}
عروض

كيف انعكست فلسطين في مرآة الثقافة الروسيّة؟

محمود شريح

28 أكتوبر 2022





عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة وبيروت) صدر مؤخرًا كتاب "فلسطين في مرآة الثقافة الروسيّة" للباحث د. محمد دياب، المحاضر في الجامعة اللبنانية، الغرض منه إلقاء الضوء على صورة فلسطين في الثقافة الروسية، كما بدت في كتابات الحجّاج الروس إلى الديار المقدّسة بدءًا من القرن الثاني عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وفي انطباعات كبار الأدباء والشعراء الروس وفي إبداعات رسّامين روس تركوا لوحات ورسومًا تصوّر الطبيعة الفلسطينية وتجسّد أحداثًا من تاريخ فلسطين القديم، وفي مقاربات مؤرّخين ومستعربين بارزين في القرنين التاسع عشر والعشرين، إضافة إلى كتابات الباحثين السياسيين المعاصرين.

ينصرف المؤلّف أيضًا إلى إظهار مدى تأثير فلسطين في وعي الإنسان الروسي وانعكاسها في نتاج الأدب والفن والفكر السياسي في روسيا، إضافة إلى تفاعل المجتمع الروسي مع ما خبرته الأراضي المقدّسة من أحداث مصيريّة، وكذلك أهميّة دور المدارس الروسيّة التي أُنشئت في فلسطين وسورية ولبنان في تعريف طلّابها بالثقافة الروسية ومساهمتها في تقديم صورة أكثر واقعية للمجتمع الروسي.

في 156 صفحة من القطع الكبير مع قائمة مراجع غنيّة عربية وروسية وفهرس عام يعيد د. دياب إلى الأذهان أن فلسطين كانت حاضرة دائمًا في الوعي الروسي، فعلاقة الروس بأرض المشرق العربي، ومن ضمنه فلسطين، تعود إلى ما قبل اعتناق روسيا المسيحية رسميًا عام 988، فما أن كان ذلك حتى شكّلت الأراضي المقدّسة موقع الجذب الأهمّ للمؤمنين الروس، إذ أيقظت العقيدة الجديدة مشاعرهم الدفينة ودفعتهم إلى الحجّ إلى الأرض المقدّسة في فلسطين، مهد المسيحية. ومنذ تلك الحقبة، وعلى مدى قرون، تقاطر آلاف المؤمنين الروس إلى فلسطين لتأدية فريضة الحجّ، فجاءوا إليها حاملين قناعاتهم وتصوّراتهم التي نهلوها من الكتاب المقدّس وقصص الرُّسل ومآثر النسّاك والقدّيسين فحفرتْ الأرض المقدّسة في وجدان الروس عمقًا، وكانت الضوء المنبعث من الشرق فانعكسَ في فكر الروس وأدبهم وفنّهم.

يرى د. دياب أن الثقافة الروسية ارتبطت على مدى الدهر بأواصر روحيّة خفيّة لا تنفصم مع الأراضي المقدّسة ما ترك أثرًا واضحًا على تكوين الحضارة الروسية، فيوردُ قولَ كاتب روسيا الخالد دوستويفسكي في هذا الصدد: "منذ أن ظهر الشعب الروسي، منذ أن نشأت الدولة الروسيّة، ومنذ أن تعمّرت الأرض الروسية، اندفعت قوافل الحجّاج الروس نحو كنيسة القيامة"، ومع الوقت أضحى تبجيل الأماكن المقدّسة والحجّ إلى القدس وبيت لحم أحد مظاهر الشخصيّة الوطنية الروسية وصارت هذه الأماكن موضوعًا مفضّلًا عند الأدباء والشعراء الذين تغنّوا بفلسطين في قصصهم وقصائدهم. كما أنّ الفنّانين رسموا بريَشهم فلسطين، طبيعة وحضارة وناسًا، وأسهمَ انتشارُ الكتب المسيحيّة والأيقونات وذخائر القدّيسين في تشكّل تصوّرات في الوعي التاريخي الروسي عن انتماء روسيا إلى ذلك العالم الذي تُمثّل مدينة القدس مركزَه المقدّس، فكان دخول روسيا إلى عالم الشرق صدمة إبداعية عميقة أحدثتْ نقلة فكرية نوعية في تاريخ روسيا الحديث.

