}
عروض

"مكتب على السين".. أسرار عن معهد العالم العربي بباريس

ندى الأزهري

30 أكتوبر 2022
معجب الزهراني 


"رغم قلقي قررت ألا أنشغل كثيرًا بما لا أستطيع له حسمًا"- حين تُسمّى للعمل مديرًا في معهد العالم العربي في باريس، لا يبدو هذا الشعار أوليًا فحسب، بل سياسة دائمة ستطبّق على فترة العمل في هذه المؤسسة التي يثار حولها كثيرٌ من آراء وأقاويل لا يتبين المرء دائمًا مدى صحتها.
فالمعهد على روعة تصميمه المعماري المطلّ على نهر السين يبدو لناظره كقلعة محاطٍة بالأسرار، يكثر فيها المقررون والفرقاء، يحتفظ العارفون بما يعرفون، وقد يفرطون ببعضه بين حين وآخر لغرض ما يتعلق بإجراءات وتعيينات وخلافات، فيما يبقى الجمهور العادي المهتّم بعرض سينمائي، أو معرض فنيّ، أو كتاب في مكتبة، أو حفل الأكثر بعدًا عن دواماته، وإن وصلتهم منها شظايا يلتهون عنها لإدراكهم بصعوبة توضيح الصور المشوشة، في مقر أموره تسير على نحو مشابه لما يجري في مؤسسات كبرى تعجّ بجنسيات وأهواء وطموحات ومكائد.
لكنّ المدير العام السابق للمعهد، الذي انتهت ولايته من فترة قريبة (سبتمبر/ أيلول 2022)، قرر التفريط بكلّ ما يعرف وما شهِد في المعهد، سجلّ يومياته في هذا الصرح الباريسي الشهير، وجمعها في كتاب أخرجه للعلن في آخر يوم وظيفي له. كأنه حرِصَ على أن يبقى وفيًّا لعمله، وألا يبدر شيء من قصص المعهد ومتاعبه إلا وهو خارجه، وحين لم يعدْ معنيًا تمامًا بأسرار المهنة، بل بمقام الكتابة "الذي يحتّم أن أكون أكثر وفاء لوعيي وضميري" (139). في "مكتب على السين" (287 صفحة) للأديب والأستاذ الجامعي السعودي، مُعجِب الزهراني، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب 2022، سردٌ لتجربته كمدير عام لمعهد العالم في باريس من سبتمبر/ أيلول 2016.
ظلّ المنصب شاغرًا لسنتين، وحين سُمّيت شخصية سعودية لتوليه، بدا الأمر مفاجئًا. كان كثيرٌ قد قيل عن عدم التزام الدول العربية بدفع اشتراكاتها السنوية للمعهد، ما أوقعه في أزمة مالية ضخمة. فهل كان تعيين سعوديًّ محاولة لحلّ الإشكال؟ يبدو أن هذا من المبررات "المسكوت عنها طبعًا"، ظنًّا بقدرته على البحث عن مصادر دعم قوية لدى المملكة ودول الخليج خاصة (ص 77)، كما أشار الزهراني. تمّ التعيين بناءً على اقتراح أوّلي من السفارة السعودية في باريس، لينال بعدها موافقة مجلس السفراء العرب، ثم وزارة الخارجية. هو الذي كان يُعد في ما سبق "معارضٌ ثقافيّ نكد" في المؤسسة الرسمية في بلده، بات من تاريخ استلامه الوظيفة "شخصية أكاديمية وثقافية مُعتبرة يُفترض أن تمثّل العالم العربي "وليس موظفًا يمثّل بلده وحكومته"، كما قال له مسؤول سعودي كبير.





