدينغ التي تحاكي مجموعة من الاحتمالات الشريرة مع مجموعة من الأطفال المعزولين في جزيرة. وفيلم "طارد الأرواح الشريرة" وقد تضمن سؤالًا فلسفيًا مهمًا: هل الشيطان كامن في روح الطفولة كجوهر حقيقي أم هو طارئ على تلك الروح؟ وهذا يعني أن المؤلف اجتذب موضوعة الشر من الطفولة الاجتماعية ليقيم تساؤله المشروع: هل يولد البشر أشرارًا وسيئين منذ الطفولة، أم أن المجتمعات وبيئاتها وأفكارها المتزمتة تُجوهر هذا الفعل السلوكي لتنميته لاحقًا في مرحلة أخرى؟ وهل الجهل وعدم المعرفة لهما دور أساسي في وضع هذا السلوك النفسي والعصابي موضع المجابهة الحتمية في الأفعال المدمرة، التي تروّج لها أفكار وأيديولوجيات معروفة في تطرفها الديني والأخلاقي والسلوكي، بل وحتى السياسي القائم على العنف والبوليسية المفرطة؟





ظلال فرويد

أمام المؤلف؛ وهو الماركسي الكاثوليكي؛ نظريات وأفكار وفلسفات واحتمالات وسرود متعددة في التاريخ الأدبي والإنساني والنفسي والاجتماعي، لكن النظرية الفرويدية تلقي بظلالها على مجمل التصورات التي جاء بها المؤلف، والوقائع الدرامية من المجتمع الإنكليزي وغيره من المجتمعات إذ (تعتمد نظرية الشر التي أشرحها في هذا الكتاب اعتمادًا أساسيًا على فكرة فرويد..) وهذا يعني نظرية تطور الشخصية التي تقترح بأن التطور يحدث عبر مراحل من حياة الإنسان.. وأن العقل هو المسؤول عن القرارات التي تؤخذ بوعي أو من غير وعي والدوافع النفسية خلفها كما يريد فرويد في مجمل نظرته إلى السلوك الإنساني.. ومع التضمينات الأدبية التي لا يفارقها هذا الكتاب، كأمثلة دالّة على فكرة الشر، يورد سارتر في مسرحيته "الشيطان والإله الطيب" جملة عرضية "أقوم بأعمال شرّيرة من أجل الشرّ" كنزوع فردي غير محكوم بشرط ديني واجتماعي واضحين. وهذا القول بقوته الشخصية النافذة لا بد وأن يكون محكومًا بظرفيته الاجتماعية والبيئية والفكرية. وهو ليس نظرة كلية إلى المجتمع الفرنسي آنذاك، والأمثلة التي يوردها إيغلتون معقولة في ظرفيتها ومكانها الاجتماعي. وقد يوافق هذه الجملة الفيلسوف الألماني كانط عندما يرى بأننا مسؤولون عن أفعالنا تمامًا. بمعنى أن الفعل الفردي غير خاضع لشروط الجماعات الأيديولوجية. وتلك الجماعات غير المثالية قطعًا، تؤمن بأفكارها حسب. لهذا يناقش أطروحة بيرستاين القائلة بأن تدمير مركز التجارة العالمي يمثّل خلاصة الشرّ في عصرنا. وهو طرح صحيح لو عزلناه عن خلفياته، لكن إيغلتون يرى بأنّ الولايات المتحدة هي الأكثر شرًا في بنيتها السياسية وسلوكها الإجرامي العالمي. غير أنه - ضمنًا - لا يتبنى الفعل الانفعالي، المضاد، الشرير، الداعي إلى الإرهاب ونشر الفوضى وقتل الأبرياء. وردة الفعل التي تُنسب إلى الجماعات المتطرفة ليست معزولة عن خلفياتها الفكرية الشاذة عمومًا.