ويردّنا صاحب "فلسطين في مرآة الثقافة الروسية" إلى القرن الثامن عشر حين تزايد اهتمام الدولة الروسية بمنطقة الحوض الشرقي من البحر المتوسّط وأمّت فلسطين والمشرق العربي أعدادٌ متزايدة من أدباء ومؤرّخين وسياسيين روس، فضلًا عن دبلوماسيين مكلّفين بمهمّات رسمية، إلّا انه منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ الأدباء الرحّالة والمؤرّخون يعكسون توجّهات الدولة الرسمية التي تلخّصت في السعي إلى الإشراف على الأماكن المقدّسة وإعلان روسيا، بوصفها "روما الثالثة" حامية للأرثوذكس في الشرق إثر انتصار الجيش الروسي وأسطوله على الإمبراطورية العثمانية إبّان الحرب الروسية – التركية (1828-1829).

يتوسّع د. دياب في سرد أدب رحلات الحجّ من روسيا إلى الأراضي المقدّسة لحفاظه على خلق صورة الشرق في روسيا وسعيها إلى تأكيد حضورها فيه ثم ترسيخه، وكان لهذا الأدب سماته الخاصّة، إذ أكّد العديد من دارسي أدب الحجّ هذا أن الهدف منه لم يكن نشر المعرفة الدنيوية عن عالم الخليقة، بل التنوير الروحي، فتركّز اهتمام الحجّاج كلّه على وصف الأماكن المقدّسة وربطها بأحداث الكتاب المقدّس، ولذا كانت رموز الفضاء المقدّس تمثّل بالنسبة إلى الحاج موضوعًا أكثر أهمية بما لا يُقاس من صوَر الزمان الفاني الحيّة، فما أن تطأ قدماه أرض فلسطين حتى يشعر بالانعتاق من زمنه، فيزيح القديمُ المقدّس الواقع اليومي المَعيش، وغالبًا ما كانت معاناة أحداث العهدين القديم والجديد تمحو سمات أحداث الحاضر الدنيويّة.

يستند د. دياب في مبحثه الغنيّ بتفاصيلِه إلى المؤرّخة المستعربة ميخايلوفنا سميليانسكايا، وإليها يرفعُ مبحثَه، سيّما في مؤلّفيها "روسيا في البحر الأبيض المتوسّط: حملة كاترينا العظمى في الأرخبيل" (بالروسيّة، موسكو، 2011)، و"العالم العربي في تصوّرات الحجّاج الروس" (بالروسيّة، موسكو، 2013)، ويستمدُّ من كتب الرحلات نماذجَ عن ولع الحجّاج بمدن فلسطين وأهلها، كما في مذكّرات كراتشكوفسكي، على سبيل المثال:

"إنّ عبيرَ بساتين الليمون والبرتقال الشهيرة في يافا يصل إلى الباخرة التي تمخر عبابَ البحر على مسافة كيلومترات عدة قبالة المدينة".

غدت قصيدة للشاعر ليرمنتوف بعنوان "غصن فلسطين" عنوانًا لديوان جمعَ كتابات الروس في حقبات مختلفة من تاريخ فلسطين



وننتقل إلى صورة فلسطين في الأدب الروسي خلال القرن التاسع عشر في الفصل الثاني من كتاب د. دياب، حيث غدت قصيدة للشاعر ليرمنتوف "غصن فلسطين" عنوانًا لديوان جمعَ كتابات الروس في حقبات مختلفة من تاريخ فلسطين، ومنها:

قل لي، غصنَ فلسطين،

أين نمَوْتَ، أين أزهرتَ؟

أي هضاب، وأي وديان زيّنتَ

أعند مياه الأردن الصافية،

داعبَك شعاعُ الشرق،

أم أنّ هواء الليل في جبال لبنان

هو الذي أرجَحكَ غاضبًا..

كتب ليرمنتوف هذه القصيدة عام 1837 ولم تطأ قدماه أرض فلسطين إذ كانت الأمكنة المقدّسة جزءًا من كيانه الشاعري، ما أوحى لغوغول بزيارتها فطاف في الجليل والناصرة وطبرية ويافا، إلى أن كان العام 1881 حين زار فلسطين الأمير قسطنطين رومانوف فكتب قصيدة عن البحر الميّت.