رئيس المعهد الفرنسي جاك لانغ، وزير الثقافة الأسبق في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، عينّ لجنة لإعداد تقرير عن المرشح الجديد بعد مقابلته. ظنّ الزهراني فيها "حيلة أو فخًا" لتبرير مواقف مسبقة بالرفض، أو بالقبول، كما يحصل في تعيينات المؤسسات الكبرى. فقد أبرزت مواقف أعضائها في المقابلة "نزعة التعالي الفرنسي المغلّفة بألطف عبارات اللياقة واللباقة"(ص25). نزعةٌ ستبقى تلاحقه في ما بعد مع الرئيس نفسه وبضعة موظفين حوله كمديرة الأنشطة الثقافية "المتغطرسة". هو غير المتعالي، ولكن الواثق من معرفته للغته وثقافته، ودرايته بالثقافة الفرنسية، بحكم دراساته وشهاداته الفرنسية، وعمله كأستاذ للأدب الفرنسي في الجامعات السعودية. سيتردد في الكتاب ذكر العلاقة الشائكة مع رئيس المعهد، ومن اللقاء الأول الذي اتّسم بالتوتر مع إحساس بالتوجس. ماطل "الرئيس المتعنت" قبل توقيع قرار التعيين، وملّ الزهراني من تعدد "المقابلات العبثية واللغة الفضفاضة المخاتلة" معه، ولقد تشوهت صورة السيد الرئيس لديه.
ستنعكس هذه العلاقة على دور المدير، فقد كان يشعر في كل اجتماع ونقاش أنه "أجنبي يعمل في قلعة بيضاء"، ومع إدراكه أنّه قادم من مجتمع تقليدي بسيط لم يختبر مرارات الاستعمار، فالثقافة الكونية الحديثة ذاتها "تُولًد أشكالًا من الوعي المنشقّ الشقيّ عند غالبية المثقفين غير الأوروبيين". سيحاول الزهراني فتح صفحة جديدة مع لانغ، كونه "أحد أبرز الشخصيات السياسية التقدمية في فرنسا والعالم، ولدعمه المتصل للإبداع والمبدعين، وتقديره العميق للغتنا وثقافتنا وتعاطفه مع قضايانا الكبرى". لقد عزم منذ البدء على المزاوجة بين "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة" لخدمة المعهد، وألا ينافس أو يصادم بقدر ما يصاحب ويغامر بعيدًا عن الذهنية البيروقراطية كي لا يبدد وقته وطاقته في حروب صغيرة، خاصة أنه غير منشغل بالمكاسب الشكلية.
هذه البدايات من سوء الفهم والظن مع الرموز العليا واجهته أيضًا من الوسط الوظيفي الداخلي والخارجي بسبب "الصور النمطية الجامدة والأحكام الجاهزة عن بلدان النفط وأهلها" (79). ومن أول معرض حضره في المعهد بعد تعيينه، وكان لرسوم الفرنسية اللبنانية الأديبة إيتيل عدنان، لمس نفور بعض العرب "المتفرنسيين" من خارج المعهد من الحديث معه، مثل الطاهر بنجلون؛ "ما عرفته إلا ممتثلًا لصور نمطية سلبية قد تدفعه لاتخاذ مواقف نفور، بل وكراهية، لكل ما يمتّ بصلة للبلدان العربية، ولمنطقة الخليج على وجه التخصيص"(116)، وإيتيل نفسها التي أعلنت لجريدة "الغارديان" أنّ "خبر تعيين مدير جديد ينتمي للبلد الأكثر رجعية وظلامية في العالم نزل عليها كصفعة قوية (85). لكن إلى جانب النافرين، كان هنالك المتقربون من المدير الجديد، بأمل "فتح أبواب الكنز النفطي". كما واجهته الخصومات والمناكفات والتحزبات، التي تحيل في العمق إلى أنماط من التعصبات العرقية الدينية والجهوية العريقة في مجتمعات تقليدية، من الشركاء العرب، أفرادًا ومؤسسات ودولًا في الخارج، أو في المعهد عبر توترات بين ممثلي النقابات، وكلهم عرب، أو بين الموظفين المغاربيين، وهم الأغلبية، والمشارقة وجلّهم من بلاد الشام. وعلى كل هذه التحديات كان جوابه الأمثل "العمل الجاد حتى لو لم تكن شروطه كلها بين أيدينا".