لهذا سنجد أن المؤلف يعكف على مناقشة هذه الحتميات الضرورية عبر السرود الأدبية المتعددة التي تركت وراءها الأثر الفني، وهي تعالج موضوعة الشر في روايات وليام غولدينغ وغراهام غرين ومسرحيات شكسبير وسارتر وملتون، باعتبارها ممخضة اجتماعية اجتذبت هذه الموضوعة الأثيرة وناقشتها، كإشكالية قديمة مع الإنسان ما تزال ماثلة في سلوكه اليومي، عندما تطورت من الفردية إلى الجماعية المؤدلجة ومن ثم الجماعات السياسية الدولية؛ من السوء الشخصي المبهم، إلى الحروب الكثيرة التي تقف وراءها أسباب عصابية سياسية. ومع هذا يميل الكاتب إلى أن الشر (عمل مبهم ولا يمكن فهمه. إنه مجرد شيء في حد ذاته..) فالسلوك الفردي يرتبط بالبيئة الاجتماعية والتكوين النفسي الشخصي. ولا يوجد تفسير حاسم له فهو (مثلما تصعد إلى قطار مزدحم بالركاب وأنت تضع أفعى عملاقة على كتفيك، إذ لا يوجد سياق معين يجعل هذا العمل قابلًا للتفسير..) فالشر سلوك سيء غير قابل لأن تشرحه بالضبط. فقد يكون (حالة من العزلة الذاتية) والتصرف السلوكي غير المحصّن ذاتيًا (بين أن تكون أنت ولستَ أنتَ) وهذا يعني في تفسيرٍ ما بأنه من اختيارك الشخصي أن تكون شريرًا أو سيئًا، كما أعلن ريتشارد الثالث في مسرحية شكسبير (أنا عازم على أن أبرهن أنني وغد) وهذا هو الجانب الشخصي الفرداني الذي يتردد العلم النفسي عن تفسيره، حتى لو تم إخضاعه إلى سونارات اجتماعية وسيكولوجية فاحصة، والمثال الواقعي الأكثر جذبًا في عيّنات السلوك الفردي المدمّر هو هتلر. إذ سعى المؤرخون في تفسير صعوده (الهدف منه جعله أكثر جاذبية) والأكثر سوءًا وتدميرًا هو (تفجير الانتحاريين الإسلاميين أنفسهم.. هو غفران ذنوبهم..) وإذا كان هذا النوع من الشر المدمّر هو أيديولوجية متبناة من الجماعات المتطرفة التي شوّهت قيم الأديان ورسالاتها السماوية، فإن سلخ مبادئ حرية الفرد الشخصية وإحالتها إلى ذلك الفضاء الأيديولوجي وهو جماعي، هو الأكثر وحشية وشرّانية في هذا العصر غير المتكافئ بسلبياته التي لا تحصى.




كتاب ثلاثي الأبعاد

"عن الشر" كتاب ثلاثي الأبعاد. توزعت منافذه على ثلاثة فصول هي: روايات الشر. المتعة الفاحشة. معزّو الشر. وهذه الفصول تتضافر لتوحّد نسيج الشر من الفردانية إلى الجماعية، متوسلة خطوطًا مباشرة وغير مباشرة لإيصال فكرة الشر. مبتدئًا بروايات الشر التي عالجت هذه الفكرة. وهو ابتداء فلسفي فيه عمق يحاكي شخصيات الروايات التي لا تموت في الفقرات الأولى منها كما يقرأها إيغلتون. وقد أفاد بإيراد عدد من الروايات ذات المنحى الجحيمي والشرير، كما في رواية "بنتشر مارتن" لغولدينغ التي يستخلص منها، وعبر المركز المظلم للرواية، الأنا الوحشية للبطل في موته الغريب، ليكون تأويلها من أنها رواية عن الجحيم والمطهر. ويفلسف الجحيم على أنه (المجال المادي الذي يسمى الإثم أو الحب أو اليأس..) و (إذا كانت هناك نار جحيم فيمكن أن تكون نار محبته القاسية التي تحرق أولئك الذين لا يستطيعون تحملها..) فالجحيم (حقيقة مثيرة للقلق، لكنها في الحقيقة نوع من الفراغ) ومع الخيال المفرط للشخصية الرئيسية لهذه الرواية والوهم الذي تسير فيه الأحداث المتتالية، فإن الشخصية المركزية رسمت بحدود عليا موضوعة الشر عبر النار والجحيم. كما لو أن البشر لا يولدون بلا حرية كافية، فالمصنّع الآخر للحقيقة هو الخيال في النفس البشرية المكثفة في خياراتها الكثيرة (فنحن نولد بشكل مركزي ذاتي الحركة ومؤثر في بيولوجيتنا) ومع أمثلة أخرى مماثلة في "فاوست" و"أمير الذباب" و "يقظة فينيغان" و"بانتظار غودو" و"صخرة برايتون" عن روايات الشر، يعود إيغلتون إلى مماثَلة فصل "المتعة الفاحشة" بلون آخر من الروايات العالمية التي يتصدرها الشر كعنوان داعم، من بطلات ماكبث (المعاديات للنظام الاجتماعي الهرمي العنيف لاسكتلندية ماكبث، وينتقمن لألم خفي في دخيلتهنّ..) حتى وليم بليك في (أمثال الجنة والنار) الذي يتلخص إيمانه في عبارة "كل ما هو حي مقدس" مرورًا بأفكار روائية كثيرة داعية إلى معاينة فكرة الشر من منظور فلسفي وفكري وأخلاقي وديني منفتح غير خاضع إلى سطوة النصوص أو تفسيرها بما ليست هي فيه. فالشر (يرتبط بالوحل لأنه خامل ولا شكل له) في رواية روبرت لويس ستيفنسون "القضية الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد" و(لدى الشر ما يشبه القذارة، أو الأجسام حين وجودها في معسكرات الاعتقال..) و(الشر تافه جدًا..) و(يرفض الشر منطق السببية).