ثمّ يستعرض مؤلّف الكتاب إبداعات الأدباء الروس خلال القرن العشرين، كما عند فيودوروف وأخماتوفا وتسفيتايفا وشيرفينسكي وپاسترناك، ويتوقّف عند نابوكوف في وصفه فلسطين مسرح أحداث الكتاب المقدّس:

"منزلي على المنحدر في الناصرة، أسود، شقّقه القيظ، أهوَ المطر يهطل عند الفجر!

سأتبلّل تحت السقف المثقوب".

إلى رسوم الروس منذ 1820 عن فلسطين والتي تحتويها أكاديمية الفنون في سانت بطرسبورغ.

الفصل الثالث من "فلسطين في مرآة الثقافة الروسية" يدور حول إنشاء الجمعيّة الفلسطينية الأرثوذكسية الإمبراطورية بدءًا من 1882 ردّ فعل بعيد الأثر على الهزيمة التي تعرّضت لها روسيا في حرب القرم، وكانت مجرّد محطة في الصراع الدائر على التركة العثمانية، ومن أجل بسط السيطرة على المضائق، عند الدردنيل والبوسفور، وكذلك على الأراضي المقدّسة، فأملتْ روسيا في الوصول إلى البحار الواقعة، ومن هنا خرجت فكرةُ إنشاء الجمعيّة الأرثوذكسيّة إلى النور، وكان الهدف منها دعم الأرثوذكس في فلسطين وتقديم العون إلى الحجّاج الروس، إضافة إلى توثيق الأخبار عن الأرض المقدّسة ونشرها، وذلك عبر إنشاء المدارس وبناء الكنائس وتقديم المساعدة الطبية لأهل البلاد دون تفرقة بين جنس ومذهب، فنشأت في سورية ولبنان وفلسطين 101 مدرسة، إضافة إلى داريْن للمعلّمين في الناصرة وبيت جالا، وكانت الدروس تُلقّن بالروسية ما خلا العربية والتعليم المسيحي، وتحدّث ميخائيل نعيمة في مذكّراته عن حياته عند المسكوب في بسكنتا، مسقطه، والناصرة، مدرسته، قبل إكمال علومه في روسيا:

"ما كان لنا نحن الصغار أن نعرف من أين جاءتنا النعمة وكيف. كلّ ما عرفناه أن المسكوب قومٌ أشدّاء وكرماء يحكمهم قيصر تهتزّ لكلمته جميع ملوك الأرض. وأنهم يقطنون بلادًا شاسعة وباردة في الشمال وأنهم روم مثلنا".

على هذا الأساس ظهرت تسمية "فلسطين الروسية"، أي ثمرة أنشطة الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية في إدارتها مجموع المعابد والكنائس والأديرة والمدارس والمستشفيات والفنادق والأراضي التي امتلكتها الجمعية وأشرفت على أنشطتها في فلسطين.

في الفصل الرابع "فلسطين في كتابات المؤرّخين الروس" يردّنا د. دياب إلى جمهرة من مؤلّفات المستعربين الروس في تاريخ فلسطين، قديمًا وحديثًا، وفي طليعتهم فلاديمير لوتسكي في كتابيه "تاريخ الأقطار العربية الحديث" (موسكو، دار التقدّم، 1971) و"الحرب الوطنية التحرريّة في سوريا: 1925-1927" (نقله إلى العربية د. دياب، بيروت دار الفارابي، 1987)، وفي كليهما تناول لوتسكي فلسطين وقضيتها من زاوية تاريخية، بعيدًا عن المشاعر الدينية والعاطفية. أمّا أ. كريمسكي في "تاريخ الأدب العربي الحديث: القرن التاسع عشر – بداية القرن العشرين" (موسكو، دار العلوم للنشر، 1971) فأفرد فصلًا تناول فيه دورَ أهل فلسطين في النهضة العربية وفي دخول الحداثة الأوروبية إلى مناطق سورية الكبرى. وكذلك يردّنا إلى كتاب إيرينا سميليانسكايا "سوريا عشيّة ثورة تركيا الفتاة وإبانها في مواد التقارير القنصلية" (موسكو، 2003)، وتناولت هذه المؤرّخة التطوّرات التي شهدتها سورية وفلسطين وسياسة روسيا في المنطقة عقب حرب القرم.

إن كتاب د. محمد دياب "فلسطين في مرآة الثقافة الروسية" قطعٌ نادر في دقّة توصيفه تاريخ العلاقات الروسية – الفلسطينية في إطارها الفكري، ومرجع أساسي في تقصّي جوانبها. 


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.