قسّم الزهراني كتابه الى أبواب ثمانية، وفي الباب الثالث يصطحب القارئ في جولة سريعة تعرّف بأقسام المعهد الذي يجهل كثير من عرب باريس أهدافه، حتى النخب الثقافية والإعلامية منهم. يهتم بالمكتبة حيث يجد الباحثون والقارئون العاديون مبتغاهم، وتُعقد ندوات وفعاليات، وصالة المعارض الكبرى، والمتحف، ومركز اللغة والحضارة العربية، ومتجر بيع الكتب، الذي تؤمن مبيعاته، مع تأجير الصالات، مبلغًا يتجاوز العائدات السنوية للصندوق الاستثماري. ويشرح أسباب الوضع المالي الصعب للمعهد الذي تفاقم بعد انقطاع المشاركة المالية السنوية لـ"معظم" الدول العربية التي كانت تؤمن أربعين في المئة من الميزانية. فقد دفع تلكؤ الشركاء العرب في الوفاء بالتزاماتهم أحد الرؤساء السابقين للمعهد لاقتراح تسديد الديون لتوضع في صندوق استثماري ستعفي عوائده السنوية الجميع من كل التزام. لكن النتيجة كانت كارثية، لأن العوائد لم تحقق سوى خمسة في المئة من ميزانية المعهد السنوية التي تتجاوز العشرين مليونًا، تؤمن وزارة الخارجية الفرنسية أكثر من نصفها.



حاول المدير إحداث تغيير إيجابي ولو بسيط في الوضع المالي للمعهد، لكن واجهته عقبة النظام التأسيسي، فهو "مؤسسة وطنية فرنسية"، والشريك العربي يطالب بتحويله إلى "منظمة إقليمية أو دولية"، ولا أمل بدعم عربي قبل إصلاح الوضع القائم. كما لا أمل بتغيير النظام الأساسي، لأنها مغامرة غير مضمونة العواقب، فالأطراف العربية لم تكن قطّ على درجة الالتزام ذاتها، وحين يكون لكل منها، أو لبعضها، حقّ التدخل في شؤون المعهد فالمؤكد "أن مشكلاتها وخلافاتها ستنعكس سلبيًا عليه، وقد تربك أداءه، وتشلّ قدراته، وهو التوجه الرسمي لوزارة الخارجية"، كما يتفهم الزهراني. فهو يدرك مدى ضعف المؤسسات الجهوية، أو القومية، وتعارض أجندات الأنظمة، وحدّة خلافاتها، فهنالك "التقاليد والأعراف والمصالح الخاصة، تقابلها هنا قوانين واضحة وأنظمة صارمة يلتزم بها الجميع هنا خدمة للصالح العام" (133).
وبدت صعوبات إدارة المعهد أيضًا من خلال المواقف المتناقضة للعاملين فيه حسب انتماءاتهم. قضية الصراع العربي الإسرائيلي على سبيل المثال تثير حساسية خاصة لدى الموظفين العرب، كما حصل حين مشاركة كاتبة إسرائيلية في "ليلة الشعر" التي نُظمت في المعهد. احتجّ هؤلاء لدى المدير، وهددوا بمظاهرة كون الكاتبة خدمت في الجيش الاسرائيلي. وأبرز الكتاب اختلالًا وظيفيًا في هذه المؤسسة التي تسودها علاقات متوترة بين الموظفين العرب في ما بينهم، أو مع الرؤساء الفرنسيين، أو حتّى تجاه المدير العربي، وبعضهم ظلّ يغالب نفورًا مواربًا منذ اللقاء الأول "فما بالك بالعمل تحت سلطة مدير خليجي مجهول يفترض أن يدفع ويترك المهمة الجدية لغيره" (97).
ويشير الزهراني حين الحديث عن مبادراته الإدارية، أو مشاريعه المقترحة، إلى أنها كانت تكشف له في كل مرة الحدود الموضوعة له من قبل الرئيس، والسكرتير العام، ومديرة الأنشطة الثقافية "المتغطرسة". ويذكر أمثلة منها محاولاته الفاشلة للتدخل في مسألة عدم تساوي رواتب الموظفين العرب مع الفرنسيين، أو قضية تعيين رئيس جديد لمركز اللغة والحضارة العربية بعد استقالة مديرته (نتيجة مشاكل أيضًا)، حيث تمّ تجاهل مرشحه السوري، وفضّل الرئيس رئيسًا مغربيًا، وعيّنه من دون استشارة المدير العام الذي كان تدبر الدعم للمركز! كما رفضت وساطته لحلّ قضية جاك لانغ مع المطعم اللبناني، والتي تحدثت عنها الصحافة الفرنسية التي لم تقصر في إدانة الرئيس (119)، من حيث الميزات الكثيرة له ولضيوفه في المطعم المذكور، فأنهكت الدعاوي ميزانية المعهد، وجعلته يخسر، بسبب الاستمرار في إغلاق المطعم، دخلًا شهريًا يصل إلى أربعين ألف يورو.
أما مشاريعه، وأهمها" كرسي المعهد"، فالبدايات لم تكن مشجعة في المجلس الرئاسي الأسبوعي "لم أجد ذلك الحماس الذي كنت أنتظر" (93). وفي "باب الكرسي"، يفصّل الزهراني مشروعه الشخصي الذي كان طريقه الخاص بعد محاولات تهميشه وعدم الاستعانة به في مشاريع المعهد. وقد حققه من خلال إصدار سلسلة "مئة كتاب وكتاب"، وتنظيم ندوات فكرية في المعهد، وفي غير عاصمة عربية، هدفها الإسهام في تنمية الفكر النقدي العربي، وإقامة فعاليات تكريمية لباحثين ومفكرين في فرنسا (إدغار موران) أو في بلادهم (عبد الله العروي، والمؤرخ التونسي هشام جعيط...). وسعى إلى تأمين شراكة مع جهة ثقافية تضمن له تمويلًا للكرسي وكانت "مؤسسة الدراسات العربية المعاصرة" لمالكها ورئيسها الباحث محمد شحرور. هذا على الرغم من السعي "لتعطيل أول مشروع للمدير العام أو إلغائه" (101)، وكان حلفٌ زعيمته "المديرة البلاستيكية، الصلفة التسلطية" والمدعومة من رئيس الوزراء إيمانويل فالس. فهي قاومت مشروع الكرسي "بانتظار تدبر علاقة شراكة فعالة مع جهة جامعية فرنسية" (106)، ورفضت مشروع الكتب، كما كان هنالك تحفظ من البقية على الشراكة مع "جهات عربية لا تخضع للقوانين الفرنسية"، وعلى أن الكرسي سيشتت الطاقات والجهود. تمثّل الزهراني هذه المرة "منطق الحسم" لا "منطق التوفيق". وهكذا حلّق كرسي المعهد عاليًا مع رموز مهمة من الوسط الثقافي العربي شاركت فيه، وإقبال أكبر من التوقع للجمهور، وتغطية إعلامية في الخارج أكثر من الداخل. ولم يغفل الزهراني في حديثه مشاق العمل مع العرب أيضًا، ما ألحق الفشل بمشاريع أخرى.