المتعة الفاحشة هي اجتراح فرويدي يتبناه المؤلف، كما تفعل ديدمونة لعُطيل عندما تسقيه خمرًا فـ (الشراب يملأ بعض الجروح .. في كيانه الداخلي) إذ (لا يمكن فصل المتعة عن العنف الذاتي) ومدمن الكحول (يتحدث مجازيًا ويعيش في نوع من الجحيم..) وفي رواية " تحت البركان" لمالكولم لوري فإن "الشيء الذي يبقيه على قيد الحياة هو عذابه". وفي "الأخوة كرامازوف" فإن الشياطين (يطالبون بعدم وجود إله في الحياة..) وفي "الجريمة والعقاب" فإن (الشر مثله مثل التعصب الديني) أما التهمة التي وجهها هنري جيمس ضد شعر بودلير فإن (الشر بالنسبة اليه يبدأ من الخارج وليس من الداخل..)

 

ومضات من "معزّو الشر"

معزّو الشر إطلالة بأمثلتها الفكرية والفلسفية المباشرة، لكن عبر سرديات وأيقونات فكرية، وأولها علم الثيوديسي، وهو أحد فروع الفكر التقليدي الذي يحاول شرح وجود الشر بأن يضع الإله خارج الاتهام، ويتطابق هذا المعنى مع ملحمة (الفردوس المفقود) لميلتون، ولما أصبحت (مشكلة الشر أكثر إلحاحًا) بإشارة من اللاهوتي كينيث سورين، صارت محاولات تفسيره أكثر تعقيدًا. ويتجلى إيغلتون بوصفات شعرية وومضات أثيرة في معالجة المصطلح بطريقة لا تبدو بسيطة تمامًا، بل هي من الكثافة ما يجعل بعضها غامضًا أو متناهي اللغة. وأرى إيرادها بنقاط لتكون دلالات عامة في اشتقاق المعنى من مصطلح الشر بدلًا من الإسهاب في تلخيص فقرات هذا الفصل الذي يعاين الإله من زوايا مختلفة ومتعددة في وجهات النظر:

  • الشر هو الظل المظلم الذي لا يمكن لضوء العقل أن يُخفيه.
  • وجود الشر ضروري لبناء الشخصية الأخلاقية.
  • سيكون العالم بلا شر لطيفًا جدًا إلى درجة أن لا يستفزنا إلى عمل الفضيلة.
  • الخير يمكن أن يأتي في بعض الأحيان من الشر.
  • من وجهة نظر بعض الماركسيين فإن العبودية في العالم القديم؛ مهما كانت مؤسفة أخلاقيًا؛ فإنها ضرورية لأنها أدت إلى نظام أكثر تقدمية للإقطاع.
  • هناك حُجّة تدعي أن الشر ليس شرًا حقيقيًا، بل هو خير.
  • الشر هو لغز.
  • الله هو نفسه حرية خالصة.
  • الشر نوع من الغيرة أو الحرمان من الوجود.
  • المزيد من العنف سيولّد المزيد من الارهاب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.