لقد حقق المعهد منذ تأسيسه كثيرًا من أهدافه، مثل تطوير معرفة العالم العربي، وتشجيع المبادلات والتعاون بين فرنسا والعالم العربي في ميادين العلوم والتقنيات. لكنه لم يحقق الجزء المتعلق بالبحوث المعمقة حول لغته وقيمِه الثقافية والروحية، والتعاون في ميادين العلوم والتقنيات. ويحمّل المدير المسؤولية لرؤساء المعهد (يختارهم الإليزيه)، فالسلطة التنفيذية العليا في يدهم. كما يعلن استغرابه من أن جلّ رؤساء المعهد لا يتقنون العربية، وليست لهم دراية معمقة بتاريخنا وثقافتنا، خلافًا لكبار المستعربين الفرنسيين، أو العرب المتفرنسين. ولكنه لا ينسى مسؤولية الطرف العربي في كل تقصير، بسبب عدم التزام بعض الدول بدفع حصتها، ثم توقف الجميع عن الدفع.
وفي الباب الأخير- "البشر"- يميل الزهراني لكتابة تجربته مع شخصيات عمل معها في المعهد. ويحلل مواقف جاك لانغ من إدمان العمل والأضواء، وليلى شهيد "نضال متصل.. ودون أمل"، ويعدهما كوكبين يعكسان الضوء الذي يصلهما من خارج ما، وسائل الإعلام قبل غيرها. أما النجمان الحقيقيان فهما رشيد القرشي، المبدع الفخور بذاته والمثقل بذاكرته، ورشدي راشد، الذي يشع كنجم بعيد قد لا تصل أضواؤه لكثيرين، لكن آثاره الكثيرة موجودة في كل مكان، وستظل تسهم بقوة في إنارة طرقات الفكر العميق والعلم الجاد.
إن كان الزهراني وعد بكتابة سردية حرة قادمة فقد يجد القارئ في هذا الكتاب بذورها؛ "لقد حلّق الصقر المرقّش بكامل طاقته فوق الواقع ووقائعه ليهوي على ما يريد".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.